"نحن الآن نسحب الأرض من تحت أقدام الشعب الفلسطيني وننتظر أن يتقبلوا هذا بهدوء، لكننا لا نوافق بأي حال أن يأتي شخص ما ويسحب الأرض من تحت أقدامنا". قائل هذه الكلمات هو يزهار سميلانسكي أو سامخ يزهار كما كان يعرف الروائي الإسرائيلي الذي رحل قبل أيام في إسرائيل عن 90 عاماً، في مقابلة له مع صحيفة معاريف في ربيع العام 1992، آخر أعوام الانتفاضة الأولى. ولم يكن هذا الموقف غريباً على سميلانسكي الذي ربما كان صوته الأكثر ارتفاعاً بين أدباء إسرائيل في نقده سياسة بلاده تجاه الفلسطينيين ليس خلال الانتفاضة الأولى فقط ولكن قبل ذلك بكثير، فانتقاداته تعود إلى العام 1948، وهو العام الذي تأسست فيه الدولة الإسرائيلية بعد حرب شارك فيها ضابطاً في قيادة الاستخبارات الإسرائيلية. وعلى رغم أن ما كتبه عن تلك الحرب تحديداً هو الذي صنع اسم سميلانسكي فإن البدايات الأدبية لأول كاتب إسرائيلي يولد في فلسطين ولد عام 1916 في كيبوتس هولدا تعود إلى العام 1938 حين نشر أولى رواياته التي حملت عنوان"إفرايم يعود إلى الصفصافة"تحت اسمه الأدبي الذي بقي ملازماً له طوال حياته. وعلى رغم ما في كلمات سميلانسكي من تعاطف ظاهري مع الفلسطينيين فإن هناك بعداً آخر فيها يركز على أن لإسرائيل حقاً في ذلك الجزء من أرض فلسطين الذي تحول إلى إسرائيل، وبعد حرب شارك فيها سميلانسكي شخصياً، وشغل عضوية الكنيست للدورات الأربع الأولى في حياة الدولة الصهيونية بصفته أديبها الكبير والمنشق عنها في الوقت نفسه، فالصراع على أرض فلسطين التاريخية في نظره صراع بين حقين: إسرائيلي وفلسطيني، وهو ما جعل صوته ناشزاً لدى الإسرائيليين من دون أن يلقى قبولاً لدى الفلسطينيين. وما قاله سميلانسكي في المقابلة المشار إليها سابقاً يكاد يكون ترجمة أمينة لأفكاره المبثوثة في أعماله الأدبية من روايات وقصص وكتابات نثرية أخرى، وهو ما جعل بعض قصصه ورواياته يتحول قضية تناقش في أرفع منبر سياسي في إسرائيل. ففي العام 1949 ناقش الكنيست في دورته الأولى قصة"الأسير"التي نشرها عام 1948 التي يتحدث فيها عن راعي أغنام فلسطيني تأسره دورية من الجنود الإسرائيليين تلتقي به وهم في طريقهم لاحتلال قرية فلسطينية يدافع عنها جنود مصريون. يعصب الجنود الإسرائيليون عيني الراعي ويقودونه إلى التحقيق ويبدأون في ممارسة أنواع شتى من الإذلال والإهانة في لحظة نشوة زائفة تعربد فيها قوة مجنونة على راع لا حول له ولا قدرة لديه حتى لفهم ما يجري حوله. وهو ما يستفز الراوي الذي يغرق في تداعيات حول القوة والضعف والبطولة والقتل والنصر والهزيمة، تدور كلها حول حقيقة ما يجري وفي صلبه. ففي صلب ذلك المشهد تكمن بذور سلوك إجرامي يجرد الجنود من بطولتهم ويحولهم مجرد قاطعي طريق. فقائد الدورية قرر، منذ البداية، ألا يعود خالي الوفاض :"يجب أن نقبض على أحد الرعاة، أو على الأقل على واحد من أولادهم، أو ربما على عدد منهم. يجب أن نقوم بعمل ما أو نحرق شيئاً ما". الراوي الذي يشاهد كل هذه التصرفات على يد رجال الدورية يسجلها ويحللها ويناقشها ويدينها. وتنتهي القصة بتعاطف معلن من الراوي الذي لا ينتقل إلى الجهر برأيه، ناهيك بالتدخل لوقف عربدة القوة. ويظل الراعي هو الضحية المعلنة والذريعة المشهورة لعدم الفعل من جانب الراوي. وفي العام 1949 نشر سميلانسكي رواية"خربة خزعة"التي أثارت ضجة أكبر من تلك التي أثارتها قصة"الأسير"فنوقشت في العام نفسه في الكنيست وكان سميلانسكي عضواً فيه. تدور الرواية حول دورية إسرائيلية تقتحم"خربة خزعة"، وهي قرية فلسطينية صغيرة في الجنوب، ويبدأ أفرادها بإخراج سكانها البسطاء منها. وفي حفلة عربدة مجنونة يبدأ رجال الدورية في تدمير القرية الخالية. ويغرق الراوي في تداعيات حول حق القوة في التدمير وحول المعنى الأخلاقي للنصر وحول الضعف الإنساني الذي يمثله سكان القرية الذين يستسلمون لقوة الدورية المعززة. لكنّ الراوي في النهاية يبتلع تعاطفه وتداعياته الإنسانية ولا يقوم إلا بدور الشاهد على عملية تدمير"خربة خزعة"وإفراغها من سكانها فلا يناله سوى فضل الشهادة على جريمة ارتكبت أمامه بدم بارد. تداخلت مهمة دورية يفترض أنها تقوم بپ"حرب استقلال"بمهمة عصابة من القتلة تمتلك القدرة على القتل وتفتقد ما عدا ذلك تماماً. وبترحيل سكان القرية إلى ما وراء الحدود، يفقد انتصار الدورية أي مجد ويتحول جريمة يكون الراوي شاهدها الصامت. وفكرة النصر المفتقر إلى المجد التي صاغها سميلانسكي في قصة"الأسير"ورواية"خربة خزعة"عاد فصاغها رواية ملحمية من جزءين في ألف صفحة تحت عنوان"أيام زكلاغ"التي تتخذ من حرب العام 1948 موضوعاً لها:"إن مقاتلي زكلاغ يشعرون أن هذا المكان الذي يقاتلون من أجله يكرههم، وأنه ليس مكانهم. لقد جعلهم يتذكرون فجأة أن هذا المكان خاص بالعرب". هذا ما يقوله أحد مقاتلي"حرب استقلال إسرائيل"في الرواية التي كرست سميلانسكي أكبر روائي إسرائيلي في جيله المعروف باسم جيل البالماخ، نسبة إلى قوة البالماخ الخاصة في الجيش الإسرائيلي والتي ضمت بعض أشهر الأسماء الأدبية في إسرائيل. هنا أيضاً يبرز سميلانسكي بصفته شخصية إشكالية، فمن المعروف أن جيل البالماخ كان مكرساً لكتابة أدب طليعي تتجلى فيه سمات البطل الإيجابي الذي يمثل النموذج في التضحية من أجل بناء الإنسان اليهودي الجديد. لكنّ أبطال سميلانسكي في واقع الأمر بشر عاديون يشعرون بالخوف من مواجهة الموت المتربص بهم، ويرفع بعض مقاتلي زكلاغ شعار"لا للموت"ويتساءلون عن معنى التضحية ومعنى الموت المجاني. خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان كان سميلانسكي يصارع المرض فلم تنقل عنه أي تصريحات حول الحرب الأخيرة التي أثارت تساؤلات لدى جنود إسرائيليين شاركوا فيها وقتلوا وارتكبوا المجازر ثم عادوا ليتحدثوا عن خوفهم في مواجهة الموت في لبنان، وهي هواجس كان أبطال سميلانسكي واجهوها في حرب إسرائيل الأولى.