في فرحي بصحوة أتوقعها للمثقف العربي - حتى وهو ما زال محاصراً بمذاق نكسات تراكمت فجيعتها، وفي مرحلة ما زالت تنذر بأعاصير ارتدادية - أجد بوادر تدعو الى التفاؤل، أكاد أرى فيها ومض قنديل ديوجين في زمن مرير العتمة. النشاطات واللقاءات الثقافية تتوالى في مختلف أرجاء الوطن العربي تحتفي بالمثقفين والمفكرين والمبدعين والأدباء. وذلك بلا شك مؤشر ايجابي في زمن تراجعت فيه الايجابيات. أسفت لاضطراري للاعتذار عن عدم الاستجابة لدعوة الدكتور سمير سرحان للمشاركة في معرض الكتاب الدولي إذ كنت مرتبطة برحلة عمل في أقصى الشرق، واكتفيت بتمنيات التوفيق عن بعد. وما كاد معرض الكتاب الدولي في القاهرة ينهي نشاطاته لهذا العام حتى ابتدأ في الرياض مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث الحادي عشر الذي افتتح قبل أيام فاحتفلنا بما اعتدناه فيه من تألق، وبالجديد. ثم أسعدني جداً ان أعلن ان مهرجان أصيلة في المغرب سيعود متألقاً بعد أن افتقدته التطلعات الثقافية عربياً في العام الماضي، ولعميدو عماد المهرجان الاستاذ محمد بن عيسى تهنئتي وتمنياتي. في هذا الزمن العربي الواضح التمزق حيث الشعور بالانتماء العربي هو أول ضحايا التفتت في الهوية العربية والاندماج المؤلم في هوية الكون التقني الاقتصادي حيث لا حدود جغرافية أو تاريخية فاعلة، وحيث تتكالب الانتماءات الأخرى لتسحب أمن الهوية الحضارية من المواطن، مثقفاً أو رجل شارع بسيطاً، هل يعمل المثقف العربي بصمت على رتق تصدعات الانتماء في مواجهة معاول النكسات وتصدعات الانكفاءات السياسية؟ ربما تكون "الثقافة" في مفهومها الأدبي والفني والتقني هي البلسم الوحيد الباقي لأوجاع التصدع المستمر... فحين نجد الانتماءات العقائدية، رغم توحدها جذريا من حيث المثاليات، واتساع تأثيرها جغرافياً عبر القارات الخمس، تهترئ في مفعولها النهائي حين يتقزم تأثيرها في اختلافات المذاهب، وتتلوث بالتسيس والأدلجة السياسية، يظل التشوق الفكري قائماً في صدور الأفراد للوصول الى اجابات فعالة تعيدها الى حالة البناء الجامع بدلاً من تشنجات الهدم وتيارات تسيد الآخرين والغاء أصواتهم. ونجد أن انتماءنا فكرياً ولغوياً حول الهوية الثقافية الواحدة ما زال يسيّر الفعاليات الثقافية والعلمية البحتة بعد أن تراجعت الايديولوجيات التي كانت مؤثراتها طاغية على النشاطات الثقافية في العقود الأخيرة. هنا نجد أن الجذور المحلية المميزة للثقافة العربية وحتى مكوناتها الاقليمية، وصلت الى مرحلة التعايش مع روافد الثقافات الأخرى القريبة والبعيدة... وذلك يؤملنا بمستقبل منطقي الخيارات، والحوار الفاعل بين الحضارات بعطاءاتها المختلفة بدلاً من الانحصار بين خيارين قاصرين، الانكماش في ماض تاريخي لم يعد قائما، او الانصهار في محيط خارجي ترفضه خصوصية الكيان المحلي. لنصر إذن على ترسيخ ودعم هويتنا الجوهرية في عطاءات ساحة ثقافية ناضجة، فوق بهرجة الانتماءات المحدودة والمشروطة، وتلوثات مواكب الأدلجة ومنابر التسيس!