اخذت الصورة تتبلور تدريجياً لترسم صورة مخيفة لتيار تكفيري عنيف، مع اعتراف الأربعة بتنفيذ انفجار الرياض. وأحد عناصر صورة هذا التيار ابو محمد المقدسي الذي تحدث الشاب السعودي عبدالعزيز المعثم عن تأثره بأفكاره وإعجابه بها حتى شد اليه الرحال في الأردن واجتمع به مرات عدة وقرأ كتابه "ملة ابراهيم" على رغم انه لم يتجاوز الرابعة والعشرين ليجد نفسه منذ بضع سنوات في خضم فكر معقد يجمع بين السلفية المتشددة والتكفير والعنف. والاسم الحقيقي للمقدسي هو عصام محمد طاهر، عمره 32 عاماً ومعتقل حالياً في الأردن بتهمة ترؤسه تنظيماً اطلق عليه "بيعة الامام" كان يخطط لتنفيذ أعمال ارهابية في الأردن. والمقدسي من أصل فلسطيني، نشأ في الكويت وتأثر هناك بالتيار السلفي فيها. ويقول عارفوه انه كان يتردد على "جمعية احياء التراث الاسلامي" الكويتية المعروفة بأنها الواجهة العلنية للتيار السلفي في الكويت والخليج، وهو تيار تأثر بالمدارس التقليدية السائدة في المنطقة، لكن تطرفه يتفاوت بين بلد وآخر او بين عالم وآخر، وان كان اتباعه يتفقون على ارضية الاعتقاد بأنهم اهل السنة والجماعة. وينشغل هذا التيار بمنابذة المدارس الاسلامية الاخرى والتركيز على مواجهة ما يعتقده بدعاً اضيفت الى الدين والدعوة الى العودة الى عقيدة السلف الصالح ويركز على مسائل العقيدة والفِرق، ويحدد علاقاته بالآخرين انطلاقاً من ذلك، كما يعرف عنه تشدده في الفقه. وسط هذا التيار نشأ المقدسي، ومن منابذة "الآخر" انتقل الى تكفير الآخر وتوقف عند تكفير الحكام من دون تكفير العامة. وتوجه الى افغانستان ليحتك اكثر بالتيارات التكفيرية والجهادية. وهناك، في ساعات الفراغ الطويلة في بيوت الضيافة المنتشرة في بيشاور، تطور هذا الفكر، خصوصاً في العامين الاخيرين قبل سقوط كابول وانتهاء الحرب الافغانية. وأول من بدأ المقدسي مع انصاره بتكفيرهم التيار الاسلامي العربي الذي سبقهم الى افغانستان وقاد عملية دعم المجاهدين ببناء المدارس والمستشفيات وشتى المشاريع الخيرية وجمع التبرعات لهم. وحصلت صدامات كلامية محددة بين قدامى الاسلاميين العرب والقادمين الجدد. ووجد التيار الجهادي والتكفيري في البداية غطاء في "جماعة القرآن والسنة" التي كان يطلق عليها جماعة جميل الرحمن نسبة الى زعيمها الافغاني من ولاية كونر الذي كان القائد السلفي الوحيد في افغانستان. وانهالت على جميل الرحمن وجماعته الاموال، فكبرت الجماعة وكبرت معها بيوت الضيافة التابعة لها وأضحت تتنافس على جذب الشباب مع مجموعة الشيخ عبدالله عزام المحسوب على "الاخوان المسلمين" والذي كان اول من شجع الشباب العرب على الالتحاق بالمجاهدين الافغان. ومن طبيعة السلفيين المتشددين والتكفيريين حب الجدل الذي يؤدي عادة الى خلاف يؤدي بدوره الى انقسام الامر الذي ضاعف بيوت الضيافة ووصلت جماعات الجهاد المصرية وأعضاء من "الجماعة الاسلامية" بعد تنفيذهم عقوبات بالسجن في قضايا سابقة تورطوا فيها، خصوصاً المجموعات الكبيرة من المعتقلين عقب اغتيال الرئيس انور السادات. ووصل ايضاً الجزائريون ولم يكونوا بعد قد اصبحوا "الجماعة الاسلامية المسلحة" لكن تيار التكفير بينهم كان قوياً، وأصبح لكل مجموعة شيخها وبيتها. في بيئة كهذه وصلت دفعات جديدة من الشبان السعوديين الذين لم يتجاوزوا سن العشرين، مثل خالد السعيد ومصلح الشمراني ورياض الهاجري الذين شاركوا في عملية تفجير العليا في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وابتعدوا هناك في بيشاور عن مؤسسات التيار الاسلامي العريض التي اتهمت من قبل "المكرفاتية" بأنها خاضعة لسيطرة "الاخوان المسلمين"، فابتعد عنها بعض الشبان السعوديين المتأثرين بخلفياتهم السلفية. ولم يكن المقدسي معروفاً في بيشاور كعالم او منظّر، مثله مثل ابو مصعب السوري او ابو قتاده الفلسطيني او ابو الخير المصري الذين عُرفوا في وقت لاحق كمنظرين للفكر الجهادي يعلنونه في كتب ورسائل توزع على نطاق ضيق ويسجلونه على اشرطة ويحاضرون وسط مجموعات صغيرة في المدن الأوروبية. لكن المقدسي عُرف كخطيب في بيشاور، في مسجد تقصده الجماعات الجهادية والتكفيرية، حيث كان ينتقد "الاخوان المسلمين" في الأردن، خصوصاً لأنهم تجاوبوا في تلك الفترة مع ربيع الديموقراطية هناك عام 1989 عندما اطلقت الحريات السياسية وأجريت انتخابات برلمانية. وكان موقف المقدسي ولا يزال تكفير الديموقراطية ومن يوافق عليها ويشارك في برلماناتها، وهو مبدأ سلفي تقليدي تجاه الديموقراطية التي يرى فيها ادعاء سلطة تشريعية متعدية على كون الله عز وجل المشرع الوحيد للمسلم. وفي بيشاور كان صديقه احمد فضيل الخلايلة الذي اصبح شريكه في تنظيم "بيعة الامام". وعاد المقدسي الى الكويت لفترة قصيرة قبل الغزو العراقي وغادرها بعد الغزو مع من غادرها الى الأردن. ويقول المحققون الأردنيون معه انه حمل معه سبعة قنابل وأربعة الغام ومجموعة من الصواعق اخفاها في الطابق الأرضي لمنزله في عمان. ولعل المقدسي كان يبرر "ترسانته" الصغيرة بأجواء حرب الخليج واحتمالات اتساع المواجهة لتشمل الاسرائيليين، لكن ولعه بالسلاح استمر بعد ذلك، ونمت مجموعته باطلاق سراح اعضاء تنظيم "تكفيري" آخر سبقوه الى السجن، هو "جيش محمد". كان الجهاد فكرة مهيمنة في ذهن المقدسي والخلايلة فتارة كانا يعتبران ان الجهاد يجب ان يكون ضد العدو المحتل عبر النهر ومرة اخرى ضد الفساد المحلي. وتبلور فكر المقدسي في كتابه "ملة ابراهيم" الذي كفّر فيه الأنظمة العربية، بما في ذلك الأردن الذي يعيش فيه. وكشفت التحقيقات ان اعضاء التنظيم فكروا في ارسال عبوة متفجرة الى ناشر عربي في باريس اغضبهم ما يكتبه، وفكروا في اغتيال الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني يعقوب زيادين، كما درسوا القيام بعمليات وصفوها بپ"تأديبية" ضد صحفيين اردنيين، وكذلك تفجيرات ضد السياح والملاهي. ويعتبر فكر تنظيم "بيعة الامام" نموذجاً للتيار التكفيري الذي يفضل ان يطلق عليه "الجهادي"، اكان في مصر ام الجزائر ام اوروبا. فاتباع هذا التنظيم يكفرون اعضاء الحكومة والقضاة واعضاء المجالس التشريعية ورجال الجيش والأمن، خصوصاً المخابرات، وبينهم من يبيح سرقة رجال الحكومة وأقربائهم من التجار وأصحاب الاموال. وذهب بعضهم الى اعلان الخلافة وتلقي البيعة وأعلنوا دولة في منطقة القبائل بين باكستان وأفغانستان التي عاشت شهوراً قليلة عام 1993 وانتهت بأن هاجمهم رجال القبائل فقتلوا بعضهم وشردوا الآخرين في افغانستان. وعندما حوكموا في عمان في شباط فبراير الماضي تحولت المحكمة الى ساحة للصراخ والشتائم والهتافات، سبوا فيها رئيس المحكمة والمحامين، بمن في ذلك المنتدبون للدفاع عنهم، وكفّروا الجميع ولم يوفروا احداً. ولا تأخذ الاوساط الاسلامية في الأردن قضية هؤلاء بشكل جاد اذ ترى انهم ظاهرة غضب عابرة ولا يشكلون خطراً حقيقياً، خصوصاً ان ما من مجموعة تنشط منهم الا وتخترق بسرعة من قبل اجهزة الأمن.