"ولدت شعريّاً في لبنان" يقول أدونيس في الجزء الثاني من هذا الحوار، مستعيداً علاقته بهذا البلد الذي "كان مشروعاً مرتبطاً بالمستقبل". ويتوقّف الشاعر عند اكتشافه للشعر الفرنسي، كما يتناول مجلّة "شعر" التي "إحتضنت اعمالاً ذات رؤى متضاربة". "العقيدة القوميّة أثّرت فينا بلا شكّ لكنّنا لم نفرضها على المجلة ك "منيفستو" أو بيان - يقول الشاعر - أما "التمّوزية" فحُمّلت بالدلالات أكثر مما تستحق". ويؤكد ان "شعراً بلا مشروع يشتمل على الحضارة كلها، ليس سوى وجهة نظر خاصة". و يستغرب أن الجماهير "بدلاً من التطلع نحو مزيد من الانفتاح والحرية الشخصية، تتطلع نحو سجون أخرى". لنعد إلى مطولتك "قالت الأرض"؟ - كتبتها سنة 1949، اثر اعدام انطون سعادة الذي كان أشبه بالاغتيال. في "قالت الأرض" أثر من بدوي الجبل وسعيد عقل. ما كانت صلتك بالشاعرين آنذاك؟ - كنت قرأتُ ديوان "رندلى" وتأثرت به بلا شك. وتأثرت كما تقول ببدوي الجبل. كنتُ آنذاك بين اللغة المصفاة فنياً - لغة سعيد عقل، واللغة المصفاة روحياً - لغة بدوي الجبل. مع النضج الشعري اختفى هذا التأثر. هل بقي ضامراً؟ هل تشعر أن درجة من التواصل استمرت مع الشاعرين، في أعمالك اللاحقة؟ - لا أعتقد. انفصلت عنهما كلياً في أعمال لاحقة. بقيت في قصائدي الأولى على درجة من التأثر بسعيد عقل وبدوي الجبل، لكن هذا انتهى بعد "قصائد أولى"، وتحديداً بدءاً من "أوراق في الريح". وبدوي الجبل، هل هو فعلاً قريب لك؟ - هو ابن خال أمي تحديداً. اجتذبني في البدء صفاء شعره وما فيه من أصالة وعمق تاريخي ومتانة كلاسيكية، فكان له التأثير الأوفى في "قالت الارض". فيما بعد، وفي "قصائد أولى" انتقل التأثر إلى سعيد عقل. ماذا عنى لك جبران خليل جبران؟ - لا شيء، لم أقرأه. في المناسبة لم أكن قارئاً مثابراً للنتاج الشعري آنذاك. لم أعرف السياب مثلاً إلاّ متأخراً في مجلة "شعر" أواخر الخمسينات. لم أكن يومها متابعاً لما يتداول ويُقرأ من شعر. لم تهتم إذاً بممثلي الرومنطيقية العربية، أبو شبكة ولبكي وغصوب وعلي محمود طه؟ - إطلاقاً. لم أعرف عنهم شيئاً، ولم أقرأهم قبل العام 1971، حين بدأت التدريس الجامعي في كلية التربية في الجامعة اللبنانية. جبران قرأته في تلك الفترة، واكتشفته ورأيت أنّه بداية النظرة الحديثة، لا في نتاجه حصراً، بل في آرائه التي أفصح عنها في رسائله، وفي كتابه "المجنون". وهذا ما أوضحته مطوّلاً في "الثابت والمتحوّل". من قرأتَ إذاً من المعاصرين؟ - لا أذكر أنني قرأت معاصراً واحداً قراءة وافية. قرأت مثلاً قصائد لميشال طراد، كنت أقرأ قصائد لا شعراء. لا أذكر أنني قرأت شاعراً قراءة كاملة. قرأت متفرقات لأمين نخلة وبشارة الخوري الأخطل الصغير وعمر أبو ريشة ونزار قباني. متى تعرفت إلى الشعر الفرنسي؟ - بعد البكالوريا مباشرة. بمن بدأت. - بدأت ببودلير. تعرفت في اللاذقية على كمال فوزي الشرابي، مفيد عرنوق، عبد العزيز أرناؤوط، عيسى سلامة. كان هؤلاء أعضاء في الحزب السوري القومي، شغوفين بالأدب الفرنسي، وأصدروا مجلة "القيثارة" المخصصة للشعر. وهذه أول مجلة عربية خاصة بالشعر. احتضنتني المجلة ونشرت لي بضع قصائد، ثمّ توقفت بعد وقت قصير. كان هذا الجو طريقي إلى الشعر الفرنسي. شجعني هؤلاء الشبان على القراءة بالفرنسية، وأمدوني بكتب بينها "أزهار الشر" لبودلير. لم تكن لغتي الفرنسية يومذاك تسعفني على قراءة بودلير، لكنهم شجعوني. قالوا لي خذ قاموساً وابحث فيه. هكذا كنتُ أقرأ. وأنبش في القاموس عن معنى كل كلمة، وأكتبه على جنب الصفحة. هكذا امتلأت نسخة "أزهار الشر" بمعانيها العربية المكتوبة بحبر أخضر. كانت هذه ترجمة شبه كاملة. لم أحتفظ للأسف بهذه النسخة، وأنا نادم على ذلك، لو بقيت لكانت نسخة تاريخية. هل يمكننا الكلام على تأثرّك ببودلير آنذاك؟ - مستحيل، لم تكن معرفتي تؤهلني لمثل هذا التأثر. ماذا قرأت بعد بودلير. - انتقلت إلى حلب لتأدية الخدمة العسكرية سنة 1954. وهناك قرأت رينيه شار وهنري ميشو وماكس جاكوب. وجدت كتباً لهم في حلب. وجدت أيضاً كتباً لريلكه ونوفاليس، وقرأتهم جميعاً على نحو ما قرأت بودلير. لكن لغتي كانت تتحسن مع الوقت، وقاموسي يزداد غنىً. ربما صرفني انهماكي بهذه القراءة عن الاهتمام بالشعراء العرب المعاصرين. نشأت على كل حال وعندي انطباع لا أعرف مصدره، ولا أدري اذا كان صحيحاً، أن الشعر العربي المعاصر لا يقدم لي شيئاً. وبما أنني اخترت أن أكون مختلفاً، عليّ أن أقرأ ما يساعدني على ذلك. هذه القراءة، هل اتصلت بجوّ معيّن، بموجة سائدة ذلك الحين؟ - كان هناك وسط لهذه القراءات، ووسط متقدم فعلاً. واللافت أن هذا الوسط تكوّن داخل المد العروبي والسوري القومي. وجدت ذلك الحين في حلب نواة سوريالية، من اثنين: أورخان ميسر والدكتور علي الناصر. الدكتور علي الناصر لم ألتقِ به وان وردتني منه رسالة تشجيع واعجاب بإحدى قصائدي. أما أورخان ميسر فنشأت بيني وبينه صداقة عميقة وطويلة. كان أورخان هو الآخر عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الامر الذي سهّل صداقتنا، وطالما التقينا في دمشق وتحدثنا في شؤون السوريالية وسواها. فهو عميق الثقافة، ضليع بالانكليزية. الخدمة العسكرية، كيف كانت تجربتك فيها؟ - مُرّة بجميع المعاني. لم يحن الوقت لبسطها، لكني أمضيتها وفي يدي دائماً كتاب أنظر فيه نهاري وليلي... كنت أحس أنني سجين هذا العالم الذي لا تربطني به صلة. وبالفعل أمضيت في السجن الفعلي معظم فترة الخدمة العسكرية. بعد أشهر التدريب الخمسة، أمضيت بقية الفترة في سجن المزة في دمشق، والسجن العسكري في القنيطرة. لبنان والمستقبل كانت محنة؟ - محنة عبثية وفاجعة. إذ لا معنى لأن تسجن وأنت لم تقم بعمل ضدّ الدولة أو المؤسسة. ولا تهمة توجّه إليك سوى عضويتك في الحزب القومي. ثم تخرج بعد سنة ونصف من السجن بالبراءة! خرجت منهاراً من السجن؟ - لا. خرجت أقوى وأنضر. هل هذا ما دعاك للمجيء إلى لبنان؟ - المناخ العام هو الذي دعاني. كنت أشعر أن الجو يتجه نحو ايديولوجيا قومية عربية مغلقة. وأتعجب من أنه بدلاً من التطلع نحو مزيد من التحرر، مزيد من الانفتاح والحرية الشخصية، تتطلع الجماهير نحو سجون أخرى. سجون كبيرة. إضافة إلى ذلك، كانت هناك محنة الحزب الذي اتهم باغتيال المالكي. هذا ما دعاني إلى التسلل إلى لبنان أواخر العام 56. يعني أنك بلغت نضجك الشعري في لبنان؟ - ولدت شعرياً في لبنان، وهذه الولادة أعتبرها الأولى. ولادتي الطبيعية لم يكن لي فيها خيار، أما ولادتي الشعرية فكانت في بيروت مع مجلة "شعر". هل كان للمكان أثر في ذلك؟ - عند قدومي إلى لبنان، واتصالي بأوساطه الشعرية، وانطلاق مجلة "شعر"، أحسست أن لبنان بلد مختلف. لا في تركيبته الطائفيّة أو موقعه الجغرافي أو وضعه التاريخي والاقتصادي، إنّما لكونه مشروعاً. ولأنه مشروع فهو مرتبط عمقياً بالمستقبل. وجدت في لبنان على هذا النحو ما يطابق تطلعاتي ورؤيتي. لبنان مشروع بمعنى أنه غير مكتمل ولا ناجز. أما البلدان العربية الأخرى فمكتملة أي أنها ناجزة. لبنان كالحب يُخلق باستمرار، وأجمل البلدان تلك التي كالحبّ، أو كالقصائد، لا تكتمل. بهذا المعنى لبنان مختلف ولبنان ضرورة سياسية وكيانيّة لهذه المنطقة... هذا إضافة إلى كونه، بطبيعته، بؤرة لثقافات متنوعة، وكونه منفتحاً على العالم. كيف انتقلت إلى قصيدة "التفعيلة"؟ - لا أعرف. قد يكون ذلك تطوراً طبيعياً للايقاع والشكل. قد يكون نوعاً من العدوى والتأثر. لكنني لا أذكر نصاً معيناً أو قصيدة معينة في هذا الصدد. قد تكون رغبة كامنة في لاوعيي الشعري. إنها بالتأكيد عوامل عديدة ومتضافرة، لكن يصعب بالضبط تحديد عملية الانتقال إلى شكل معين من الكتابة. مجلة "شعر" إلى أي درجة تأثرت رؤيتها الشعرية بالعقيدة السورية القومية؟ - كان يوسف الخال خارج الحزب آنذاك، لكن العقيدة السورية القومية جذبت فئات كبيرة ومتنوعة من المثقفين، خصوصاً نظرية سعادة في الأدب التي عبر عنها في كتاب "الصراع الفكري والأدب السوري". هذا الكتاب الذي يحوي مقالات سجالية مع نقاد وشعراء، أثّر علينا في نقطتين. الأولى الأسطورة كبؤرة رمزية وحلقة وصل بالماضي القومي والثقافة القوميّة، والنقطة الثانية هي البعد العمودي والتجربة الشخصية. فالشعر ليس انعكاساً للواقع بل بناء للواقع، ليس مرآة للمجتمع والواقع بل منارة. بهذا المعنى دخل البعد الاستشرافي إلى الكتابة الشعرية. لكننا، يوسف وأنا وكل الذين اتصلوا بمشروع المجلة، لم نكن عملياً على صلة قريبة أو بعيدة بالمؤسسة الحزبية. لأن المؤسسة الحزبية كانت، وأقولها بصراحة، ضد مجلة "شعر". أعترف للمرة الأولى، أنني أغريت من قبل مسؤولين حزبيين، بترك المجلة ورفضت. وكل ما يشاع عن هيمنة الحزب على المجلة لا نصيب له من الصحة. هل يمكن اعتبار تنظير مجلّة "شعر" مقابلاً فنياً، إذا جاز القول، للعقيدة القومية؟ - ليس للعقيدة القومية بل لأفكار سعادة، المفكر أكثر منه القائد الحزبي. أفكاره أثرت فينا من دون شك، كل بحسب تجربته ووعيه، لكننا لم نفرضها على المجلة ك "منيفستو" أو بيان. ولم تكن مبدأ عاماً لها. قصائد بلا ثقل أليس في النزعة الاحيائية، حتى لا نقول التموزية، أثر قوي من الفكر القومي؟ - حُمّلت التموزية أكثر مما تستحق بالدلالات. فهي تسمية ظاهرية وشكلية: كل شاعر تموزي في الأساس، لأنه يسعى إلى خلق عالم مختلف متجدد، كما يوحي الرمز التموزي. والتمّوزية تطلق في العادة على شعراء متنافري العوالم والتجارب. ناهيك عن أن الشاعر نفسه قد يكون تموزياً وعبثياً في آن واحد. في شعري قصيدة واحدة قد تنطبق عليها التسمية التمّوزيّة. إنّها "البعث والرماد"، أما بقية قصائدي فلا. البطل في شعرك أليس صدى بعيداً للبطل القومي؟ - البطل؟ البطل الذي هو بمعنى آخر الموحي. - البطل موجود فقط في "قالت الارض". أما في سائر شعري، فهو الرمز. إنه المثابر والمكتشف والرائي والمنتصر، أكثر مما هو البطل، بالمعنى النضالي أو الكفاحي. وشخصية مهيار؟ - مهيار ضد البطولة. مهيار شكاك. وهو، بهذا المعنى، بطل. الفرد المتمرد والرافض. - هذا ليس بطلاً. بطل مضاد. - إنه رمز لأفكار وتجارب متداخلة ومتناقضة. رمز أكثر منه تشخيصاً. رمز تجريدي أكثر منه عيانياً. هل يمكننا الكلام على اتجاهات في مجلّة "شعر"؟ - لا أظن أن "شعر" احتضنت أكثر من اتجاه. ثم ماذا تقصد ب "اتجاه"؟ أنا أطلق االتسمية على شعر خلفه رؤية كاملة، ورؤية حاملة مشروع. ألا يشكل شعرك وشعر أنسي الحاج مثلاً اتجاهين مختلفين؟ - ماذا تعني باتجاه؟ رؤية، مشروع مختلف. - لكل واحد؟ أنسي رؤيته في تلك الفترة عدمية بالكامل، أما أنت فلم تكن كذلك. - بالنسبة إلي يصعب القول إن للشاعر مشروعاً، الاّ إذا كان في عمله ابتكار. ابتكار صورة جديدة للعالم وابتكار علاقات جديدة مع هذا العالم. حين تتكامل هذه العناصر لدى شاعر، تقول إن عنده اتجاهاً. أما في مجلة "شعر"، فكنا في حالة تململ، حالة تلمس، حالة تذوق، حالة تعلم وحالة استبصار. لم تكن تكونت عندنا اتجاهات. ألا تجد اتجاهات جنينية في النتاج الشعري لتلك المرحلة؟ - أنسي الحاج بعد كل هذه المسيرة، يمكن القول إن لديه اتجاهاً. خلاصة عمل. لنقل إذاً إن "شعر" احتضنت أعمالاً ذات رؤى متضاربة. - ليس تضارباً. الفرق بيني وبين أنسي هو أن شعري لا يُفهم - و"مهيار" بوجه خاص - إلا بوصفه مشروعاً لاعطاء صورة أخرى عن الموروث العربي، أو عن الشعر العربي، عبر قراءة مختلفة. لأُفهم، ليُفهم مهيار، ينبغي أن يوضع في الاطار الشعري العربي، وفي اطار الصورة التي أحاول رسمها عن الحضارة العربية. وأنسي؟ - أنسي ليس هذا مشروعه. مشروعه يقول ذاته وعذاباته واستشراساته الذاتية، ضمن عالم ذات ليست معزولة عن العالم. ما تسميه نظرة أخرى للموروث، وسعياً إلى تجدد الموروث واستمراره على نحو مختلف، ليس موجوداً في شعر أنسي الحاج؟ - إن شعراً بلا مشروع يشتمل على الزمن كلّه والحضارة كلها، ليس سوى وجهة نظر خاصة. أليس في هذا الشمول الزمني والحضاري صدى بعيد لعقيدة أنطون سعادة التي تقيم وحدة واتصالاً بين أربعة آلاف سنة من التاريخ والحضارة؟ - لا يتعلق الأمر بسعادة. كل الشعراء الكبار لديهم هذا المشروع. خذ رامبو، أنه صفحة كونية أكثر منه صفحة ذاتية. أليس ملتهم كتب؟ ألا نجد كل ثقافات عصره في نصّه؟ خذ بودلير كل الحضارة المسيحية وابعادها والدين والميتافيزيقا والمرأة والجنس... كلها موجودة عنده. الشعراء الكبار كلهم - كما يخيل إليّ - أصحاب مشاريع من هذا النوع. ما هي في نظرك أهمية مجلة "شعر"؟ - أهميّتها تكمن بالدرجة الأولى في تغيير معنى الشعر