قد نتفق مع إميل حبيبي في الرأي، أو نختلف معه حول بعض المواقف من هذا "العدوّ" الذي دعا الى "أنسنته"، لكن هناك شبه اجماع على أن صاحب "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" هو من أكبر الادباء العرب خلال النصف الثاني من هذا القرن. فالكاتب الفلسطيني الذي بقي في بلاده، وعايش الاحتلال الاسرائيلي بشراسته اليومية، تميز في السنوات الاخيرة بنبرته المشاغبة، المزعجة، التي كانت تأتي كل مرّة لتكسر الاجماع وتعيد النظر بالمسلمات والبديهيات، انطلاقاً من فلسفته "المتشائلة" القاضية ب "مقارنة السيّئ بالذي هو أسوأ منه"! بعد سقوط الجدران الايديولوجية، عاد حبيبي نهائياً الى الادب، "سراياه" كما يقول في حديث الى "الوسط"، يستعيد فيه بعض محطات "ذاكرته الخصبة" ومسيرته الحافلة، ويحدد نظرته الى بعض القضايا الادبية والسياسية الراهنة. ولد الكاتب الفلسطيني الكبير إميل حبيبي في مدينة حيفا عام 1922. هاجرت عائلته من بلدة شفا عمرو الى مدينة حيفا واستقرت فيها. وبعد أن نال شهادته الثانوية عام 1939، عمل في مصانع تكرير البترول في حيفا متابعاً في الوقت نفسه دراسة الهندسة البترولية بالمراسلة مع جامعة لندن. خلال الحرب العالمية الثانية، عمل مذيعاً في القسم العربي لمحطة الاذاعة الفلسطينية ومسؤولاً عن القسم الثقافي فيها. وعندما وضعت الحرب اوزارها، وتحديداً للعام 1945، استقال من عمله الصحافي، ليتفرغ للعمل السياسي في اطار الحزب الشيوعي الفلسطيني. وفي العام 1949 لعب دوراً هاماً في تحقيق الوحدة بين الشيوعيين الفلسطينيين واليهود في اطار الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ثم مثّل إميل حبيبي حزبه في الكنيست بين عامي 1952 و1972. وبعد ذلك استقال من النيابة البرلمانية ليتفرغ لأعماله الادبية، وليعمل في صحيفة "الاتحاد" الناطقة باللغة العربية التي نجح في اصدارها يومياً رغم العراقيل حتى عام 1983. وبعد انهيار المعسكر الشيوعي، استقال إميل حبيبي من جميع مناصبه الحزبية ليعتزل فيما بعد العمل السياسي نهائياً. وعلى الرغم من التزاماته الحزبية وكثرة انشغالاته السياسية، استطاع إميل حبيبي ان يضع جملة من الاعمال الروائية التي يجمع النقاد على انها من اروع واعمق ما عرفته المكتبة العربية خلال هذا القرن. وكانت أول رواية اصدرها هي: "سداسية الأيام الستة" وذلك عقب هزيمة 1967، ثم أصدر العام 9741 رائعته الشهيرة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" التي ابرزته كواحد من أقدر الروائيين العرب المعاصرين. وفي جميع الاعمال التي أعقبت "المتشائل"، مثل مسرحية "لكع بن لكع" 1980 و"أخطيه" 1985 و"خرافية سرايا بنت الغول" 1991، أثبت إميل حبيبي انه لاعب ماهر باللغة، وانه فنان موهوب وأصيل منغرس في تربة بلاده، ومسكون بتاريخها وتقاليدها وعاداتها وأمثالها الشعبية. واذا كانت أعمال إميل حبيبي نالت شهرة واسعة في جميع انحاء العالم العربي، وترجمت الى لغات كثيرة في العالم، فإن رواية "المتشائل" احتفظت من هذا النجاح بحصة الاسد. اذ ترجمت حتى الى اللغة العبرية، وقدّمها الفنان الفلسطيني محمد بكري على المسرح باللغتين العربية والعبرية، كما جال بها في مدن عربية وأوروبية عدّة. وتقديراً لنشاطه الفكري والابداعي، نال إميل حبيبي أوسمة وجوائز عدة أهمها "جائزة القدس" التي منحته إياها الدائرة الثقافية في منظمة التحرير خلال الاسبوع الثقافي الفلسطيني الذي استضافته القاهرة شتاء 1990، و"جائزة الدولة" في اسرائيل 1992. وقبول حبيبي هذه الجائزة التي تعتبر أرفع تقدير على مستوى الفنون والعلوم والآداب الاسرائيلية، اثار ضده غضب عدد كبير من المثقفين العرب والفلسطينيين. هوية مهددة بالفقدان وخلال جميع مراحل حياته، تميز إميل حبيبي بمرونة في المواقف، بصلابة في المبادئ، بتفانيه في النضال، بنقاء فكري نادر، وبصراحة واجه بسببها عدداً هائلاً من المتاعب والمصاعب. "الوسط" التقته في طنجة التي قصدها في مناسبة مشاركته في احتفالات تكريم الطيب صالح خلال "موسم أصيلة" المغربية. وكان معه هذا الحوار: تعكس أعمالك امتلاكاً رائعاً للغة، ومعرفة نادرة بالتراث. بودنا لو تحدثنا عن سنوات التكوين الاولى، وعن الكتب التي ساعدتك على امتلاك هذه الخصال الفنية واللغوية... - نحن نقول في أمثالنا الفلسطينية: "فلان لم يولد من الحائط". وفي الميثولوجيا الاغريقية يقال: "فلان لم يولد من فخذ جوبيتير". وعلى الرغم من ان كل مبدع يحاول ان يترك بصماته الخاصة على ثقافته الوطنية، لا يمكن له أن ينكر بأي حال من الاحوال انه نتاج لهذه الثقافة الوطنية التي يحاول ان يضيف اليها ما يساعدها على معانقة آفاق جديدة. كل ما استطعت ان اكتسبه من مميزات هو نتيجة لتجربتي في المواجهة المباشرة مع الجمهور عبر المنابر السياسية خصوصاً في مجال الخطابة. وتعلمت من خلال هذه التجربة التي استمرت سنوات طويلة ان الوسيلة المثلى لنقل رسالة الفنان او السياسي الى شعبه هي ما اسميه أنا شخصياً ب "الصحن الفولكلوري". وهذا "الصحن الفولكلوري" هو شبيه بطبق طعام متميز. هكذا انا اراه على أية حال. واكتشفت أن اللغة، بما فيها الفولكلور الخاص بها، هي احسن واثبت موصل للتجربة التراثية. تسألني: ما الذي أوصلني الى هذه الحقائق؟ وأجيبك على الفور: الحاجة. نعم الحاجة هي التي قادتني الى هذا الاكتشاف. وهذه الحاجة كانت حياتية بالدرجة الاولى، تتلخص في المقولة الهاملتية الشهيرة: "نكون او لا نكون". ان نظل شعباً فلسطينياً له ثقافته وتاريخه وتراثه واغانيه وامثاله الشعبية... او نضمحل ونتلاشى في غبار التاريخ الذي لا يرحم لا الأمم ولا الافراد. تلك كانت قضيتنا منذ ان اغتصبت ارضنا. وامرّ شيء واجهناه كفلسطينيين هو اننا لم نكن نمتلك الوسائل الكفيلة بالحفاظ على بقائنا. واعتقد ان لجوءنا الى الثقافة والى التراث كان يهدف الى الحفاظ على هويتنا المهددة بالفقدان. وحتى أكون صريحاً معك، اقول لك إنني لا استطيع أن اجيب عن هذا السؤال اجابة محددة ودقيقة. "المتشائل" كبطل سلبي هل تأثرت بكتّاب عالميين مثلاً؟ - انا نتاج تراثي بالدرجة الاولى، لكنني أيضاً نتاج عصري. لا يمكن ان تكون كاتباً حقيقياً الا اذا كنت مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهذين الامرين اي تراثك وثقافتك الوطنية وانجازات عصرك. واقدر ان اقول إني ملمّ الى حد ما بالاعمال الادبية الكبيرة التي عرفها هذا العصر، كما أنا ملمّ الى حد كبير بالتراث العربي الكلاسيكي. في مطلع شبابي كنت اطالع بشكل محموم كل ما يقع بين يدي من ابداعات. وبعد ذلك اقدر ان أقول اني عبرت صحراء شاسعة وذلك حين اخترت ان أخاطب شعبي عبر المنابر السياسية والحزبية. وأدّى بي الامر الى الانقطاع عن التطور الذي عرفه الادب العالمي. شيء واحد حافظت عليه، وأنا اجتاز هذه الصحراء السياسية ألا وهو قراءة التراث العربي. هذا امر لم استطع ان اتخلى عنه. وأظن أن هذا ما انقذني في ما بعد حين عدت الى الادب. أم لعلّي أفسر الامور على هذا النحو، كي اعزي نفسي قليلاً؟ ودعني أقل لك ان أثر المقامات مثلاً هو أشد وضوحاً في كتاباتي وعلى ادبي، من تأثير الروايات الغربية الشهيرة. قارنت تجربتك السياسية بعبور "صحراء". هل يعني ذلك انك نادم الآن على تلك المرحلة من حياتك؟ - يجب على الانسان ألا يندم على شيء فعله عن قناعة. والندم شيء غير طبيعي بل مقزز احياناً. وأنا أقول لك وبكل صراحة إني لست نادماً بالمرة على تجربتي السياسية، حتى وان كانت هذه التجربة عذبتني وارهقتني وكادت تدمرني على المستوى الابداعي. كان عليّ ان أضحي بملكة الابداع الادبي من أجل وطني وشعبي. ضحيت بما اسميه ب "سراياي" اي بحبي للادب عن وعي، وببرودة دم بالغة. وعلى أية حال حين أقارن بين ما فعلته انا في المجال السياسي والنضالي مع التضحيات الجسيمة التي قدمها بعض ابناء وبنات وطني أخجل وأجد نفسي عاجزاً عن التعبير. وفي روايتي الاخيرة "سرايا بنت الغول" ناقشت هذه القضية. ودعوت المبدع الى عدم التخلي عن "سراياه"، اي عن ابداعه، حتى لو أدى به الامر الى التخلي عن خدمة أسمى وأنبل القضايا السياسية والوطنية. ومع ذلك، حين أراجع الماضي، واراجع عموماً وضع ما يسمّونه ب "العالم الثالث"، أجد ان العمل السياسي ضرورة لا يمكن الفرار منها بأية حال من الاحوال. ان همومنا نحن الشعوب الفقيرة والمستعمرة بفتح الميم هموم كبيرة جداً. لذا لا يمكن للمثقف ان يستقيل، وان يهرب من ساحة المعركة. حين أبدعت عملك المهم "المتشائل" كنت أديباً ملتزماً. ومع ذلك نلاحظ أنك اخترت بطلاً سلبياً. هل تقصّدت هذا الاختيار؟ - حين كتبت "المتشائل" كنت "أصولياً سياسياً"، وكنت منشغلاً كل الانشغال بقضايا العلاقة بين الطليعة والجمهور الواسع. ومنذ البداية كنت أتضايق كثيراً من مقولة ستالين الشهيرة: "نحن الشيوعيين جبلنا من طينة خاصة". وفي العمل السياسي كنت أحاول - ولو لاشعورياً - أن أزيل الفوارق بين الطليعة وبين الجمهور الواسع. أنا واحد من هؤلاء الناس! والشيء الذي كان يرضيني، وانا في خضم العمل السياسي، هو انني كنت قادراً على فهم الجمهور الواسع. وأول ما تعلمته هو ان الانسان العادي ليس بطلاً. انه كائن يريد ان يعيش وان يتعلم وان ينجب اولاداً وان يحب امرأة وان يبني بيتاً... أما نحن كطليعة، فكنا نطالب هذا الانسان العادي بأن يأتي بالعجائب وبأن ينجز المستحيل، فإذا عجز، رحنا نلومه ونؤنبه ونزدريه. وتصديت شخصياً لهذه الظاهرة في اكثر من مناسبة، وطالبت القيادة الحزبية بأن تكفّ عن ارهاق كاهل الناس العاديين. فالله لا يحمّل نفساً الا وسعها. قيّض لي أن أدرس تاريخ الحركة الاسماعيلية. وبدا لي في الحين اننا اذا ما واصلنا العمل بتلك الطرق نفسها، فإن مصيرنا سوف يكون المصير نفسه الذي آلت اليه الحركة الاسماعيلية. وقد صارحت القيادة برأيي هذا سنوات طويلة قبل ان يهز "الزلزال" المعسكر الشيوعي، ويفتت الاتحاد السوفياتي. كان زعماء الحركة الاسماعيلية يطالبون العناصر الموالية لهم بأن يلقوا انفسهم من أعلى جبل، أو يرسلونهم في مهامٍ سرية لا يمكن ان يعود الواحد منها سالماً. طبعاً نحن لم نصل الى هذه الدرجة من الصرامة والعنف، لكننا كنا نمارس اشكالاً اخرى من العنف ضد الناس العاديين، ونطالبهم بتنفيذ مهام صعبة للغاية. السخرية مانعة الصواعق! وفي "المتشائل" بلورت افكاري هذه، وقدمت انساناً عادياً يخاف ويخون ويكذب وينافق ويدوس شرفه ويتعاون مع العدو، لكنه مع ذلك يمثل ذلك الشعب الذي استطاع البقاء. وقد اكتشفت ان "المتشائل" موجود في آداب وثقافات أخرى. ففي الادب التشيكي هناك "الجندي شفايك"، وفي اسبانيا هناك "دون كيخوتة". إن الشعب حتى في اسوأ اوضاعه قادر على اجتراح وسيلة بقائه واستمراره في الحياة. وأنا كتبت "المتشائل" لكي أثبت هذه الحقيقة. وكان الاسلوب الساخر هو الطريقة الوحيدة التي انقذتني من الاحتراق وأنا اكتب عن مأساة شعبي. واجهت في الحقيقة كثيراً من النقد بسبب هذه السخرية، وكنت أرد على منتقدي أن السخرية هي الاسلوب الوحيد للتنفيس عن شعبي الذي يئن تحت وطأة الاحتلال والقهر. ويحلو لي احياناً ان اشبّه السخرية ب "الشاري" أي بمانع الصواعق الذي يمتص الصاعقة فيحمي البيت وأهل البيت من الاحتراق والموت. وأنا بتجربتي يمكنني ان ادّعي أنني انقذت شعبي من الهلاك. أعود بك الى مرحلة الطفولة وسنوات المراهقة. كيف كنت في ذلك الوقت؟ وماذا كنت تفعل؟ - كنت أعشق الحكايات الشعبية. ولم اكن استطيع ان انام الا بعد ان استمع الى حكاية من الحكايات. وكان اجدادي الذين واكبت جزءاً من حياتهم شديدي الارتباط بالفولكلور. في رواية لي أتحدث عن أحد أعمامي... وهو شخصية مهمة بالنسبة إلي. كان "حكيماً" أو طبيباً شعبياً يزور البدو والقرى ويعود بين وقت وآخر حاملاً معه حكايا وطرائف وخرافات. ويبدو أن حضوره أثّر عليّ كثيراً. ومبكراً ايضاً تأثرت بالافكار السياسية، اذ قيّض لي ان يكون بيتنا مقصداً لكثير من الناس. فوالدي كان مختاراً كما تعلم. ومع مرور الوقت تحول بيتنا الى خلية سرية للحزب الشيوعي. وأنا كنت أجلس عند العتبة لأتنصّت. ومرات أخرى كنت أدخل واختلط بالرجال. واذكر ان اخي لم يكن عضواً في الحزب لكنه كان من المؤازرين. وربما لهذا السبب سمح للحزبيين باستخدام بيتنا مكاناً للاجتماعات. بالنسبة الى والدي اعتقد انه كان يغضّ الطرف عما يحدث من حوله. أما والدتي فقد كانت تتذمر وتحتج بقوة بين وقت وآخر. وفي عام 1936 عندما حدث الاضراب الكبير، اضراب الأشهر الستة، بدأت حماستي للنضال السياسي تتضاعف... معلّم اللغة العربية وفي المدرسة كان معلم اللغة العربية هو الذي يعلمنا الدين أيضاً. وخلال حصته كنا ننقسم الى قسمين: المسيحيون يتعلمون أصول الدين المسيحي والمسلمون يتعلمون أصول الدين الاسلامي. واذكر أن معلم اللغة العربية كان معجباً بي أشد الاعجاب وخاصة بانشائي. لهذا السبب أبى إلا أن يأخذني الى حصة الدين الاسلامي وأن يحفظني القرآن الكريم. وكان يضربني بالمؤشر العصا أكثر من كل الاولاد حتى أحفظ! وعرفت لاحقاً كم أنا مدين لهذا الاستاذ، فمن أراد ان يلم الماماً حقيقياً بالتراث العربي وبالثقافة العربية عليه أن يبدأ بحفظ القرآن الكريم. وماذا عن تجربتك العاطفية في ذلك الوقت؟ - هناك بيت شعر أسوقه جواباً عن سؤالك: ولمّا شربناها ودَبّ دبيبُها الى موضع الأسرار، قلنا لها قفي! يعني انك لا تريد ان تتحدث في هذا الموضوع... - لا أريد لأني على الرغم من سنّي المتقدمة مازلت في المعمعان، ولم أُلقَ على الرصيف حتى هذه الساعة. سأكتب روايات اخرى وما اريد ان اقوله في هذا المضمار سأقوله في هذه الروايات. عن الحب؟ - طبعاً عن الحب! طيب أنا اريد ان... - إميل مقاطعاً لا تتعب نفسك! كل شعب يصاب بنكبة مثل الشعب الفلسطيني، يبدع كتابه وشعراؤه اعمالاً تجسد هذه النكبة. انت الذي عشت الكارثة الفلسطينية من اولها وحتى هذه الساعة، أية اعمال ابداعية استطاعت في نظرك ان تعكس معاناة شعبك ونضالاته وأوجاعه؟ - تعني بذلك أعمال غيري؟ نعم... أعمال غيرك من المبدعين الفلسطينيين. - عندي نظرية التجئ اليها، وهي انه في اثناء المراحل الصعبة من تاريخ الشعب، لا يمكن ان يكتب أدب يستحق الاهتمام. مثل هذا الامر يحصل في ما بعد عندما يزول الغيم، وينجلي غبار المعارك الصاخبة. "المتشائل" نجحت لأني كتبتها عن مرحلة ولّت وانتهت. ما كتب عن الحرب العالمية الثانية عندما كانت المدافع والطائرات تدكّ المدن، وتحصد العباد، لم يبق منه أي أثر. واضيف أيضاً ان الشعر والنثر في هذا المجال يختلفان كثيراً. فالشعر يمكن أن يلبي الحاجة، خصوصاً المباشر منه والقادر على تحريك الناس، وعلى تأجيج العواطف خصوصاً خلال المظاهرات الشعبية العارمة. اما النثر فلا يكون صالحاً الا عند الابتعاد كلياً عن المعركة. "ذهب الذين أحبّهم..." وليس من الصدفة في شيء ان يكون اهم المبدعين الفلسطينيين هم من الشعراء وليسوا من كتّاب النثر. ان كتّاب القصة والرواية الفلسطينيين لا يختلفون كثيراً عن سائر زملائهم العرب، لأنهم لا يهتمون باللغة. وأنا أرى ان العمل الادبي يختلف جذرياً عن العمل الصحافي اليومي. ولا بد لصاحبه ان يتقن اللغة اتقاناً تاماً، وان يتمرس بها تمرساً يجعله قادراً على ان يذهب بعيداً في ابداعه وكتاباته. هناك من دون شك كتّاب فلسطينيون بوسعهم تبوء مراتب أدبية مرموقة، لكن عدم اهتمامهم باللغة حال ويحول بينهم وبين ذلك. وربما أكون مخطئاً، لكني لا اتذكر ان هناك عملاً نثرياً واحداً شدني في ما يخص الأدب الفلسطيني بطبيعة الحال. حتى غسان كنفاني؟ - يتنهد بعمق غسان كنفاني لم يعش بما فيه الكفاية. لكن دعني أقل لك اني أحترمه رغم ذلك. وأنا دائما استشهد بروايته "رجال في الشمس" التي اعتبرها عملاً محترماً. أما "عائد الى حيفا" فلم تشدني على الاطلاق ليس فقط لأن غسان كنفاني لمّح فيها الى أن الذين فضلوا البقاء في وطنهم المغتصب بفتح الصاد تحولوا الى يهود، وانما لأن هناك اخطاء فادحة حتى على مستوى جغرافية مدينة حيفا... وعلى أية حال أنا لا أريد ان أستمر في الحديث حول هذا الموضوع. ويمكن ان يكون هناك كتاب فلسطينيون مهمون في الوقت الراهن. ولكن أنا من جيل آخر، جيل مضى.. وأحياناً أردد بيني وبين نفسي ذلك البيت الشهير: "ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فرْدَا" أنت من المدافعين الكبار عن اتفاقية غزة - أريحا... وكما عهدناك دائماً، ها أنت تبحر مرة أخرى عكس التيار، وتصطدم برأي عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين والعرب من رافضي هذه الاتفاقية... - أنا من ذلك الجيل الفلسطيني الذي بقي على قيد الحياة والذي عاش نكبة 47 و48 وحاول أن يتلافاها. لذا كان أول شيء فعله هو أنه دعا الشعب الفلسطيني الى وجوب القبول بقرار التقسيم واقامة دولتين. ولو ترك الشعب حراً في اختيار هذا القرار، لكان نجح في انقاذ نفسه من الكوارث والمآسي التي توالت عليه في ما بعد. وحين أتحدث في هذا الأمر، أقول اننا لا نلوم فقط الجامعة العربية في ذلك الوقت التي فرضت علينا فرضاً مقاومة قرار التقسيم، وانما نلوم اسرائيل أيضاً التي لم تسهم فقط في اقتسام الجزء المخصص للدولة العربية الفلسطينية، وانما استحوذت على نصيب الأسد. الجيل الجديد من الفلسطينيين قد لا يعرف الماضي جيداً، هذا الماضي الذي يحاول البعض طمسه وتناسيه أو شطبه من التاريخ كما لو أن الفلسطينيين كانوا دائماً وأبداً ضدّ قرار التقسيم. هذا ليس صحيحاً بالمرة، ذلك ان الموقف الشعبي الفلسطيني عام 1947، كان مع قيام دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل. هذه حقيقة لا يجب نكرانها. والذين يدّعون اليوم ان مساندة قرار التقسيم جريمة وطنية لا يعرفون التاريخ... لذا أنصحهم بالعودة اليه حتى يكفوا عن هذه الجعجعة القاتلة للجسد والروح. محمود درويش لمَ لا يعود؟ وأنا كفرد من أفراد الشعب الفلسطيني الذين رفضوا الخروج، وقبلوا بالتصدي للعدو وجهاً لوجه، أقول لتلك القيادات الفلسطينية القابعة هنا وهناك، تلوك شعارات "قومجية" بالية، أن أهل مكة أدرى بشعابها وان النضال لا يتم في الفنادق، وانما في الميدان مع الجماهير التي قاست وتقاسي حتى هذه الساعة من الفقر والاحتلال والذل... أعود فأقول إن أبناء جيلي لم يفكروا أبداً في "القاء اليهود في البحر"، وانما فكروا في الوسائل التي تساعدهم على البقاء حتى لا يلقي بهم اليهود الى متاهات الصحاري... صحيح ان محمود درويش من قرية أزيلت من الوجود، لكن باستطاعته أن يعود الى بلاده... لكن السلطات الاسرائيلية أعلنت أخيراً إنها ترفض عودته... - هذا ليس صحيحاً بالمرة... وكل هذا حديث خرافة يا أم عمرو... وبالنسبة لادوارد سعيد؟ - هذا الصباح كنتَ معي خلال لقائي بالكاتب البارز هشام شرابي... وأنا أصارحك بأني معجب جداً بشخصية هذا الرجل، وبصفاء ذهنه. أما ادوارد سعيد فلا أفهم موقفه. واعتقد انه مثل عدد كبير من المثقفين العرب الذين ينظرون الى القضايا الكبيرة مثل القضية الفلسطينية انطلاقاً من مشاغلهم الذاتية والمحلية... إن فلسفة "التشاؤل" التي هي فلسفتي تقضي بألا يقارن المرء السيئ بالحسن، وانما السيئ بالذي هو أسوأ منه. لذا أنا مع اتفاقية غزة - أريحا. مؤتمر ثقافي عربي - اسرائيلي؟ سمعت انك تسعى حالياً الى عقد مؤتمر يضم مثقفين عرباً واسرائيليين... - أنا أقدّر موقف المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين يشترطون، قبل اقامة حوار بينهم وبين المثقفين اليهود ان تلبي اسرائيل مطالب الشعب الفلسطيني العادلة. وفي نظرهم، حين تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة تزول أسباب القطيعة ويصبح الحوار ممكناً. هذا موقف معقول. لكني لا بد أن أذكّر هؤلاء السادة ان اسرائيل ليست مهتمة كثيراً بالتطبيع الثقافي، وانما بالتطبيع المالي والمائي والاقتصادي والسياسي بالدرجة الأولى. وأنت تعلم ان الأدب الاسرائيلي منتشر في جميع أنحاء العالم، ومترجم الى جميع لغات الأرض، ولا يعيش أي نوع من أنواع الضيق. الذي يهمني بالدرجة الأولى هو موقعنا نحن المثقفين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ولا بد أن يتفهم الآخرون هذا الموقف. وأنا أضيف بأننا لم نتمكن من الحفاظ على وجودنا الثقافي داخل اسرائيل الا بالتعاون مع المثقفين الاسرائيليين الديموقراطيين. هذه حقيقة يجب الإقرار بها اولاً وثانياً وثالثاً. نحن لم نكن ننتظر الفارس الأسمر الذي يأتي على ظهر جواده الأبيض لكي ينقذنا، بل كنا نعتمد على أنفسنا، وعلى امكاناتنا وعلى علاقاتنا حتى نستمر في الوجود. وقد وجدنا في المثقفين الاسرائيليين الديموقراطيين أقوى حليف. لم الخوف من الحوار اذاً؟ وما هي مبرراته؟ هذا هو سؤالي. يوم حوصرت بيروت، اخترق مثقفون اسرائيليون الحصار، ودخلوا بيروت وكتبوا منددين بجرائم الجيش الاسرائيلي وبمجزرة صبرا وشاتيلا. هل هذا صحيح أم لا؟ أنا لا أدعو المثقفين العرب الى تل أبيب، بل ادعوهم الى غزة... فليأتوا الى غزة وسوف نرى بعد ذلك.