لماذا أحمد بن بله ولماذا الآن؟ سببان جعلا هذا الحوار محطة ضرورية في سلسلة "يتذكر". الأول هو انتخاب الرئيس الجزائري اليمين زروال ومحاولته ترسيخ "القطيعة" مع الماضي، أي مع النهج الذي اديرت به البلاد منذ الثورة الى موعد الانهيار الكبير في التسعينات. وبن بله هو الشاهد الكبير على تلك المرحلة، قائداً للثورة ورئيساً للدولة وسجيناً ومنفياً وعائداً. والثاني الذكرى الخامسة لحرب تحرير الكويت التي اندلعت خلال وجود بن بله في بغداد، وبعدما كان أطلق مفاوضات سرية فرنسية - عراقية في سويسرا يقول انها كان يمكن أن تسفر عن انقاذ العراق والكويت لو لم يبادر وزير الخارجية الأميركي آنذاك جيمس بيكر الى احباطها. فما هي قصة تلك المفاوضات وقصة اللقاءات مع الرئيس صدام حسين؟ ولماذا خرج بن بله من بغداد الى طهران؟ وماذا طلبت القيادة العراقية عبره من القيادة الايرانية؟ في الشق الجزائري روى بن بله قصته مع الرئيس الراحل محمد بوضياف منذ الاعداد للثورة وصولا الى عودة بوضياف وتوليه الرئاسة. وإذا سألته عن الذين قتلوا بوضياف يجيبك بلا تردد: "الذين جاؤوا به". ويسترجع كيف تعرف الى طالب في الأزهر اسمه هواري بومدين وكيف صعد الأخير وتولى وزارة الدفاع ودفع بن بله من الحكم الى السجن. ويتهم بن بله "الزمرة" المحيطة ببومدين بأنها كانت وراء الانقلاب. ويكشف ان الشاذلي بن جديد كان متردداً عشية الانقلاب وأنه اختير رئيساً غداة وفاة بومدين بموجب تسوية لمنع الاقتتال بين الافرقاء المتصارعين. يقول بن بله ان زروال جاء من صلب الثورة وانه يتعامل معه كرئيس، ويشدد على أن الحوار مع "جبهة الانقاذ" يجب أن يشجع التنازلات المتبادلة، مشيراً الى أنه لا يؤيد قيام جمهورية اسلامية في الجزائر وان الحوار مع الانقاذ لا يعني التسليم بكل مطالبها. وينتقد محاولة الاصوليين احتكار الحقيقة و"تأسيس كنيسة داخل الاسلام". وفي الشق المتعلق بحرب الخليج الثانية يقول بن بله انه عارض اجتياح الكويت وعارض الحرب على العراق. ويكشف قصة المفاوضات في سويسرا بين ادغار بيزاني وبرزان التكريتي بموافقة الرئيسين فرنسوا ميتران وصدام حسين. ويقول ان طارق عزيز طلب منه عشية توجهه الى ايران ان تغض السلطات هناك النظر عن نشاط المهربين في منطقة الحدود، مشيراً الى أنه لمس في طهران قدراً من الشعوبية والضغينة. وفي جولة ذكريات يروي احمد بن بله كيف ارسل اليه فيديل كاسترو، خلال توليه السلطة وغداة الاشتباكات مع المغرب، باخرة سكر كان السكر فيها مجرد غطاء للدبابات الكوبية والجنود الكوبيين. ويعترف بغياب الود مع الملك الحسن الثاني والرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة ويروي الأسباب. انعش الحوار ذاكرة بن بله عشية بلوغه الثمانين فتذكر اللقاء الذي رتبه في الجزائر بين تشي غيفارا وخليل الوزير أبو جهاد ورحلته الى هافانا في خضم أزمة الصواريخ الكوبية... ومحطات وشخصيات أخرى. وهنا نص الحلقة الأولى: في الذكرى الخامسة لحرب الخليج الثانية هل يمكن ان نعرف طبيعة الجهود التي قمتم بها آنذاك؟ - الحقيقة انني شعرت، عندما حصلت المشكلة العراقية - الكويتية، بخطورة ما يمكن ان يحصل، وبواجبي كعربي في التحرك لمنع حدوثه اذا أمكن. لم يطلب الاخوة العراقيون مني القيام بمبادرة لكني شعرت، بسبب العلاقة بين الجزائروفرنسا، بأن الفرنسيين يمكن ان يلعبوا دوراً في نزع فتيل الازمة. من هنا كان الاتصال مع ادغار بيزاني الرئيس السابق لمعهد العالم العربي. اتصل بيزاني بالرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران ووزير الخارجية رولان دوما وحصل على موافقتهما. واتصلت بالأخ برزان التكريتي الأخ غير الشقيق للرئيس العراقي وممثل العراق لدى منظمات الاممالمتحدة في جنيف فاتصل بدوره بالرئيس صدام حسين وحصل على موافقته. وهكذا عقدت في الكانتون دو فو في سويسرا، في مكان غير بعيد عن لوزان سلسلة لقاءات بين بيزاني وعدد من مساعديه وبرزان وعدد من مساعديه. شاركت بفاعلية في هذه الاتصالات لكنني افسحت المجال ايضاً ليتحدث الفريقان من دولة الى دولة في غياب اي شخص آخر. واستغرقت عملية الاتصالات بمجملها نحو ستة شهور. هل طرح برزان صراحة موضوع الانسحاب العراقي من الكويت؟ - نعم لكن الانسحاب كان مرفقاً بشروط بينها مبادرة في شأن الموضوع الفلسطيني، اضافة الى ضمانات. وقد ظهرت اجواء هذه الاتصالات في كلمة ميتران امام الجمعية العامة. طالب العراق بحلّ الموضوع الفلسطيني في اطار مؤتمر تشارك فيه دول مختلفة. أنا فضّلت عدم التدخل في المسائل الثنائية العراقية - الفرنسية وهل هناك ضمانات محددة يطلبها العراق في هذا المجال. حققت الاتصالات تقدماً وكان يفترض ان تكون المرحلة الاخيرة منها سفر ميتران او دوما الى بغداد للقاء صدام والخروج بالحل الذي كان يتضمن بالتأكيد انسحاباً عراقياً من الكويت. في النهاية تقرر ان يسافر دوما وكانت الطائرة جاهزة في المطار وهي من طراز "كونكورد". في اللحظة الاخيرة أُلغيت الرحلة بعدما وجّه جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي ما يشبه التهديد الى فرنسا وهنا ظهرت المهمة - الفخ، مهمة خافيير بيريز ديكويار الامين العام السابق للامم المتحدة. ظهر ديكويار فجأة وزار بغداد وعاد ليقول انه أُهين. وكان الغرض من تحركه احباط مسعى فرنسا الذي كان يمكن ان يوفّر لها دوراً تاريخياً. صحيح ان فرنسا كانت ستتعرض لبعض المشاكل في علاقتها مع الولاياتالمتحدة لكنها كانت ستحظى بالتأكيد بموقع مميز في المنطقة. أنا عارضت اجتياح القوات العراقية للكويت، لكنني شعرت في تلك المرحلة بوجود قرار اميركي بمعاقبة العراق ليس فقط بسبب دخول قواته الكويت بل لأن واشنطن كانت تعتبر حجم قوته العسكرية غير مقبول، خصوصاً لجهة تعاطيه في موضوع الابحاث العلمية لأغراض عسكرية. وكل هذا تعتبره اميركا واسرائيل إخلالاً بميزان القوى في المنطقة ومتعارضاً مع ما يُرسم لها. واكد لي الصحافي بيار سالنجر الناطق باسم البيت الابيض في عهد الرئيس جون كينيدي وجود مثل هذا التوجه الاميركي …. زيارة بغداد لماذا ذهبت الى بغداد؟ - لتتمة الجهود والاتصالات التي جرت في سويسرا بين العراقيين والفرنسيين ولانتظار دوما. وحين تأخر الوزير الفرنسي اتصلت بوزارة الخارجية الفرنسية فقالوا انهم يريدون ضمانات فأجبتهم انهم حصلوا علىها في سويسرا. وبدا واضحاً ان بيكر أحبط الرحلة. هل وعد برزان بأن دوما سيرجع من بغداد بالحل أي بالانسحاب؟ - نعم اذا أُقرت الخطوط المتعلقة بالموضوع الفلسطيني وربما معها ضمانات تتعلق بالعراق نفسه. ماذا شعرت حين التقيت الرئيس العراقي؟ - لم أشعر بأنه متردد إذا نجحت الاتصالات. كيف برر دخول القوات العراقية الاراضي الكويتية؟ - لا أريد الدخول في حرفية ما قيل في اجتماعات مغلقة لكنني سأقول لك ما استنتجته من فحوى الكلام وهو انه لم يكن هناك اصلاً مخطط لدخول الكويت، غير أن صدام شعر بوجود خطة لضرب القوة العراقية التي تنامت خلال المواجهة مع ايران. كان من الصعب علىه تسريح مئات الالوف من الجنود. فقبل اندلاع الحرب مع ايران كان لديه 50 مليار دولار وحين انتهت صار مديوناً ب 80 مليار دولار. فهمت منه انه شعر بوجود هذه الخطة حين تغيّر الموقف الكويتي في الحديث مع العراق، وان الكويتيين صعّدوا لهجتهم وصاروا يطالبون بديونهم وهي نحو 12 مليار دولار. وتكلم على أدلة وكاسيتات. طبعاً موضوع الكويت مطروح في العراق قبل صدام. انا شعرت بأنه دخل الكويت للحصول على ورقة تمكنه من الحصول في مقابل التنازل عنها على ضمانات للقوة العراقية وربما على حلول لمشاكل الديون. هل قال انه أمر بدخول الكويت لأسباب دفاعية؟ - انا استنتجت من الكلام انه يعتبر ان الضغوط أرغمته على دخول الكويت. السعودية ليست طرفاً لمن حمل مسؤولية هذه الضغوط؟ - تحدث عن مخطط اميركي يعتبر القوة العراقية إخلالاً بالتوازن. تحدث عن مسؤولية الاميركيين والكويتيين. لم يعتبر السعودية طرفاً في المخطط او ضالعة فيه وقال ان لا نيات عدوانية لديه تجاهها وان العلاقة بين البلدين جيدة. وأنا أقول اخلاصاً للحقيقة ان السعودية كانت تؤيد الحل وانها لم تكن راغبة في ان تتعرض القوة العراقية لما تعرضت له، لكن تصاعد الازمة اضطرها الى خيارات معينة. كم التقيت الرئيس العراقي؟ - خمس أو ست مرات. لم اعد اذكر بدقة. أين؟ في مقرين من مقراته. هل حملت إليه اقتراحاً لا علاقة له بفرنسا؟ - ... كيف كانت اعصاب صدام حين التقيته خصوصاً أنك كنت في بغداد حين اندلعت الحرب؟ - بدا صلباً وغير مضطرب على الاطلاق. هل كان يعتقد بأنه سيربح الحرب؟ - لم أشعر بأن لديه اوهاماً لكنه كان يعتقد بأن للعراق قدرته الدفاعية، واعتبر انه يؤدي واجباً في الدفاع عن الكيان والنظام والقدرات العسكرية. الحقيقة ان توقيت الأزمة لم يكن في مصلحته فقد كان يحتاج الى ثلاثة أشهر تقريباً لامتلاك قنبلة ذرية فهل يغامر بلد بالذهاب الى الحرب في مثل هذا التوقيت؟ هل شعرت بأن صدام حسين يريد ان يكون عبدالناصر الجديد؟ - لا لم اشعر بذلك. كان يتحدث كمن اضطر الى الدخول في مواجهة وقرر ان يخوضها بصلابة. هل قال امامك مثلاً انه لا يخاف الاستشهاد في المواجهة؟ - كان الخطر موجوداً لكن الرجل كان صلباً وهادئاً ويتصرف كمسؤول. لم أسمع منه عبارات تنم عن غرور لكنه كان متماسكاً كما يفعل المسؤول. الفرص الضائعة يقولون ان صدام اضاع فرصاً بينها العرض الذي ترفض كشف تفاصيله وان الازمة كان يمكن ان تنتهي بطريقة اخرى؟ - نعم لكنني اعتقد بأنه لو حاول التقاط احدى الفرص لاحبطت الولاياتالمتحدة ذلك .... كل هذا وأنت اتخذت موقفاً معارضاً لدخول القوات العراقية الكويت؟ - نعم، وأعلنت هذا الموقف في حديث الى الاذاعة السويسرية. سياستي واضحة منذ ان كنت في الحكم، فأنا مع وحدة الصف العربي بغض النظر عن الاختلاف بين الانظمة. حين جئنا الى الحكم في الجزائر وقعت مشكلة تحويل المياه في الأردن. اجتمعت الجامعة العربية آنذاك في اجواء حرب مع اسرائيل. كانت العلاقات بين الاخ جمال عبدالناصر، رحمه الله، والملك حسين سيئة جداً وحادة. لم اكن متعاطفاً اصلاً مع الملك حسين لكنني وجدت كلامه واقعياً حين قال انا في الخندق الامامي وحين لا تتوافر لي ظروف الدعم فانني مضطر إلى الرهان على الاميركيين. وكان الرئيس السوري امين الحافظ متشدداً ويشجع على المواجهة مع اسرائيل. انا لم اتعاطف مع لهجة التصعيد في غياب الامكانات، واعتبرت اننا نحتاج الى الوقت لاعداد قواتنا لمواجهة اسرائيل. اصطدم الملك حسين وأمين الحافظ خلال اعمال القمة. تدخلت لدى عبدالناصر خارج القاعة ودافعت عن موقف الأردن وضرورة مساعدته فقال عبدالناصر سأوافق على رغم عدم اقتناعي. هل التقيت الملك حسين لاحقاً؟ - نعم. انا معارض لتطبيع العلاقات مع اسرائيل. لكنني حين زرت الأردن وجدت ان هذا البلد الذي لا يملك ثروات حقق خطوات جيدة في اعداد البنى التحتية، شبكات المياه والكهرباء والعمران. ولاحظت ان عمان من انظف العواصم العربية. انا مع السلام لكنني لست مع السلام المفروض الذي يحتم علينا دفع ثمن باهظ. نعود الى بغداد من التقيت هناك؟ - الرئيس صدام حسين وطه ياسين رمضان وطارق عزيز. هل كان موقفهم موحداً؟ - نعم الموقف نفسه. في العراق جهاز سياسي وعسكري هو الذي ضمن استمرار النظام حتى اليوم. ايران: الضغينة والمهربون خرجت من العراق إلى إيران، بعد اندلاع الحرب، فهل طلبت منك القيادة العراقية ابلاغ الايرانيين شيئاً معيناً؟ - كان يفترض ان أسافر عن طريق عمان لكنني اخترت الذهاب الى ايران لأن عدداً من البارزين فيها كانوا طلاباً في الجزائر، وللثورة الجزائرية ولي شخصياً شيء من رصيد عندهم فقلت استخدم هذا الرصيد. لم تطلب القيادة العراقية شيئاً كبيراً. طلب مني السيد طارق عزيز ان تغض السلطات الايرانية الطرف عن تحركات المهربين الايرانيين عند الحدود المشتركة بين البلدين الأمر الذي يمكن العراق من الحصول على بعض السلع. نقلت هذا الطلب واقترحت تبادلا لأسرى الحرب العراقية - الايرانية. اجتمعت طويلاً مع وزير الخارجية علي اكبر ولايتي ومع شقيق خامنئي وخلخالي وغادرت إيران في اليوم التالي. هل شعرت بأن لدى الايرانيين رغبة في الثأر من العراق؟ - الحقيقة انني شعرت بوجود ضغينة لدى ولايتي، وموقفه هو موقف الحكومة. لم يقنعني كلامه. موقف مجلس الشورى كان أفضل على رغم وجود الضغينة. طلبوا مني ان أبقى شهراً وأن اجول وألقي خطباً. لمست ان الكثيرين ما زالوا اسرى ذكريات الحرب العراقية - الايرانية ولمست قدراً من الشعوبية. رفضت القيام بجولة وسافرت وحذرتهم من ان دور ايران سيأتي ذات يوم وان عليهم التنبه. وصلت الى الجزائر وهناك اقترحت تأليف حكومة ازمة تقوم على ائتلاف وطني فمشاعر الشارع كانت في درجة الغليان، كان مولود حمروش رئيساً للحكومة. اعطوني فرصة التحدث في التلفزيون وطلبت من المعارضة ان توقف حملتها على الحكومة وان ينصب الاهتمام الرسمي والشعبي على الحيلولة دون ضرب قدرات العراق. أتعامل مع زروال كرئيس أجرى الرئيس اليمين زروال انتخابات وحصل على شرعية شعبية، هل جرى بينكما اتصال بعد الانتخابات؟ - لا. أنا كنت في الخارج. والحقيقة ان اتصالاتي بمؤسسة الجيش هي مع زروال. أنا اعتبر ان هذا الرجل جاء من صلب الثورة ومن منطقة الأوراس التي أعطت الثورة كثيراً. زروال التحق بالثورة وكان عمره ستة عشر عاماً. حين عيّن وزيراً للدفاع ارتحت. فللمرة الأولى يأتي وزير للدفاع من صلب الثورة وليس من صفوف الجيش الفرنسي. ومن يعرف الوضع الجزائري يدرك ما أقصده. وللمرة الأولى أبادر إلى الاتصال بمسؤول. زرته وهنأته والتقينا مرات عدة. لكنكم قاطعتم الانتخابات؟ - نحن نشدد على الحوار مع التيار الاسلامي. ولا أقول ان الحوار يجب أن ينتهي بقيام جمهورية إسلامية، فأنا اعارض ذلك، ولكن يستحيل اخراج الجزائر مما هي فيه من دون حوار وتنازلات متبادلة. هل زروال قادر على ايجاد الحل؟ - هو القادر على الاجابة. أنا أتمنى أن يحصل الحل. وفي اعتقادي ان على زروال ان يرتب البيت أولاً وأقصد الجيش. لا ادعو إلى تصفيات أو عمليات طرد، ولكن يمكن اجراء تبديلات وتغييرات تضعف مواقع المعارضين للحل. إذا فعل ذلك فإن الحل ممكن خلال ستة أشهر. هل تعتبر زروال رئيساً شرعياً؟ - أنا أتعامل معه كرئيس موجود. لا اتفلسف ولا ادخل في الجدل. أنا اعتبر أن الشرعية غير موجودة منذ انقلاب بومدين. هناك واقع ويجب أن نتعامل معه، هناك رئيس موجود وسيدخل التاريخ من الباب الكبير إذا نجح في اطفاء النار. ولا يمكن القول إن المؤسسة العسكرية برمتها تعترض أو تعرقل ففي داخلها عناصر وطنية. والاجراءات العملية؟ - هناك عدد من كبار الضباط يقفون ضد الحوار وهم أقلية. ليس المطلوب اعتقالهم، بل نقلهم إلى مواقع أخرى. ثم ليس المقصود بالحوار اعطاء "جبهة الانقاذ" كل ما تطلبه. يجب أن نبحث عن اجماع وهو ما يعني تقديم كل الأطراف تنازلات أساسية. يمكن مثلاً اطلاق عباسي مدني وعلي بلحاج واغلاق المعتقلات وإلغاء المحاكم الخاصة ورفع حالة الحصار. طبعاً لا يمكن مطالبة زروال بذلك دفعة واحدة ومن جانب واحد. مقابل كل خطوة يقوم بها يجب أن يقوم الآخرون بخطوة مقابلة. هل لديك حالياً اتصالات مع عباسي مدني في سجنه؟ - نعم. عبر عائلته والمحامين، وحزبنا زاره في سجنه. بماذا تنصحه حالياً؟ - انصحه بأن لا يطلب المستحيل وأن لا يطالب بأن يكون وحده في الحكومة، بل أن يسعى إلى الدخول في ائتلاف. أنا أتعامل مع الاسلاميين بصدق وصراحة ولست مؤيداً لشعار قيام جمهورية إسلامية في الجزائر. لماذا؟ - لعدم وجود برنامج، ولأن التجارب التي نعرفها لم تكن ناجحة سواء في أفغانستان أو إيران أو غيرهما. أنا أعرف الاسلام جيداً، لا يقر مسألة الاكراه. التقيت عباسي مدني في لندن؟ - التقيته ثلاث مرات قبل أزمة الانتخابات، وهو قال إننا لم نلتق. ربما نسي. الاصولية بلون جزائري تبدو المسافة بعيدة بين الآمال التي أثارها انتصار الثورة الجزائرية والانهيار الذي يعصف بالجزائر اليوم، ما هو رأيكم؟ - أنا شخصياً لا أفضل استخدام مصطلح الانهيار. بالنسبة إلي، وعلى رغم كل هذه الظواهر الدامية، اعتبر ان الجزائر لا تزال حبلى بشيء يبعث على الأمل، وأنها تحاول أن تتلمس طريقها في اتجاه صيغة تمكنها من مواجهة المشكلات الأساسية وهي التنمية والتقدم. الواقع ان ما يجري في الجزائر هو نوع مما يجري في الساحة العربية والعالم الثالث. المشكلة متعددة الأبعاد وليست مقتصرة على الجزائر. هناك ثغرات رئيسية في مسائل التنمية والتقدم والثقافة. مثلاً نحن لسنا في حالة تنمية بل في حالة تنمية مضادة أي عدم التنمية. خذ الظاهرة الاصولية فهي ليست موجودة في الجزائر وحدها، بل موجودة من اندونيسيا إلى المغرب وربما داخل أميركا مثل ظاهرة السود المسلمين والبلاليين. أنا ذهبت ورأيتهم وعشت معهم لمدة عشرة أيام في شيكاغو وغيرها مثل فرخان وسائر زعماء التيار الإسلامي لدى السود. قصدت القول إن الظاهرة عامة. الجزائر تتعامل مع الظاهرة وفق شخصيتها وظروفها. وقد تكون لجانب العنف علاقة ببنية الشخص الجزائري نفسه. ولكن على رغم الدم والآلام أنا واثق من أن الجزائر حبلى بشيء وأنها ستجد طريقها. يجب ألا ننسى ان الوضع ناجم عن تراكمات. نحن داخل نظام عالمي متحكم بمسار مستقبلنا. نحن في عالم الجنوب أو العالم الثالث نعيش فترة ما بعد الاستعمار. انتهى الاستعمار بوجهه المعروف، وجه الجيوش المسيطرة على أراضي الآخرين ومقدراتهم. كان لا بد في وقت ما من انتهاء هذا الوجه القبيح للاستعمار وقد انتهى فعلاً وشرح الأسباب يطول. أنا اعتقد بأن النظام العالمي لم يتغير ولكن تحتم عليه أن يأخذ مظهراً جديداً أو لباساً جديداً. نحن خرجنا من قبضة الاستعمار المباشر لكن نمط الحياة هو نفسه داخل نظام عالمي لا يزال يتحكم بكل ما يتعلق بالتنمية والتقدم. هناك حالة تقهقر بعد فترة سادت فيها الثقافة العربية والاسلامية حوالى ثمانمائة سنة. الأسباب إذاً ثقافية وفكرية واقتصادية وسياسية. هناك حالة رفض واتخذت طابع الاصولية. تقصد أنها أزمة هوية؟ - إنها أزمة معنى. لقد استعدنا الأرض ولكن ماذا نبني عليها؟ أزمة هوية في العمق لأن هويتنا ذابت داخل المعطيات الفلسفية والسوسيولوجية للنظام العالمي. هذا النظام لم ينشأ من فراغ. له فلسفة ومقاييس فلسفية واقتصادية وسوسولوجية وليس مجرد نظام اقتصادي. الدخول إلى هذا النظام يفترض الخضوع لهذه المقاييس. كانت المسألة في السابق استرجاع الأرض وهي مسألة أساسية. بعد ذلك صار السؤال كيف نعيش على هذه الأرض وكيف نبني حياتنا. نمط العيش صار مفروضاً علينا. لنأخذ مثلاً في المدارس الثانوية والجامعات. العلوم التي ندرسها هي علوم طورها الغرب. نحن نترجم هذه العلوم فقط إلى العربية وهي في جوهرها تحمل علامات المجتمع الذي طورها. علم الاقتصاد الذي ندرسه جاء من المجتمع الغربي والأمر نفسه بالنسبة إلى السوسيولوجيا. مساهمة الاسلاميين محدودة ماذا كان حجم مساهمة الاسلاميين في الثورة الجزائرية؟ - لم تكن كبيرة أبداً. أقولها صراحة. كانت "جمعية العلماء" تعبر عن الظاهرة الاسلامية. لم يكن العلماء سياسياً مع التيار الذي يسعى الى استقلال الجزائر، كانوا مع التيار الذي يسعى الى اتحاد الجزائر مع فرنسا. وفي وقت ما قبلوا الجنسية الفرنسىة. في الثلاثينات كان رمزهم الشيخ بن باديس وفي الستينات كان الشيخ بشير الابراهيمي. لحظة الثورة كان بن باديس قد توفى وتولى الشيخ الابراهيمي مسؤولية "جمعية العلماء" التي لم تشارك في تأسيس الثورة وفي الجهود الأولى والبنية الأولى لا بل كانت تعارض نوعاً ما. لم يشاركوا في العمل المسلح؟ - في البداية لا. التحقوا بعد نحو سنة ونصف سنة ولم يكن لهم دور عملي مؤثر على الصعيد العسكري. حين انتصرت الثورة ووصلت الى السلطة كيف تعاملت مع الاسلاميين؟ - تعاملت معهم بطريقة جيدة. الثورة استمرت سبع سنوات ونصف سنة. هم التحقوا بعد 18 شهراً من اندلاعها. كان بعضهم انضم بصورة فردية حتى قبل التحاق "جمعية العلماء" بالثورة. على ماذا كانوا يركزون خلال عهدك؟ - لم يكن لديهم نشاط كبير وكانوا عملياً داخل الحكم. وزير الأوقاف كان منهم وكذلك رئيس المجلس الاسلامي اضافة الى عناصر أخرى. كانوا يصدرون بين وقت وآخر بيانات يشددون فيها على المحافظة على الهوية الاسلامية، ولكنهم لم يكونوا في موقع المعارضة. كيف تنظر الى تعامل عهد الرئيس هواري بومدين مع الاسلاميين؟ - تعامل معهم من موقع الرفض وكان يواجههم بعنف في بعض الأوقات وبينهم من أدخل السجن. التيار الاسلامي لم يكن آنذاك بهذه القوة. متى بدأت محاولة الاسلاميين التسلل الى قطاع التعليم؟ - ارجو ان تسمح لي بالعودة قليلاً الى الوراء. قلت اننا ارجعنا الأرض ولكن لم يكن لدينا تصور لعملية التنمية. كل بلد اجتهد بطريقته سواء في مصر او الجزائر او غيرهما. أنا مثلاً اخترت أسلوب التسيير الذاتي انطلاقاً من "وأمرهم شورى بينهم". أخذت هذا المفهوم من التجربة اليوغوسلافية. في مصر أخذوا بالتجربة التي كانت سائدة في العالم الاشتراكي وتعتبر ان التنمية هي بناء الصناعة الثقيلة والكهرباء. هذا لا يعني اننا انسلخنا عن هويتنا ولكن كانت هناك مسألة محاربة الاستعمار وعلينا ان نتعامل مع قوى موجودة تقف ضد هذا الاستعمار. هل تقصد ان نسخ النموذج السوفياتي تم في مرحلة بومدين؟ - نعم التركيز تم في مرحلة بومدين. انا مشيت في الصناعة الخفيفة وتحديداً في التكامل بين الزراعة والصناعة لأن مسألة النفط لم تكن مهمة جداً عندنا في حينه فكل مدخولنا من النفط لم يكن يساوي 20 مليار سنتيم فرنك. ثروة البترول جاءت في عهد بومدين. انا بدأت الحوار مع الفرنسيين من أجل اتفاق في شأن البترول لكن بومدين هو الذي وقع عليه وبعدما انجزت أنا كل شيء، فقد كانت لنا علاقات جيدة مع الرئيس شارل ديغول. كل عملية التنمية خضعت إذاً لمقاييس الغير إذ لم يكن لدينا تصور حضاري مكتمل. ونحن حتى اليوم لا نملك مثل هذا التصور حتى ولو كان هناك بعض المعالم على الطريق. هذا يعني ان مسألة المعنى او الهوية لم تحل. اليوم هناك المجاعة وتعثر التنمية وتراجع الزراعة وهذه الظواهر موجودة في عالم الجنوب خصوصاً العالم الاسلامي وتحديداً في افريقيا حيث خط الساحل اسلامي تماماً من مقديشو الى نواكشوط. قصدت القول ان السبب لا يرجع فقط الى العوز او فشل التنمية بل ايضاً الى نمط الحياة إذ وجدنا في النظام العالمي بعض المقاييس التي تناقض ثقافتنا فحصل الاصطدام. أرفض احتكار الاسلام هل تعتبر ان بومدين تعامل تعاملاً خاطئاً مع الاسلاميين؟ - انا لا اعتبر ان بومدين او جمال عبدالناصر تعامل تعاملاً خاطئاً مع الاسلاميين. أقول صراحة إن هذه الظاهرة تعبر عن شيء هو حق لكن الترجمة التي يعطونها له ليست على حق. انها قضية حق اصلاً ولكن التعبير عنها خاطئ. هناك في هذا النهج مسائل تتنافى مع الاسلام. خذ مثلاً قصة الاكراه. وهناك مسألة الايحاء بأنهم وحدهم يمثلون الاسلام وهذا خطأ لأنه يؤسس ما يشبه الكنيسة داخل الاسلام ومثل هذا الأمر غير وارد اصلاً. لا كنيسة في الاسلام ولا وجود لوسيط او وساطة. لا يجوز ان يحتكر فريق الاسلام ويصور الباقين كأن اسلامهم غير مكتمل. ان الاعتقاد باحتكار الحقيقة خطأ خطير أدى الى تجاوزات في الممارسة وتبريرات وممارسات دفعت الآخرين الى رفض هذا النهج. هل تعتقد بأن الرئيس الشاذلي بن جديد تعامل تعاملاً صحيحاً مع الظاهرة الاسلامية ام اعتمد الأسلوب نفسه؟ - في رأيي انه اعتمد الأسلوب نفسه. أصاب في شيء وأخطأ في شيء آخر. والرشوة أيضاً إذاً انت ترجع الظاهرة الى أزمة الهوية والفشل الاقتصادي والعلاقة الصدامية مع النظام العالمي؟ - وأضيف الى ما قلت: المسؤولية الناتجة من ممارسات الحكام وتفشي الرشوة وشيوع الفساد وضرب تماسك النسيج الاجتماعي وهو تماسك ظهر لدى انتصار الثورة. أدى الفساد الى تخريب مؤسسات الدولة وتخريب الحزب. بسبب الفساد لم تعد الناس تصدق الشعارات المرفوعة ولم تعد تثق بالمسؤولين او من حولهم. وهذا الأمر أدى الى تآكل التضامن. وحدة النسيج والتطلعات هي التي مكنت الجزائريين من الانتصار على مئات الألوف من العسكريين الفرنسيين معهم مليون ونصف مليون مزارع مسلح. بفضل هذا النسيج نجحت حرب التحرير. فعلى رغم المساعدات التي قدمها الأخوة العرب في صورة سلاح فإن الجزائر قدمت الرجال وتضامنهم. في أي عهد استفحل الفساد؟ - بدأ مع بومدين وتحديداً مع زغار الذي كان زميلاً لبومدين واستفحل في عهد الشاذلي وأخذ مدى واسعاً. الأسبوع المقبل: الحلقة الثانية