مؤنس الرزّاز: هزّ قناعات راسخة وفاة إميل حبيبي مناسبة حزينة للمطالبة بأبجدية الحريّة، بأبسط حقوق المبدع، لا بل الانسان، أقصد حق الاختلاف. كان هذا الروائي عصياً على الارهاب الفكري المألوف والسائد، فطرح مواقفه الاشكالية من اسرائيل ومن فن الرواية. وقفنا معه في رحلة الكشف والاكتشاف على صعيد الابداع الروائي، لكننا اختلفنا معه في مواقفه الأخيرة من اسرائيل. ولأن بلاد الضاد لا تعرف معنى الاختلاف، فقد رجمه بعضنا بأيسر تهم تاريخنا، أي الخيانة العظمى، فردّ عليهم بعد الموت حين طلب أن تكتب على قبره عبارة: "باق في حيفا". وإذا كان هذا رده علينا، نحن الذين حظرنا حق الاختلاف وحرّمناه، فإنه رد علينا قبل ذلك بروايات تسعى إلى تحرير المخيلة المقيدة من قانون جاذبية المألوف الأدبي. هكذا فاجأتنا رواية "المتشائل"، وما سبقها وما تبعها عموماً، إذ هزّ حبيبي قناعات كانت راسخة لا تقبل النقاش على صعيد الابداع الروائي. ومن قبره الحيفاوي سيظلّ يأتينا صوت إميل حبيبي، داعياً إيّانا إلى الاكتشاف والانفتاح والحوار. والاحتكام إلى المخيّلة، والتجرّؤ على ارتياد الدروب الجديدة، مهما كان حجم المخاطرة. فإلى متى يظلّ "الابداع" مرادفاً ل "البدعة" في بلاد الضاد؟! رسمي أبو علي: مواجهة يوميّة مع العدوّ بوفاة إميل حبيبي تخلو الساحة الأدبية الفلسطينية من أحد الكتّاب الذين كانوا الأكثر أهمية، والأكثر شهرة. أما الآخران فهما غسان كنفاني الذي سقط في أوائل السبعينات، وجبرا ابراهيم جبرا الذي غيّبه الموت قبل حوالي سنة. والثلاثة، في رأيي، تنويع على نغم واحد، أو جرح واحد هو الجرح الفلسطيني العميق النازف منذ أواسط هذا القرن. أما غسان كنفاني فكان مشروعاً كتابياً لم يكتمل، وأصواتاً متعددة لم يتح لها الوقت الكافي لتتمازج وتتحد لتصب في إناء واحد، وان كان أعطى أعمالاً بارزة مثل "أم سعد"، وعدداً من الروايات التجريبية التي كان خلالها لا يزال يبحث عن صوته الأشد حميمية ومعانقة للقدر الفلسطيني التراجيدي. جبرا ابراهيم جبرا ظل مرتبطاً بجذره الفلسطيني في القدس وبيت لحم، وظل هذا الجذر - الحلم يشده على الدوام حتى عاد للظهور في روايته الأهم "البحث عن وليد مسعود". أما في أعماله الأخرى فإن فلسطينية جبرا تتجلى على نحو روحي تذكّرنا بما كتبه إدوارد سعيد عن سيكولوجية المنفى وانعكاساتها النفسية والروحية على المنفيّ. أما إميل حبيبي فيتميز عن كنفاني وجبرا في أنه ظل في الوطن، وفي مواجهة يومية ومباشرة مع العدو. ويتميز أيضاً في أنه عرف هذا العدو - الخصم معرفة مباشرة، لا مستبطنة أو متخيلة. وهنا يمكن المجازفة بالقول إن جذور النظرة الساخرة أو "المتشائلة" تكمن بالضبط في تفاصيل المواجهة اليومية، وانعكاساتها على النزعة المقاومة. أضف إلى ذلك أنه متشرّب بالروح الفلسطينية كما تتجلى في الموروث الشعبي و"الخُرّيفيات"، والحكايات المتوارثة، ومنها أخذ عنوان عمله الأخير "خرافية سرايا بنت الغول". ويتضح أيضاً من خلال أعماله أنه مطلع على التراث العربي اطلاعاً عميقاً، كما يمكن أن نلمح التأثير الواضح للأدب الأنغلو - ساكسوني على كتاباته عموماً. وهذا الملمح موجود أيضاً لدى جبرا ابراهيم جبرا . ويقال إن الأدب الفلسطيني عموماً لم يرتق حتى الآن إلى مستوى التراجيديا الفلسطينية، وإن الأعمال المعبّرة عن هذه التراجيديا المديدة لم تظهر بعد... ولسنا نعرف إذا كان هذا الرأي صحيحاً، أم أنه رأي نظري يتوخى الطموح، أم أنه يصدر عن نية سيئة، لكننا نعرف أن هذه التراجيديا، في مستواها الفني الرفيع، لم تكن قط بعيدة عن أعمال كتّابنا الكبار، وأولهم، بلا شك، فقيدنا إميل حبيبي. يوسف القعيد: ينظر في أعماقه ويكتب إستفدت من تجربة إميل حبيبي الأدبية افادة بلا حدود. فهو كتب الرواية التراثية بمهارة واقتدار، وان كان جمال الغيطاني سبقه في تأسيس هذا المشروع. إلا أنه أضاف لمسة الكوميديا السوداء، أو الضحك الباكي في الكتابة. وعندما نشر رجاء النقاش في روايات الهلال سنة 1968 "سداسية الايام الستة" لأبي سلام الذي عرفناه فيما بعد باسم إميل حبيبي، شكّلت هذه الرواية القصيرة فتحاً أدبياً جديداً، تبعته أعمال ك "المتشائل" و"لكع بن لكع" و"خرافيّة سرايا بنت الغول". وفي كل هذه الاعمال أسّس مشروعه الخاص في كتابة نص روائي عربي لا يدانيه فيه أحد. وعندما قابلته بعد ذلك في القاهرة وجدت طريقته في الحكي قريبة جداً من كتابته. فأدركت أنني أمام فنان أصيل، ينظر في أعماقه ويكتب. كما أنه، إضافة إلى مسيحيته الشرقية وشيوعيته الاصيلة، ارتبط بالتراث العربي - الاسلامي ارتباطاً حميماً، وعرف كيف يستفيد ويتعلم منه ويؤثر فيه أيضاً. لكني على الرغم من كل هذا الاعجاب الأدبي، رفضت بلا هوادة مواقفه السياسيّة الأخيرة. رفضت دعوته إلى "فلسطنة" القضية الفلسطينية، لأن في ذلك شق الصف العربي الملتف حول فلسطين. كان يقول إن العرب أخذوا القضية الفلسطينية 40 عاماً، ولم يفعلوا شيئاً، فليتركوها الآن لأصحابها... ونسي أن ثورة تموز يوليو المصرية خرجت من رحم القضية الفلسطينية نفسها! وكنت أيضاً بين الذين شعروا بالانزعاج عندما قبل أن يصافح الارهابي اسحاق شامير الذي سلّمه "جائزة اسرائيل". وراعني أن أسمعه يبدي سعادته بالجائزة، باعتبارها تساويه بالاسرائيليين! ورفضت من دون حدود اصراره التطبيعي بين الجلاد والضحية. وكان آخر اتصال غير مباشر به، عندما كلّمني محمد صبيح سفير فلسطين في جامعة الدول العربية يطلب مني قصة لمجلته "مشارف". طلبت من صبيح أن يرسل لي نسخة من المجلة، وعندما أرسل لي العدد الأخير احترت: أين تنتهي اسرائيل واين تبدأ فلسطين في هذه المجلة؟... رحمه الله رحمة واسعة. رشيد الضعيف: هديّة ثمينة لم أتابع أبداً سيرة إميل حبيبي عامة، ولا سيرته السياسية بشكل خاص. لا أعرفه إلا روائياً. أعرفه من خلال "المتشائل" خصوصاً، أول عمل قرأته له. أذكر أنني قرأت الرواية وكانت الرايات وقتها لفلسطين، وأذكر أنها كانت هدية ثمينة من الأرض - الحلم، فقرأتها والرفاق والاصحاب، ورددناها بصوت عال، كما كنا نقرأ قصائد محمود درويش ورفاقه شعراء الأرض المحتلة. جاءتنا يومها رواية عربية، عن هموم ومآسٍ عربية، من أرض عربية - عربية بشكل خاص، لأن حالتها كسليبة كان يضاعف من عربيتها إلى حدّ أنها باتت، في مكان ما من لاوعينا، منبعاً لكل ما هو عربي، ومقياساً له. وكان آخر ما قرأت له "سرايا بنت الغول"، وهي الكتاب الوحيد الذي كتبت كلمة عنه ونشرتها. إبراهيم عبد المجيد : حياة غير حياتنا على الرغم من بعض المواقف التي طالعنا بها إميل حبيبي في السنوات الأخيرة، لم أستطع أن أتخلّص من الاحساس القديم الذي غمرني حين قرأت "سداسية الأيّام الستة" بعد الهزيمة... في ذلك الوقت، جاء هذا العمل واحة من التفاؤل والامل، وسط صحراء الحزن التي كانت تحاصرنا، والتي كانت آثارها واضحة في نصّ الأديب الفلسطيني الراحل. وظل هذا الاحساس ينتابني لاحقاً كلّما قرأت لحبيبي، من "الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل" إلى "خرافيّة سرايا بنت الغول" مروراً ب "أخطية" أو بالحوارات الصحافيّة، أو ببعض مقالاته الذي كنت أقع عليه مصادفة، هنا أو هناك. وألتقيه في القاهرة مراراً، فكنت أطالعه بالحبّ القديم نفسه. لم أعاتبه أبداً، ولم أفتح معه نقاشاً من أي نوع في السنوات الأخيرة، ولم أعبّر له سوى عن اعجابي الشديد بفنه. كنت أعرف أنه يعيش حياة غير حياتنا، فهو في قلب المجتمع الاسرائيلي، ويصمد كل هذا الصمود. فهو إذاً جدير بالتحية، فهناك من هو بعيد جداً عن المجتمع الاسرائيلي، ولم يصمد يوماً واحداً. إميل حبيبي حالة فنيّة وأدبيّة قائمة بذاتها. فهو متفرد في الابداع: أعماله من أجمل التجارب التي زاوجت بين التراث والمعاصرة، وقلمه من أبلغ الاقلام الساخرة، وهو من أرشق المتلاعبين باللغة حوّلها من سطور مرصوصة إلى مقطوعات موسيقية فاتنة. إنّه واحد من التجريبيين الكبار في فن الرواية العربية، وواحد من المناضلين الكبار في فلسطين العربية. ووفاته خسارة كبيرة لكن من الذي يستطيع الاعتراض على الموت. فاطمة المحسن: من دون مصادره أو مزايدة "آخرون... هؤلاء أنا. الصحف لا تسهو علي... فكيف تزعم أنك لم تسمع بي"، هكذا يكتب صاحب "المتشائل" على لسان بطله سعيد. كان إميل حبيبي هو "الآخر" في المشهد الفلسطيني الناقص أبداً، في الأمس واليوم وغداً. فكل منا يرى الفلسطيني مثلما يشتهي. يشكله بعجينة المخيلة لا بصلصال الواقع. والأديب الراحل الذي أراد ان يدخل مسرح الحياة السياسية والادبية لاعباً يقلب أحجار الواقع بيديه وبمعاركة غربته، كان يكتشف في كل مرة أن لعبة الوهم الملحاحة تناديه لكي يدخل الصورة العربية المعدة سلفاً، من دون هوامش وزوائد واستئنافات. لا تقبل "المحبة العربية" بأقل من عالم الشهادة والغيب، وترفض أن ترى الضحية بغير هذا المرأى. هذا ما تفرضه الجماهير العربية الهادرة من المحيط إلى الخليج، تلك التي تحمل أقفاص القول الفلسطيني على أكتافها، وتدلل بلابله المغرّدة وتزين أجنحته بألوان الطواويس. إميل حبيبي ربما بين قلة قليلة لم تنافق لهذه الجماهير، ولم تغذها يوماً بالأكاذيب. هل كان إميل حبيبي زائداً في الكنيست الاسرائيلي؟ هل كان حلية في جيد ديموقراطية دايان وغولدا مائير؟ المؤكّد أنّه كان بعيداً عنا، في ذلك الركن من العالم الذي احتوته غياهب الاحتلال حتى نسينا صورة أهله. محمد البكري الذي جال العالم بمونودراما مأخوذة عن "المتشائل"، كان يردد: نحن فلسطينيّو الپ48 مختلفون، لا يمكن أن تفهمونا، كفوا عن رؤيتنا بمنظاركم. واليوم سيبدأ معظم المشاركين في رثاء إميل حبيبي، من اللازمة نفسها:"أنا أختلف معه سياسياً، ولكنّني سأرثيه". وهذا الاعتذار في حقيقته اعتذار مصادرة، كأن الاتفاق شرط القبول! إن كان لحبيبي من انجاز يدرج اسمه في قائمة المهمين عربياً، فهو عمل روائي كان هو الادانة الحقيقية للوجود الاسرائيلي برمته، ادانة ابداعية بكل ما تحويه الكلمة من أبعاد جمالية. فالذين أرادوا أن يجدوا لهم هامشاً في تلك المعادلة الصعبة حد الموت، معادلة فلسطين واسرائيل، كانوا يحملون أقنعتهم ويلعبون بها على مسرح الحياة العربية. واميل حبيبي كان مقاتلاً من دون أقنعة، ولا أدوار. فما أحوجنا إليه، مهما اختلفنا معه، كما هو. من دون أن نصادره، أو نزايد عليه. سمير سعد : سطوة اليأس على الحنين؟ سريعاً أزهر لوز "سعيد ابي النحس المتشائل" في الكتابة الروائية العربية، بطعمه المرّ الخاص المعجون بنكهة أرض لم يبارحها لا بالجغرافيا ولا بالتاريخ، ولا بالذاكرة التي تغالب على تلوينها حنين جارف ويأس كسير. فكتب نوعاً خاصاً جداً من الشوق الذي لا يعرفه إلا من يكابده - على حد انتباه احد البيوت الشعرية المعروفة. فهل كتب إميل حبيبي شوقه المأسوي في أحشاء وضعية من الالتباس، إلتماساً لوضوح ما؟ على أي حال، تبقى الوقائع الغريبة لاختفاء ذاك المتشائل نصاً جديداً لحضور فن روائي توهج في الإحتراق بنارين: نار ضوضاء أهلية لا تسمع غير صوتها، ونار نازية اسرائيل كان آخر مسرح لها أرضنا اللبنانية. فهل رأى إميل حبيبي بعينيه المودّعتين سطوة اليأس على الحنين الذي لم يفض أصلاً إلى غير الوراء والخلف؟ بإزاء السماوات الطيارة الاسرائيلية بامتياز، والتي لا تقتات من غير انتقامها من الأرض، وتستسقي الاساطير المضادة، سعى المتشائل بسخرية حبيبة إلى تحرير مخيلة الابداع الانساني من قيد الميثولوجيات وسحرها الذي ما زال يزين للناس التنقيب عن الهوية في أصل الخليقة. وعندما انتبه إلى تهافت الاعتصام بتفاؤل محض الايديولوجيا وسحرها الخلاّب الآخر، اكتملت غرائبية وقائع الاختفاء، ومأسوية وقعها على هذا الانسان المبدع الذي حلّق بأجنحة مختلفة. يحيى يخلف: مالئ الدنيا وشاغل الناس رحل إميل حبيبي الذي ينتمي إلى جيل العمالقة. رحل مالئ الدنيا وشاغل الناس، رحل ولكنه بقي في حيفا. كان أديباً مبدعاً، وكان ينتمي إلى تيار الواقعية السياسية في مواقفه، لذلك تعرض إلى كثير من النقد القاسي، وتعرض إلى نقد ظالم تعامل مع مواقفه السياسية لا مع أعماله الأدبية. كان هناك من تربص به، وبحث عن فجوة لا لمحاورته وإنما للحط من مكانته كمبدع عملاق شغل موقعاً بارزاً في لوحة الأدب العربي المعاصر. حتى أن أحدهم بنى على خطأ مطبعي دراسة نقدية اتهم فيها اميل حبيبي بأنه معاد للعروبة! لقد تحلّى إميل حبيبي بالجرأة في مواقفه، اقتناعاً منه بأنه يقوم بهجوم لتوسيع دائرة المؤيدين لحقوق شعبه في المجتمع الاسرائيلي. لكنه في مقالته الأخيرة التي نشرها في مجلة "مشارف" التي تصدر في حيفا والقدس أعاد النظر في تلك القناعة. أعلن خيبته من امكانية استمالة الكتاب الاسرائيليين أو إلزامهم القيام بواجبهم في التضامن مع شعبنا العربي الفلسطيني، وذلك حين وجه نقداً شديداً للكاتب الاسرائيلي يزهار سميلانسكي صاحب رواية "خربة خزعة" التي عرّت ممارسات القوات الاسرائيلية في حرب 1948. كان إميل حبيبي يرى في يزهار سميلانسكي صديقاً يمكن كسبه لتأييد حقوق الشعب الفلسطيني. لكنه في مقالته الأخيرة شكّك في نقاء الضمير الذي كان يراهن عليه لدى سميلانسكي وغيره من الكتاب، متّهماً هذا الأخير بأنه طعن نفسه طعنة ذاتية انتحارية حين أتهم الشعب الفلسطيني بأنه من "أكلة لحوم البشر" بعد العمليات الأخيرة في القدس وتل أبيب وعسقلان. كان الراحل فلسطينياً مخلصاً لشعبه، وكان وطنياً صادقاً، مهما اختلفنا مع جرأته ومع اندفاعاته. وسيظل حبيبي سنديانة جذعها في السماء، وجذورها تضرب في أعماق الأرض، ولذلك طلب في وصيته أن يدفن في حيفا، وأن يكتب على شاهدة قبره: "باق في حيفا". عبدالوهاب البيّاتي: لغة صقلتها المعارك عندما بلغني نبأ رحيل الكاتب الكبير إميل حبيبي تذكرت أول لقاء بيننا، في منتصف الثمانينات. إذ فوجئت ذات مساء برجل يتقدم مني في أشهر شوارع مدريد، ويقدم نفسه بأنه إميل حبيبي، وبأنه أحد قرائي، وبخاصة ديوان "أباريق مهشمة". ولم أكن قرأت آنذاك إلا كتاباته السياسية التي كانت تصلني، في الستينات، عن طريق توفيق زيّاد حين كان يدرس في مدرسة كوادر الأحزاب الشيوعية في موسكو. ثم دعيت إلى "معرض القاهرة الدولي للكتاب" سنة 1994، فالتقيت هناك إميل حبيبي مع توفيق زياد وعدد من الأدباء العرب. وأذكر أنه سألني ذات صباح ونحن نتناول الإفطار، إن كنت قرأت له شيئاً، وأراد أن يعرف رأيي في رواياته. قلت له اعجابي بأسلوبه الروائي. فنظر إليّ باستنكار: هذا هو الشيء الوحيد الذي أعجبك في أعمالي؟ قلت: كلا، فأنا عنيت أنك كامل الأوصاف، وكنت أمزح، وهذه العبارة هي تتويج لكامل الأوصاف. فضحك ضحكة كبيرة، وطلب كوباً من عصير الليمون. ودار بنا الحديث، فتناولت بالتفصيل "المتشائل" و"أخطية"، وهذا كل ما قرأته له حتى الآن. عندما تقرأ حبيبي تحس أن عالمه الروائي ولد من اللمسة الأولى، وهو يشبه في ذلك شعراء التروبادور الذين يرتجلون أجمل القصائد ويغنونها في لحظات. هناك تعادل وتكامل بين أعماله الروائية وشخصيته التي ليست ذاته وحسب، بل هي ذات مجتمع وشعب. وهناك انصهار لافت بين عالمه الروائي والموروث الشعبي الفلسطيني والعربي. كما أن له أسلوباً مميزاً، ولغة رشيقة صقلتهما المعارك الأدبية والسياسية، وحوّلتها سبائك رقيقة من ذهب لا يحتاج القارئ إلى كبير عناء للغوص في استعاراتها ومجازاتها، فهي لغة الحقيقة والمجاز والاستعارة معاً. وحبيبي لم يبقَ في رواياته عند حدود العموميات، بل تناول الظرفي والمتحول والمتغير. فمثله مثل من يجمع غبار النجوم، أو ذهب الكتابة، بعد أن تكون الكتابة احترقت ولم يبقَ منها إلا الصدى، أي ما تشير إليه من معان بعيدة ورموز. خيري شلبي: تحديث الرواية يقف إميل حبيبي في طليعة الروائيين المحدثين الذين عملوا جاهدين على تطوير الرواية العربية. ومن حسن حظنا أنه يُحسب على جيل الستينات، صاحب الدور الأبرز في تحديث الرواية العربية، لكونه بدأ الكتابة متأخراً. ومن الواضح أن اشتغاله في السياسة هو الذي أخّر وصوله إلى الأدب سنوات طويلة. فليس من السهولة في شيء أن يكون مواطن عربي فلسطيني عضواً في الكنيست الاسرائيلي عن أهل بلده المحتل. كان أوّل عهدنا به من خلال "سداسية الايام الستة". رواية قصيرة، ولكنها أشبه بالحقنة أو البرشامة التي تحتوي على الكثير من العناصر المفيدة. ويجب أن نذكر هنا لرجاء النقاش فضله في تعريفنا بهذا الروائي الكبير، إذ إنّه قام بنشر العمل ضمن سلسلة "روايات الهلال"، أيام كان رئيس تحريرها، في عدد مشترك مع كاتب فرنسي لا أذكر اسمه، وكان عنوان روايته "صمت البحر". والروايتان تنتميان إلى أدب المقاومة. وبدا لكثيرين منذ اللحظة الأولى أن إميل حبيبي كاتب متميز، متمكّن من أدواته، قارىء جيد للتراث، يحمل مشروعاً طموحاً للخروج بالرواية العربية من دائرة التقليد الكلاسيكيّة. وإذا كان ل "السداسية" فضل تعريفنا بكاتب حمل اضافة حقيقيّة للرواية العربية التي كانت آنذاك محصورة بين نجيب محفوظ في القاهرة وحنا مينة في سورية، فإن "المتشائل" هي التي بلورت شخصية حبيبي الروائية. فهي رواية شديدة التفرد والغنى، تنطوي شخصيّتها المحوريّة على تناقضات ومفارقات واضحة، كما يشير اسم البطل الذي يمزج بين التفاؤل والتشاؤم. وهذه الشخصيّة تقابلها تركيبة درامية، فأمامنا شخصية عربية كأنها طالعة من ألف ليلة وليلة والسير الشعبية، نرى في كلامها وأفكارها وسلوكها مدينتي البصرة والكوفة بما لهاتين المدينتين من دلالات نهضة علميّة بعيدة. تكمن عبقرية حبيبي الفذة في خلقه واقعاً موازياً للتاريخ العربي، يجمع فيه كل العناصر التي تثير الحمية والنخوة. كما انه استطاع أن يجمع من هذه العناصر الدرامية ما يشبه البصقات الموجّهة إلى وجوهنا جميعاً. والأرجح أن رواية "المتشائل" لم تتكرر عند إميل حبيبي. وربّما كان اشتغاله في السياسة هو الذي أحبط موهبته. كما أن الواقع العربي المتدني الذي حكم على القضية الفلسطينية بالموت، كان له دخل كبير في التعتيم على المخيلة العربية. بهاء طاهر: رحابة صدر عرفناه ككاتب قبل ان اعرفه كإنسان، مع "السداسية" و"المتشائل"، ووجدنا فيه نفساً جديداً من الأرض المحتلة التي كانت تقتصر معرفتنا بابداعها على الشعراء. كان كاتباً موهوباً، وقيّض لي أن ألتقيه في مؤتمرات ومدن كثيرة في العالم، فوجدت فيه انسانا بالغ العذوبة والرقة، له حضور طاغٍ ويمتاز برحابة الصدر ويعترف للآخرين بحق الاختلاف معه. وكنت من هؤلاء، إذ اختلفنا حول القضية الفلسطينية، لكن هذا الاختلاف لم يفسد علاقاتنا الانسانية. لذلك أصابتني دهشة من الاتهامات المتبادلة بينه وبين بعض الشعراء والكتّاب. فقد لا أعتقد أن أي اختلاف سياسي يؤدي إلى انكار ما اسهم به إميل حبيبي في الأدب والعربي. كان اسهاماً بارزاً ومتميزاً بجميع المعايير. أما الانسان، فستظل فجيعتي به جرحاً نازفاً يضاف إلى جراح كثيرة أخرى، أثارها رحيل أدباء كبار مثل يحيى الطاهر وصلاح عبد الصبور. محمود شقير: لو أنّنا كنّا أكثر تسامحاً حين دخلنا مستشفى العائلة المقدسة في الناصرة لزيارته، قبل ثلاثين ساعة من موته، كان واضحاً من ابتسامته الواهنة أنه يغالب آلاماً شديدة. كنا نعرف، من تقديرات الأطباء التي لم يكن يعلم بها، أنه على قاب قوسين أو أدنى من الموت. إبتساماتنا الحزينة كانت تفضح الموقف، لكنه كان يتجاهل ذلك، على الرغم من حدسه بالنهاية المقتربة. وبدا كما لو أنه يتأهب للذهاب معنا للتمشي في شوارع القدس القديمة، أو لحضور حفلة موسيقية في واحد من قصور الفن في موسكو، أو لتناول العشاء في أحد مطاعم براغ. راح نعيم الأشهب يتحدث على مسمع منه، عن أول لقاء حزبي لهما في القدس، حين جاءه إميل إليه متخفياً عن عيون رجال الأمن الاسرائيليين في الأسابيع الأولى التي أعقبت حرب حزيران 1967. وكان إميل يؤكد على صحة الرواية بكلمات قليلة ينتزعها انتزاعاً من داخله، ودونما حاجة لاجهاد نفسه في التذكر، كأن هذا الأمر حدث البارحة. وكنت أشير إلى آخر ندوة شارك فيها في مركز الفن الشعبي في مدينة البيرة، فأكد لي أن سهام داود، زميلته في مجلة "مشارف" تعمل الآن على مراجعة مواد الندوة لنشرها في العدد المقبل من المجلة. ثم لم يلبث أن زفّ إلينا بشرى عزيزة على قلبه، هي أن الشاعر محمود درويش في الطريق إليه من عمان. كانت الزيارة مقرّرة منذ فترة، بعد الحصول على إذن السلطات الاسرائيلية، للمشاركة في فيلم وثائقي عن تجربة حبيبي الأدبيّة والانسانيّة. فيما كانت الجنازة تقطع شارع توفيق زياد في قلب الناصرة، تدفّقت في رأسي الصور والمحطّات والذكريات. الندوات العديدة التي كان إميل حبيبي يضفي عليها جوّاً من البهجة. زيارتنا إلى موسكو سنة 1987 للاحتفال بذكرى صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفياتي آنذاك، وكنا يومها منجذبين، أيما انجذاب، إلى البيريسترويكا التي لم تعمر طويلاً. في تلك الفترة كان الحزبي الملتزم حبيبي بدأ يتحرر من تزمّته، ويفطن إلى أن مكانه الحقيقي هو في ميدان الابداع. الزوابع الهائجة التي ثارت في وجه إميل حبيبي، بعد موافقته على تسلم جائزة دولة اسرائيل للابداع. يومها وقف إميل موقفاً شجاعاً في الدفاع عن وجهة نظره. كان الرافضون لموقفه يرون في قبوله الجائزة تكريساً ل "التطبيع الثقافي" - هذا المفهوم الملتبس حتى اليوم! - وكان يرى فيه تكريساً للأدب الفلسطيني واعترافاً به. كما أن قبول الجائزة يقع في دائرة الواقعية السياسية التي ظل حتى لحظاته الأخيرة مؤمناً بها، لاقتناعه بأنها السبيل الممكن لتجنيب الشعب العربي الفلسطيني مزيداً من الويلات والنكبات، ولتمكينه من احراز حقه في تقرير المصير والاستقلال. الآن، ونحن نفتقد إميل حبيبي، أشعر أن بعضنا قسا عليه في السنوات الأخيرة، التي ذقنا - كلنا تقريباً - المرّ من ثمارها، وكان ينبغي علينا أن نكون اكثر تسامحاً وأكثر استعداداً لقبول الاجتهادات المخالفة التي كان يتبناها إميل حبيبي من دون حرج. لكن عزاءنا اليوم أن صاحب "المتشائل" ترك لنا زاداً ثقافياً ستنهل منه الأجيال المقبلة بشغف وفضول. إن أبا سلام بيننا، لم يغب عنا ولن يغيب.