قبل ستة اشهر استقبل الرئيس فيديل كاسترو الرئيس الجزائري السابق احمد بن بله وكان اللقاء "طويلاً وحميماً" قلبا خلاله صفحات الماضي واتفقا على اعتبار النظام الدولي الجديد ظالماً ومجحفاً. واذا كان كاسترو الذي لا يزال يعاند الريح يبدو غريباً في المشهد الدولي الجديد فان بن بله الذي ازيح من السلطة قبل ثلاثة عقود يقر هو الآخر بأنه "غريب في هذا العالم". طويت تلك الصفحة، صفحة الثورات والثوار. صفحة القادة الذين يضرمون الحرائق ويصدرون الأسلحة والنصائح ويرتكبون الاحلام الكبيرة... والاخطاء. وها هو احمد بن بله يكشف كيف وصلت باخرة السكر الكوبية الى الجزائر بعد المناوشات مع المغرب وفي داخلها ما قد يكون اول تدخل عسكري كوبي في المنطقة. لم يكن السكر سوى غطاء ل 50 دبابة و800 عسكري كوبي حال انتهاء المناوشات دون مشاركتهم فيها. ويعترف بن بله بأن الود كان غائباً عن علاقته مع العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، ويشرح الاسباب. لكنه يرفض الخوض في الرد على ما قاله عنه العاهل المغربي في كتاب "ذاكرة ملك" متمسكاً بروايته لأسباب التباعد والجفاء. ويتذكر بن بله حوارات مع شيوخ الكرملين والكلام القاسي الذي قاله خروتشوف عن جمال عبدالناصر. ولا ينسى الموعد الذي رتبه في الجزائر بين تشي غيفارا وخليل الوزير ابو جهاد. ويروي الرئيس الجزائري السابق قصته وقصة المنظمة السرية والاجتماع الثلاثي الذي تقرر فيه اطلاق الثورة والاجتماع الذي ولدت فيه "جبهة التحرير الوطني" وبعدها رحلة السجون. ولا يخفي انه شعر بالخيبة حين عاد الى الجزائر: "لم اجد الجزائر التي اعرفها. وجدت الاصولية والعنف. ووجدت الفساد مستشرياً". وهنا نص الحلقة الثالثة والأخيرة: من أين جاء احمد بن بله وما الذي دفعه في طريق الثورة؟ - أنا اصلاً من المغرب لجهة ابي وأمي ومن مكان قرب مدينة مراكش. جاء والدي الى الجزائر اثر حادث وقع بين عائلته وعائلة اخرى قتل خلاله عمي شخصاً من تلك العائلة. ورحل عمي الى الجزائر خوفاً من الثأر واستقر في بلدة اسمها مغنية على بعد 14 كيلومتراً من خط الحدود المغربية - الجزائرية، ثم جاء ابي. ولدت في مغنية والسجلات غير دقيقة، ولدت اما في 1916 وإما في 1918. والدي اسمه المبارك وكنا خمسة صبيان: عمر مات في الحرب العالمية الأولى وعبدالقادر ورحال والدامسني وأنا، وشقيقتان مغنية وهبة. ولديّ ثلاثة أولاد مهدية ونورية وعلي. تلقيت التعليم الابتدائي في مغنية ثم التعليم الثانوي في تلمسان. كنت متفوقاً في دراستي. لكن حادثاً وقع لي وأنا في السادسة عشرة. كان الاستاذ فرنسياً ووجه انتقاداً قاسياً الى رموز اسلامية. صدمني هذا الكلام واعتبرت ان الدراسة لن تنفع في هذه الظروف. في ذلك الوقت تكوّن حزب الشعب الجزائري. كان موجوداً في فرنسا منذ العام 1926 وفي 1936 - 1937 تكوّن في الجزائر نفسها وأصبح مسؤولاً عنه شخص كان معي في المدرسة واسمه بن عثمان. انتسبت الى الحزب وأنا في السادسة عشرة وقررت بيني وبين نفسي ان مرحلة الدراسة انتهت. اهتممت بالرياضة وكنت متفوقاً في كرة القدم ولعبت في فريق مرسيليا، اكبر فريق في فرنسا. استدعيت للخدمة العسكرية الالزامية وكان مكاني في مرسيليا ثم بدأت الحرب العالمية الثانية. شيء ما كان يعتمل في داخلي. اسئلة كثيرة عن الجزائر وحاضرها ومستقبلها. قاتلت في صفوف الجيش الفرنسي على الأراضي الفرنسية وفي ايطاليا وشاركت في معركة مونتي كاسينو في اطار الوحدات المجندة من ابناء شمال افريقيا. المجزرة الكبيرة التي وقعت في الجزائر وتزامنت مع وقف اطلاق النار في الحرب العالمية الثانية شكلت منعطفاً في حياتي. قتل نحو 45 الف جزائري في شرق البلاد على مدى أيام عدة. حصلت انتفاضة شعبية كبيرة في الجزائر وكانت سلمية لكن الحكام الفرنسيين في شرق البلاد ردوا بقسوة فظيعة. تجربة القتال في الحرب الثانية وضعتني في مواقف صعبة: المواجهة مع احتمالات الموت في أي لحظة. زادتني تلك المواقف ثقة بالنفس وشعوراً بالقدرة على اتخاذ المواقف. وحين وقعت المجزرة في الجزائر وجدت نفسي امام خيار وحيد هو الاستعداد لحمل السلاح من اجل استقلال الجزائر. بعد مجزرة من هذا النوع لا تستطيع المراهنة على حلول عبر الانتخابات والوسائل المشابهة. القمع الدموي الوحشي اغلق الباب على هذا النمط من الخيارات. كنا جميعاً في حزب الشعب، انا وبوضياف وآيت احمد وكل الذين فجروا الثورة في أول تشرين الثاني نوفمبر كانوا من حزب الشعب. في "حزب الشعب" خرجت من الجيش بعدما رفضت الالتحاق بمعهد اعداد الضباط. قدموا إلي العرض بسبب الأوسمة الممتازة التي حصلت عليها كضابط صف. سرحت من الجيش فعدت الى حزب الشعب وتدرجت في منظمته السرية وصرت مسؤولاً عنها. طلبت فرنسا من الحزب بزعامة مصالي الحاج ان يغير اسمه وان يخوض الانتخابات ففعل. وقع نقاش حاد وكان رأينا، أنا وآيت احمد ومحساس وعدد من الرفاق، ان المسألة تنطوي على فخ وان فرنسا ستضربنا لاحقاً. واقترحنا انشاء المنظمة السرية فتأسست وتولى مسؤوليتها رجل من اعظم رجال الثورة الجزائرية اسمه محمد بلوزداد. توليت في البداية مسؤولية المنطقة الغربية. وقبل الأول من نوفمبر بشهور معدودة توفي بلوزداد وتولى مكانه مساعده آيت احمد لكن لمدة غير طويلة. حصلت مشكلة حول الامازيغية فقررنا صرف الجماعة باستثناء آيت احمد المشارك في أمور اساسية وخطيرة، تخص عملنا. لم نفصله بل أرسلناه الى القاهرة، وأنكر هو ان يكون له ضلع في تصرفات المجموعة التي تركز على البربرية. وتوليت انا مسؤولية المنظمة السرية. هل نفذت شخصياً عمليات في اطار مسؤوليتك هذه؟ - قتلنا رجلاً جزائرياً متعاوناً مع فرنسا كان يقوم بعمليات قتل. ونظمنا خصوصاً عمليات جمع أموال مثل الهجوم على مركز البريد في وهران وذلك خلال تولي آيت احمد مسؤولية المنظمة السرية. وشارك في العمليات آيت احمد وانا بحكم مسؤوليتي عن المنطقة. وفي 1949 توليت مسؤولية المنظمة السرية فعملت على تقويتها. حصلت انتخابات بلدية ونال الحزب غالبية ساحقة ثم حصلت انتخابات تشريعية لكن الحكم ضرب الحزب والذين ترشحوا وبدا ان الأمر خدعة. في 1949 عقد مؤتمر تقرر فيه وضع كل مقدرات الحزب في تصرف المنظمة السرية التي ارتفع عدد افرادها الى اكثر من ضعفين. في 1950 وقع خطأ داخل المنظمة السرية اكتشفه الحكم الفرنسي الذي نفذ حملة اعتقالات وهكذا دخلت السجن. في 1952 فررت من السجن فاكتشفنا ان الحزب حل المنظمة السرية. بدأت الاحداث في المغرب وفي تونس وحصلت اغتيالات واعتقالات. في هذه الاثناء التقينا في باريس مع بوضياف ومحساس وقررنا اطلاق الثورة. اما جبهة التحرير الوطني فولدت في آخر اجتماع عقدناه في سويسرا انا وبوضياف وديدوش مراد في 1954. أين كنت بين 1954 و1956؟ - كنت أتنقل بين القاهرة وطرابلس. رحلة السجون كم مرة دخلت السجن؟ - مرة في الجزائر لمدة سنتين وأخرى في فرنسا لمدة خمس سنوات ونصف سنة. حوالي ثماني سنوات. المجموع 24 سنة في السجن... فهناك السجن بعد انقلاب بومدين من 1965 الى 1979 تقريباً وهناك اقامة جبرية لمدة سنة ونصف سنة. أهم علاقة بينك وبين زعيم عربي كانت مع عبدالناصر؟ - كنت معجباً به واعتبر نفسي مديناً له. خاض عبدالناصر المعركة معنا ودفع ثمناً كبيراً بسبب موقفه. العدوان الثلاثي كان بسبب موقفه من الثورة الجزائرية، لم يرفض لي طلباً. خلال حرب 1967 كنت في السجن، بماذا شعرت؟ - انا لم أحضر جنازات أهلي واخوتي. وأقول صراحة ان الغصة الكبيرة لديّ كانت يوم وفاة عبدالناصر. انا لم ينل السجن مني، وكدت اشعر بأنني سجنت السجن. لم أتنازل ولم تصب ارادتي. يوم وفاة عبدالناصر شعرت بمرارة لا مرارة بعدها، لمدة 24 ساعة. هل صحيح ان بومدين لم يسمح لك بالمشاركة في تشييع والدتك؟ - انا لم أطلب لأنني لم أعرف. عرفت بعد أربعة أو خمسة أيام. قال لي الضابط: احمد انهم يريدون ان يروك. خالجني شعور بأن امي توفيت. قدم إلي ضباط السجن التعازي وسألوني ماذا أقول، فقلت: إنا لله وإنا اليه راجعون. عيب عليهم. والدتي كانت سيدة متقدمة في السن وكان عليهم ابلاغي. بن جديد: حاكموه وكيف كان موقف الشاذلي بن جديد منك خلال اعتقالك؟ - لم ألتقه. ذات يوم أرسل إلي الى السجن، مع قائد المنطقة الكولونيل بلهوشات، يقول ان شاء الله ستخرج من السجن لكن اعطني بعض الوقت. بعدما تولى الشاذلي السلطة قال للجماعة المحيطين به: "وضع هذا الرجل بن بله لا يمكن ان يبقى على ما هو. اذا كانت لديكم مآخذ عليه فحاكموه". طبعاً لم احاكم في أي يوم على رغم مطالبتي بمحاكمة كل الذين تسلموا منصب رئاسة الجمهورية: أنا وبومدين والشاذلي وبوضياف. انا طالبت بفتح قضية الفساد على مصراعيها. مسؤول سابق في وزارة الدفاع اطلعني على اختلاسات قام بها ضباط في ما يتعلق بصندوق التضامن. يوم عدت الى الجزائر هل شعرت بشيء من الخيبة؟ - نعم شعرت بالخيبة. لم اجد الجزائر التي اعرفها. وجدت الاصولية والعنف. ووجدت الفساد مستشرياً. لم اكن أتصور أن يصل الاهتراء الى هذا الحد. نعم ارتكبت اخطاء لو طالبناك بتقويم مسيرتك هل تعترف بارتكاب اخطاء؟ - نعم ارتكبت اخطاء وبعض الاخطاء كبير، لكنني كنت أعمل باخلاص. ربما لم احسن التقدير في بعض المواقف لكنني لم ارتكب خطأ في الجوهر. مثلاً انا اخطأت في تقدير قوة النظام العالمي والذي تبين انه اقوى مما اعتقدت. اتضح ان جذور السيطرة الغربية عميقة وان حلمي باجتثاث هذه الجذور لم يكن واقعياً. اخطأت مثلاً في عملية التأميم حين شمل التأميم بعض المقاهي والمتاجر. يجب ان ترجع الى تلك المرحلة. حصل الاستقلال وفر الفرنسيون وتركوا ثروة كبيرة وجاء اناس وتسربوا وتسلقوا ووصلوا الى تلك البيوت. حصلت صفقات أفاد منها أناس لا تربطهم علاقة فعلية بالثورة. لكي امنع هؤلاء دعمت خيار التأميم. من المسؤول عن الكارثة الزراعية؟ - بالتأكيد ان عهدي ليس مسؤولاً. نحن كنا نصدر الحمضيات وغيرها. والكارثة الصناعية؟ - مشوا في فكرة الصناعة التي تصنّع، وهي فكرة لمنظّر فرنسي معروف وتقوم على بناء انجازات ضخمة ثم اقامة نسيج يربط بينها، أي اقامة مرافق كبيرة كالمصانع الضخمة ثم تربط بينها بمشاريع صغيرة وصناعات صغيرة. هذه الطريقة انهكت البلاد. هل تتوقع ان ينجح الاسلاميون في الاستيلاء على السلطة في الجزائر؟ - لا. أتوقع ان يقوم حكم يضم عروبيين واسلاميين في الوقت نفسه. وربما كان نموذجاً يمكن الافادة منه في اماكن اخرى. وهذا ما بدأنا نعمل من اجله في حوارات روما حين استطعنا ان نطلب من حزب اسلامي ان يجلس مع لويزا حنون وهي تروتسكية وامرأة رائعة وفاضلة. كيف تفسّر تواضع النتائج التي حصلت عليها "الحركة من أجل الديموقراطية" التي تتزعمها في 1992؟ - نحن جئنا في المرتبة الخامسة. لم نحصل على الكثير من الاصوات. ربما مضى وقتنا فالوقت الآن وقت الاصوليات، ثم ان الانتخابات كانت مزيفة. كيف كانت علاقتك مع شارل ديغول؟ - من أروع ما يكون، انه خصم يستحق الاحترام وهو الذي قلّدني الميدالية العسكرية بعد معركة كاسينو. كاسترو والسكر والدبابات من التقيت من المسؤولين الاميركيين؟ - التقيت جون كينيدي، وكان أول من أيد استقلال الجزائر خلال حملته الانتخابية. كان اللقاء جيداً. زرته خلال أزمة الصواريخ وحصار كوبا. يومها كنت رئيساً للحكومة واستدعاني الى البيت الأبيض في لفتة غير عادية. وهنا سأروي لك القصة: كنت في نيويورك وقررت التوجه مباشرة الى كوبا المحاصرة. رفض هو ان أسافر مباشرة في طائرة كوبية وقال: تسافر من مكسيكو. قلت: انا لم آت الى اميركا بل جئت الى الأممالمتحدة وأعتبر ان لديها حصانة. وفي النهاية ارسل كاسترو طائرة كوبية انتقلت فيها الى هافانا. ذهبت والتقيت كاسترو. قبل ذلك كنت سألت كينيدي: هل ستهاجم كوبا؟ فأجاب: ردي يتوقف على وجود صواريخ سوفياتية على الأراضي الكوبية او عدم وجودها. شعرت في الواقع بأنه يحضر شيئاً. استقبلت في كوبا استقبالاً غير عادي. يعتبر كاسترو ان للثورة الجزائرية ديناً عليه قيمته مليارا فرنك قديم. قال كاسترو لي: انا خارج من ثورة ولا أستطيع ان اعطيك فلوساً ولهذا سأقدم اليك السكر. أجبته: نحن لا نريد السكر ونقترح ابقاءه لكم وأمورنا ماشية والحمد لله. قال: هذا دين وعليّ ان أدفعه. حين وقعت احداث تندوف مع المغرب اتصل وزير خارجيتنا بسفير كوبا في الجزائر وأطلعه على الوضع فنقل السفير الصورة الى كاسترو. نحن لم نطلب شيئاً. بعد أيام أُبلغنا ان باخرة السكر التي كان كاسترو عرض ارسالها قد وصلت وإذا بها تحتوي تحت السكر على نحو 50 دبابة و800 عسكري. وكانت الدبابات تعمل بالأشعة ما تحت الحمراء، وللمرة الأولى يخرج مثل هذه الاجهزة من الأراضي السوفياتية. وعملنا على رسو الباخرة في مكان بعيد عن العاصمة. لم تكن لدينا دبابة واحدة في تلك الايام. في اي حال حين وصلت القوة الكوبية كانت الاشتباكات توقفت، ولهذا لم يشارك الجنود الكوبيون في القتال. وأرفق وصول السفينة برسالة غير رسمية من راوول كاسترو تؤكد تضامن الثورة الكوبية مع الثورة الجزائرية. ووفقاً للعادة اعتبرت انه لا يجوز اعادة السفينة فارغة. سألت السفير الكوبي فقال لا نريد شيئاً. وعندما كررت السؤال قال ان كاسترو يحب النبيذ الجزائري وتعجبه الخيول لديكم وهكذا ملأنا الباخرة بالنبيذ والزيتون وبعض الخيول. وعلى مدى ستة اشهر كان المركب يذهب ويجيء يحمل الينا السكر ونرسل فيه الزيت والنبيذ. طبعاً حصل توتر بين كاسترو والسوفيات خلال أزمة الصواريخ فهم هندسوا التسوية من دون التشاور معه. غيفارا و"أبو جهاد" أنا عرفت تشي غيفارا اكثر من كاسترو. غيفارا اقام في الجزائر خمسة اشهر وجمعته مع "أبو جهاد" خليل الوزير الذي كان معجباً به اشد الاعجاب. جاء "أبو جهاد" من "فتح" ومنحناهم وضعاً ومكتباً وكانت الجامعة العربية تعارض ذلك في أيام أحمد الشقيري. كان غيفارا رجلاً ثورياً وصلباً لا يحب التهريج، وشديد التواضع. و"أبو جهاد" كان ايضاً رجلاً رائعاً. أنا لم التق ياسر عرفات. آخر مرة رأيت فيها كاسترو كانت قبل خمسة اشهر. تحدثنا عن الايام الماضية والعلاقات الرائعة التي كانت قائمة بين كوبا والجزائر. هل شعرت بأنه تقدم في السن؟ - نعم، ظهر الشيب في شعره لكنه لا يزال صلباً. ماذا قال لك عن النظام العالمي الجديد؟ - انه ضد النظام العالمي الجديد. انهيار الاتحاد السوفياتي لا يعني انهيار قيم الاشتراكية أو العدالة. ألم يتدخل كاسترو لدى بومدين للافراج عنك؟ - تدخل مرات ومرات ومرات. انتقد بومدين واعتبره عميلاً لاميركا وان الانقلاب تم بايحاء من واشنطن. وعبدالناصر، ألم يتدخل؟ - تدخل وارسل علي عامر لكنهم كانوا موتورين. ما آخذه على بومدين هو اضعاف الخط العروبي في الثورة الجزائرية. هل تعتبر انه كانت هناك ابعاد خارجية لحركة بومدين؟ - اعتقد بأنه كانت هناك علاقات مع وزارة الخارجية. من كان كاسترو يحب من الرؤساء العرب؟ - كان يحب عبدالناصر. هل شعرت بأنه يحب القذافي مثلاً؟ - انه يتعامل معه. ليبيا قدمت مساعدات كبيرة الى نيكاراغوا ودول اخرى في اميركا اللاتينية. في اي حال، على رغم كل ما يقال فان القذافي يمثل حالة اعتراض. اما حال الحصار التي يعيشها بلده فقد استفاد منها كثيرون .... هل قال كاسترو اثناء أزمة الصواريخ انه مستعد للتمسك بموقفه ولو ادى الامر الى حرب نووية؟ - كان مستعداً للتمسك بموقفه الى النهاية. لم يكن مؤيداً لنزع الصواريخ السوفياتية من كوبا وقد وافقت موسكو على التسوية من دون استشارته واحدث الامر أزمة بينهما. هناك كلام انه طلب من خروتشوف قصف الولاياتالمتحدة بالاسلحة النووية؟ - لا علم لي بذلك لكنني شعرت بأنه كان مستعداً لاستخدام كل الاسلحة بلا استثناء في حال مهاجمته. غريب في هذا العالم كم عمرك؟ - 79 عاماً واقترب من الثمانين. من هو الصديق الاقرب اليك؟ - ليس لدي اصدقاء كثر، تغير الوقت ولم اتغير. ولكن في الوقت نفسه لا اعتبر ذلك مشكلة. هل تشعر بأنك غريب في عالم اليوم؟ - نعم أنا غريب في هذا العالم. هل تتقاضى تعويضاتك كرئيس سابق؟ - نعم، هناك نظام في الجزائر وقد اعطتني الدولة بيتاً هناك اذ لا بيت لدي. هل تلتقي بوتفليقة مثلاً؟ - نعم وحين رشحوه لرئاسة الجمهورية التقاني وقال: اذا لم تشجعني لن أقبل فقلت له: اشجعك شرط ان تحصل على الصلاحيات اللازمة. حدث هذا بعد اغتيال بوضياف وكاد بوتفليقة ان يتولى المنصب وآخر زيارة قام بها كانت لي، ولكن في النهاية لم تتم عملية بوتفليقة. في أي عام اطلقت من السجن؟ - اطلقت من السجن والاقامة الجبرية في 1980 وغادرت في 1981. ألم تزر المغرب؟ - لا. بعد خروجي كانت مسألة بوليساريو حصلت وكان للجيش الجزائري موقفه وأنا اعتبر هذا الجيش جيشي وجيش الجزائر ولم أرد اتخاذ اي موقف. العلاقة مع الحسن الثاني لم تلتق الملك الحسن الثاني بعد خروجك من الحكم. - لا. وحين كنت لم يكن هناك ود بينكما؟ - كانت العلاقات طبيعية. وكان السفير المغربي لدينا رجل ممتاز اسمه عواد وهو اصلاً استاذ الحسن الثاني. جاءت مشكلة تندوف والحمد لله لم تتحول حرباً واسعة. اجتمعنا لاحقاً في باماكو في حضور هيلاسيلاسي وموديبوكيتا. لم تكن هناك محبة متبادلة، ولكن كانت هناك رغبة في تجاوز الازمة وتطبيع العلاقات. المواجهة احدثت شرخاً والشعب الجزائري صعب اذا جرح. المشكلة هي الآتية: مرحلة التحرير كانت متزامنة واوجدت علاقات صحيحة مع الثوار المغاربة وشاءت الظروف ان يكونوا كلهم في المعارضة بعد استقلال المغرب وان يقيموا في الجزائر. ... وسلحتهم؟ - اعطيهم عيني لو طلبوا فهم شركاء الكفاح والنضال. هل طلب منك العاهل المغربي وقف دعمك المعارضة المغربية؟ - أنا لا اقبل هذا النوع من الطلبات ولم اقبله من بورقيبة. أنا كنت احترم الملك محمد الخامس كثيراً والتقيته واتفقت معه وهو رجل عظيم. لم يكن وارداً ان اتنكر لمن كانوا رفاقاً لنا في الكفاح. ومع بورقيبة؟ - المشكلة نفسها: كانت تربطني علاقات بالثوار التونسيين. بورقيبة قبل حلاً يتعارض مع الوثيقة التي اتفقنا عليها وهي عدم القبول بأي حل يقل عن الاستقلال الكامل. رفض الاخوة التونسيون الحل واقاموا في الجزائر لكن المشكلة لم تكن بحجم المشكلة مع المغرب. والعلاقة مع السفير التونسي المستيري كانت جيدة. هل حاولت اطاحة النظام في المغرب؟ - كنت اتطلع الى الوحدة العربية وكانت القضية الفلسطينية هي أم العين. لم تكن المسألة مجرد هموم مثالية. كان هناك زخم كبير جداً وكانت الشعوب تدعم قادتها الذين يعبرون عن طموحاتها وتطلعاتها. هل كنت معجباً بتيتو؟ - جداً. انه الوحيد في المعسكر الاشتراكي الذي حرر بلاده بالسلاح. في رومانيا وبلغاريا وغيرهما جاء القادة في شاحنات الجيش الاحمر. شيوخ الكرملين من عرفت من القادة السوفيات؟ - عرفت خروتشوف وبريجنيف وسوسلوف. خروتشوف رائع لانه عفوي. كانوا مجموعة من الشيوخ في حين كنا نحن شباناً. بوتفليقة كان وزيراً لدي وعمره 27 عاماً. كنا نحاورهم وما ان تصل الساعة الى الرابعة بعد الظهر حتى تراهم نائمين باستثناء خروتشوف الذي كان واضحاً وعفوياً. سوسلوف كان بارداً. وعرفت اندريه غروميكو الذي سمي "السيد لا". خروتشوف كان افضلهم. نزلنا في الكرملين وراح خروتشوف يشتم عبدالناصر وينتقد العرب بشدة. قال عن عبدالناصر: يأكل من يدي ويشتمني. رددت عليه: هذا ليس كلاماً مسؤولاً فما جدوى الحوار اذا كان هذا هو رأيك في العرب؟ هدأ خروتشوف وطلب مني ان اسعى الى تحسين العلاقات بينه وبين عبدالناصر، وتمكنا من تحقيق ذلك ومشينا لاحقاً الى احتفالات السد العالي. وتكرر الامر. ففي مؤتمر شعبي حمل بشدة على الاخ عبدالسلام عارف في حضوره وهاجم الرجعية في العراق وكانت هناك آنذاك مشكلة تتعلق بالحزب الشيوعي العراقي. اخذت خروتشوف جانباً وقلت له: عارف مثل جمال وأحمد ولا يمكن ان تتعامل معه على هذا النحو. اذا اعتقدت بأنك تستطيع انتهاج سياسة عربية من دون عبدالناصر تكون مخطئاً ويكون المكتب السياسي لديكم قاصراً. من عرفت ايضاً من الزعماء؟ - عرفت زعماء افريقيا. عرفت نيكروما وهو رجل عظيم وقد زوجناه أنا وعبدالناصر من فتاة قبطية مصرية. عرفت موديبوكيتا ونيريري وكينياتا. بماذا تشعر حين تقرأ ان صحافياً قتل في الجزائر؟ - اشعر بألم كبير ومرارة. هذا معيب. لا قتل الصحافي مقبول ولا قتل المرأة مقبول. اشعر بالألم حين اقرأ اخبار القتل والذبح. لوحظ انك لم تلتق ماو؟ - كان يفترض ان نلتقي لكنه اشترط ان اكرس للزيارة شهراً ونصف شهر لرؤية كل التغييرات الحاصلة في الصين. كان من الصعب عليّ تكريس مثل هذا الوقت في فترة ما بعد الاستقلال خصوصاً انه كان عليّ، اذا سافرت، ان التقي سوكارتو وغيره. هكذا سجنا تشومبي الى من قدمتم اسلحة في افريقيا؟ - كل ممثلي الثورات في افريقيا واميركا اللاتينية تقريباً كانوا في الجزائر وليس في كوبا. نلسون مانديلا نحن كوناه عسكرياً أي دربناه وقبله كابرال غينيا بيساو وجماعة انغولا والموزامبيق وبوليفيا وبيرو والسالفادور والاكوادور. حتى تشي غيفارا جلس ثلاثة شهور، كانت لدينا شركة استيراد وتصدير وكان زيت الزيتون سلعة اساسية لدينا. هكذا كنا نرسل زيت الزيتون والسلاح بداخله. هل كان الاتحاد السوفياتي يشجعكم على هذا النهج؟ - لم يكن الاتحاد السوفياتي الخيار الوحيد فقد كانت الصين موجودة ايضاً. وأقول لك بكل صدق ان الاتحاد السوفياتي كان يتملقنا لأن الجزائر كانت بوابة الى العالم الثالث والثورات. علاقاتنا مع الدول الافريقية كانت سيئة جداً فمعظم هذه الدول كان مع فرنسا وهو التيار الذي مثله أحمد أحيدجو وغيره. طبعاً تغيرت هذه العلاقات بفضل الروابط التي قامت مع نيكروما وسيكوتوري وموديبوكيتا. قدمنا مساعدات بلا حساب الى سيكوتوري وغيره. وقفنا بقوة ضد الذين قتلوا لومومبا. عقد في القاهرة اجتماع لمنظمة الوحدة الافريقية وشعرت بأن من المستحيل ان نجلس على طاولة واحدة مع تشومبي الذي قتل لومومبا وارسله الاميركيون الى الاجتماع في صحبة الامبراطور هيلا سيلاسي. تحدثت مع عبدالناصر وقررنا سجنه. سجن في القاهرة طوال مدة الاجتماع بموافقة عبدالناصر وتيتو، ولم يأكل على مدى ثمانية أيام سوى السردين.