ينتمي محمد خدّة إلى جيل الرواد في الحركة التشكيليّة الجزائريّة، مّمن برزوا منذ منتصف الخمسينات، وعملوا على التأسيس لفن وطني متحرّر من التبعيّة للأنماط الغربية التي كانت رائجة خلال الفترة الاستعمارية. هنا جولة في مسيرة ونتاج هذا المبدع المؤسّس الذي أقيم له معرض استعادي، في الذكرى الخامسة لرحيله. إحتفلت الاوساط الفنية المغاربية والعربيّة أخيراً بالذكرى الخامسة لرحيل الفنان الجزائري محمد خدّة، أحد أبرز أقطاب الحركة التشكيلية الحديثة في المغرب العربي. واستضاف معهد العالم العربي في باريس، معرضاً استعادياً ضخماً ضم أهم أعماله، منذ "المرحلة الثورية" الأولى في الخمسينات وبداية الستينات، مروراً ب "المرحلة الثانية" التي ناضل خلالها من أجل التأسيس لفن تشكيلي جزائري "يتجاوز حدود التشخيصية الساذجة"... وانتهاءً بأعمال "المرحلة الثالثة" التي اشتغل خلالها على الحروفية العربية. ولد خدّة سنة 1930 في مدينة مستغانم، على الساحل الغربي للجزائر. وهاجر إلى باريس، سنة 1952، حيث اشتغل في العمل المطبعي نهاراً، وتابع الدروس الليليّة في أكاديمية "غراند شومييل" للفنون التشكيلية. وخلال تلك الفترة، انخرط الفنّان الشاب في صفوف حركة التحرر الجزائرية، وسمح له ذلك بالتعرف إلى بعض أبرز المثقفين والفنانين الجزائريين، أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب والتشكيلي الشهير أمحمد إسياخم... وفي أواخر سنة 1961 نظم خدّة أول معرض فردي له، بعنوان "السلم الذي يجب ان نربحه" La Paixa gaquel ، وضمنه العديد من لوحاته ذات التوجه الوطني المعادي للاستعمار، وأشهرها "المظاهرة" و"بلاد القبائل". وتميزت تلك الاعمال، إضافة إلى ذلك التوجه الوطني، بحس شاعري مرهف تعبّر عنه بوضوح عناوين اللوحات "بوح الاشجار"، "كتابة الزبد"، "كلمات الحجارة"، "صدى الريح".... وقدّم كاتب ياسين تلك الأعمال وقتها معتبراً أن "لا تناقض في لوحاته بين الثورية والشاعرية. فالشعر هو الثورة في أصفى حالاتها، والشاعر خير من يجسد حركية الثورة ويستشف بوادر الانفجار الوشيك...". في سنة 1963، أي بعيد الاستقلال، قرر محمد خدّة العودة نهائياً إلى بلاده، وعبّر عن رغبته الشديدة في "اعادة الاعتبار إلى جذور الثقافة الوطنية الجزائرية". وانصبّت أبحاثه، في هذا الشأن، على اتجاهين: الأول هو العمل على الخروج بالفن التشكيلي الجزائري من "التشخيصية الساذجة" التي كانت سائدة في تلك الفترة، وإدانة "الواقعية الانتهازية" لبعض الفنانين. وعلى الرغم من انتماءاته السياسية اليسارية، عبّر خدّة عن رفضه الدائم لتقديم التنازلات الفنية بدعوى "الالتزام" أو السقوط في "الفولكلورية السطحية"، كما انتقد بقسوة "التشبه الساذج بالفن الشعبي". ولم يمنع كلّ ذلك شاعر كبير مثل بشير حاج علي، الزعيم اليساري الذي جُنَّ تحت التعذيب في عهد الرئيس بومدين، من أن يقول عنه: "محمد خدّة خير من يغني أحلامنا ونضالاتنا...". إعتمد خدّة تلك الحقبة أسلوباً ذاتياً يقوم على رصد الحركة، والتقاط الومضة الفنية من مشاهدات آنية ومصادفات أعاد تشكيلها في لوحاته وفق آليات تختلف باختلاف الملابسات والظروف المعقدة المرافقة للولادة العسيرة لكل لوحة من لوحاته. وكان يقول: "ان اللوحة - أية لوحة - تتشكل ببطء وعفوية وبكثير من المعاناة، لكنها في نهاية الجهد ليست سوى تجسيد معين لامتزاج الالوان بالماء! ولمسة العبقرية التي يمكن أن يضيفها الفنان ويتميز بها تكمن في شحنة عاطفية قوية ومبهمة تدفع بالعمل الذي ينجزه بعيداً عن الاطار الضيق والمحدود للتشخيص...". أما الاتجاه الثاني الذي تركّزت عليه أبحاث محمد خدّة في مرحلته الأخيرة، فيتمثل في الاشتغال على أشكال الحرف العربي. صحيح أن ملامح هذا التوجّه كانت بدأت تبرز لديه منذ الستينات، لكنه لم يتبلور بشكل بارز وناضج إلا في أعمال الفترة الأخيرة 1986 - 1991. إذ كان الراحل من أوّل الفنّانين العرب الذين اشتغلوا على تيّار الحروفيّة، من خلال المدرسة التي أسّسها، وأطلق عليها اسم "مدرسة الاشارة". في لوحات مرحلته الأخيرة يظهر جليّاً افتتان خدّة "بسحر الحرف العربي وقدراته المتعددة على التشكيل. فدلالة الحرف لا تقتصر، لدى العرب، على الجانب الوظيفي الذي يتعامل مع هذا الحرف بوصفه اشارة لغوية متفقاً عليها، بل تتعداه إلى التعبير التشكيلي القائم بحدّ ذاته". حول هذه النظرة كانت تتمحور همومه الجماليّة وأبحاثه واجتهاداته. وكان يردّ سبب هذه الديناميّة التعبيريّة إلى "خصوصيّة العلاقة بين الخطّ والكتابة في الثقافة العربية منذ القدم...". إلا أن اشتغال محمد خدّة على الحرف العربي، لا يعني أنه اختار الحروفية التقليدية منهجاً وغاية. فالحروف في أعماله اشارات مدغمة ومتداخلة، لم تكن مقروءة بالمعنى الأوّلي للكلمة... ولا بدّ للمتلقّي أن يبحث عن الدلالة التشكيلية خارج السياق اللغوي المباشر. فما تركه لنا هذا الفنّان الرائد - كما تكشف السنوات التي تفصلنا عن رحيله - ليس سوى طلاسم عابرة وبصمات دامية على جدار العالم.