عام 1950 صحبني أدونيس الى بيته علّمني ان الغريب دعوة الى الحرية، ونافذة في سجن التقليد، ودفقة من النبع الذي يتجدد منه العالم. المعلّم كان اسمه أورخان ميسّر. ميسّر نفسه بدا لي غريباً. وجهه مزيج من ملامح قوقازية وبلقانية وتركية تلتقي بالعروبة عند جد ما. رأيته يسلك ويتصرف مثل امير لكن بلا امارة ولا ميراث. لم يكن قد بقي له من ثروته الطائلة، ومن ثمن قرية في قضاء إدلب محافظة حلب غير عدد من قطع الأثاث العثماني العريق ومكتبة منتخبة، وذوق رفيع في ممارسة الحياة، ولطف بالغ في التوجه الى زوجته المثقفة المرهفة الانيقة فكرية طرابيشي، او في الحديث عنها. أما لوحات سلفادور دالي التي كانت تزيّن الجدران وتشكّل "نوافذ الحرية ومنابع للخيال والتأويل" فكانت جميعها نسخاً. وكان الحديث كيفما دار يمرّ بلوحة لدالي. ولا تغيب عن اورخان زيتية "الرجل غير المرئي" التي انجزها دالي بين 1929 و1933. الرجل غير المرئي في اللوحة لا يرى باستمرار. ما ان تقع العين على تفصيل من مكوّنات هذا الرجل حتى يغيب وتحضر في اللوحة عناصر مختلفة. ولقد رسمها دالي بحيث تكون مناسبة ومحلاً للرؤية الهذيانية. تتداخل وتتآلف فيها عناصر عديدة تستدعي تنوع الانتباه بتنوّع الهواجس. اما لوحة "تجربة سانت انطوان" فكانت معلقة في مواجهة كرسيّه المألوف. وفي كل زيارة كان يكشف عن جديد بدأ له في دلالات هذه اللوحة. كان شديد الاعجاب بتكوين اللوحة حيث المادة والكتلة تشف وتستدق لدى ملامسة الارض، الكتلة المادية قافلة آتية من المجهول، من الغيم بما فيها الجواد المشرئب والفيلة حاملة الهوادج والقصور ومتع الدنيا الخلاّبة، تقف بين الغيم والصحراء تكاد قوائمها تفوق الشَّعر دقة. السوريالي موظفاً كان أورخان ميسّر أذعن اخيراً لمقتضيات حياته الجديدة وشغل وظيفة لعلها وظيفة مستشار في السفارة الهندية، بعد طول احتقار للعمل الوظيفي المكتبي. ولد أورخان عام 1912 في حلب. وهو محصلة أعراق وسلالات عديدة. اجداده الأول من الانكشارية. وجدة لأبيه كانت ابنة صدر أعظم، وجدة قريبة كانت من سراري السلطان عبدالحميد. استوطنت اسرته بلدة الباب محافظة حلب منذ القرن السابع عشر زمن مؤسسها حسني باشا البابي، ونشط رجال الاسرة في التجارة وأثروا واشتروا الاطيان. وقد لمع منها في اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين رجال احرار متنورون عارضوا السلطة العثمانية، وشاركوا في ما بعد في الحركات العربية ولا سيما "الجمعية العربية الفتاة". من هؤلاء نذكر امين وعبدالوهاب ميسّر. وهذا الاخير استمر في موقع المعارضة بعد الانتداب، وتعاون مع الحركات المناهضة للفرنسيين. اما والد اورخان فهو شكيب ميسّر الذي شغل منصب وزير للأشغال العامة في سورية بين 1928 و1929. لم يتابع أورخان تحصيله. مع انه امضى زمناً في بيروت. لم يستمر في فرع معيّن. كان مأخوذاً بالطب والهندسة خاصة. اهتمامه بالطب كان نتيجة اعجابه الشديد بفرويد، واهتمامه بمعرفة اسرار الجسد البشري. اما الهندسة فكانت عنده ابجدية الفن. اتقن الانكليزية اتقاناً مميزاً، كما عرف الفرنسية وطالع بها. درس على نفسه وحصّل ثقافة واسعة ونوعية. بيت الأدب أنفق اورخان ميسّر وأخوه الفنان عدنان ميسر ثروتهما الموروثة وباعا القرية. وقد روى لي الفنان الكبير فاتح المدرس السوري الحلبي. انه كان يتردد منذ اواخر الثلاثينات على بيت صديقه عدنان ميسر. وكان هذا الصديق يعيش مع اخيه في حلب حياة تختلف عما حولهما. كانت حياتهما تشبه كثيراً حياة الاوروبيين في اللباس والطعام والقراءة والاهتمامات. ويقول المدرّس: "منذ مطلع الاربعينات كنت التقي في هذا البيت كبار أدباء حلب، الشاعر عمر أبو ريشة الصديق الدائم، والدكتور علي الناصر، الشاعر الغرائبي. كانت تعقد في هذا البيت سهرات يومية تبدأ منذ السابعة مساء وتستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، وكان الجو ادبياً خالصاً. علي الناصر يقرأ شعراً جديداً، وأورخان يشاركه احياناً. كانت سنوات الحرب قاسية جداً. لكننا كنا نجد في هذا الجو تعويضاً ومنفذاً؟ وكان هذا الجو يوفر لنا غنى فكرياً وروحياً هائلاً. هناك كنا على صلة بما يتحرك في العالم على مستوى الكتب والنتاج الادبي والفني. كان اورخان هو الاب الروحي، على فتوته وقلة نتاجه. في ذلك الجو تجمعت كتابات "سريال"، المجموعة التي صدرت في ما بعد، عام 1947، ومعظمها من شعر أورخان. وشارك فيها علي الناصر ببضع قصائد. بعد ذلك بدأ عدنان ميسّر، هذا الفنان الصامت يرسم ما توحي به اجواء "سريال" وينفذها في لوحات مائية صغيرة. وبدأت انا انفذ بعض الاعمال الزيتية في جو سوريالي. وباحدى تلك اللوحات اشتركت في اول معرض في مدرسة تجهيز دمشق عام 1947. كنا تسعة فنانين وكانت لوحتي هي وحدها السوريالية، واسمها "راقصة العصر". هذه اللوحة ذاتها حازت جائزة الاستحقاق في جامعة ليكلاند عام 1952".
وفي ما بعد، حين يغرق اورخان ميسّر في الوحدة، وينكفئ علي الناصر في مدينته الحبيبة ويتناسى زمن الحلم السوريالي ووعوده، سوف يكون فاتح المدرس الشاهد الاخير على هذه السوريالية السورية التي لم تتجاوز النطاق المحلي الضيق. وفاتح المدرّس الذي تطور كفنان مبتعداً عن السوريالية، وبانقطاع عن كبار فنانيها في العالم، لا سيما دالي، لم يشف منها تماماً. لكنها ظلت لديه نافذة هامشية، حلماً خاصاً يطل اطلالات متقطعة، ودائماً خارج معارضه وسياق فنه. لقد ظلّ أميناً لبداياته الشعرية وإن لم يدفع بها الى الميدان العام الواسع. وفي الشعر سمح لنفسه بمختلف التجارب والاختراقات. كان بدأ كتابة الشعر في الأربعينات، ونشر في مجلة "القيثارة" الطليعية التي كانت تصدر في اللاذقية 1946 - 1948 قصائد تحدّث عن مستقبل شعري. لكنه انحاز الى التصوير. كتاب الحالمين في اواخر الخمسينات، عاد الى دمشق المسرحي السوري شريف خزندار بعد ان اكمل دراسته في فرنسا وبدأ مع زميله الدكتور رفيق الصبّان اطلاق الحركة المسرحية الجديدة. شريف خزندار شاعر بالفرنسية، كان صدر له في فرنسا ديوان بعنوان "وحيدون". لكنه هو ايضاً مارس شعريته على هامش المسرح واستغلّها في المسرح. كما استثمر المدرّس شعريته في التصوير، يلتقي الحالمان اللذان يختزنان الجذور السوريالية ويصدران مجموعة شعرية مشتركة بعنوان "القمر الشرقي على شاطئ الغرب" دمشق 1962، باللغتين العربية والفرنسية. الكتاب بكل ما فيه قطعة فنية غرائبية. نفّذ بالحفر عن نسخة مكتوبة بخط اليد. أول ما يميزه هو التعامل الحرّ مع الصفحة. لا شيء يقيّد حركة السطور ولا مساحات الرسوم او مواقعها. تتداخل النصوص برسوم ذهب فيها الخيال مذاهب. الرسوم تنوب احياناً عن الكلمات. الترجمة العربية لنصوص خزندار قام بها المدرّس واختار ما يحلو في العربية وما يحلو له ولرسومه. الترجمة الفرنسية لنصوص فاتح المدرس قام بها شريف خزندار، كتبها في الهامش وحيثما اختار ذوقه التشكيلي. اما النصوص ذاتها فلم تكن اقل حرية واستسلاماً للخيال، كهذا النص للمدرس: "أميرتي الميتة… لقد هوى باشق البواشق على جبال الزعفران تنامين أيقونة بلا قلب" وله ايضاً: "جذوع البلوط المرّ وهذا الشهاب العاقل يعبر الفضاء بلا ظلال نحفر اسماً على جدار ولتكن، إذن، جميع العيون محيطات رائعة." من سيحتضن هذا الكتاب الذي يصدر في بداية الستينات وموجة الالتزام في أوجها؟ من سيهلل لما فيه من جنون جميل؟ أورخان ميسّر بالتأكيد، اورخان ميسر الذي لم ينس يوماً حلمه السوريالي. هكذا يقدم الكتاب، لكن دون ان ترد كلمة السوريالية. اورخان ميسر الذي ظل يترصد اي بارقة او علامة تجيء من بلاد اللاوعي التي لم يهجرها وإن كان التفّ حولها واختزنها كسرّ شخصي. * * * قبل ان يخوض الشعراء روّاد التجديد، في العراقولبنان ومصر، سجالاً مع التقليديين حول شرعية التحرر من الشطرين واعتماد التفعيلة الحرة، كان اورخان ميسّر وصديقه الشاعر علي الناصر ذهبا بعيداً جداً. كان الدكتور علي الناصر الذي ارتبط لقبه العلمي باسمه ارتباطاً وثيقاً حتى انه كان يوقع به كتب ونشر منذ عام 1927 قصائد تحررت من الشطرين حيناً ومن القافية الموحدة احياناً. كما ظهرت في ديوانه "الظمأ" المنشور عام 1931 قصائد نثر اضافة الى قصائد التفعيلة الحرة، وتداخلت بكلمات القصائد إشارات وأشكال رياضية. ولم يكلّف علي الناصر نفسه يوماً عناء السجال او الدفاع عما يقوم به. فالمشكلة الحقيقية بالنسبة له كانت خارج مسألة الشكل. ما جمع علي ناصر بأورخان ميسّر هو فهم للتحرر يتجاوز الأشكال الادبية. الأول كان يطمح الى توسيع دائرة المحسوس والمتخيل، الى تفجير المرئي والمعقول بحيث ينفلت من أسر نظامه، وكان أورخان ميسر يرمي الى تحرير اللاوعي كواسطة لتحرير الانسان، وكلاهما ينتهي في النتيجة الى تجاوز كثير من المصطلحات والاعتبارات الفنية والاجتماعية. بدأ الدكتور علي الناصر مبكراً جداً. وهو يكبر أورخان بعشرين سنة. ومسيرته العلمية والأدبية مختلفة تماماً بل مناقضة. وكذلك حياته ومنشؤه. علي الناصر من منطقة حماه في سورية، من اصل بدوي ينتمي الى تميم من جهة ابيه، ومن أصول مدنية مسيحية من جهة امه. درس الطب في الأستانة وجاء الى حلب اثناء الحرب العالمية الاولى برتبة مقدم في الطب العسكري. بعد هزيمة العثمانيين وانفصال سورية استقرّ في حلب ومارس مهنته. اتصل بالثقافة الفرنسية خاصة والاوروبية عن طريق الاستانة نفسها، وعن طريق السفر، فضلاً عن صداقات مع شعراء انكليز كانوا في جيش الحلفاء وأقام احدهم في حلب زمناً بعد الانتداب. وجهان للحياة كانت حياة علي الناصر منقسمة الى قسمين مختلفين. الحياة المهنية التي اوصلته الى بعض المناصب. فقد كان في مطلع الخمسينات مديراً للصحة في حلب. والحياة الثانية هي الحياة الشعرية التي ينشد عبرها البعد عن الاولى وعن عالم الحدود وحتى العقل. لم يهتم علي الناصر بإيجاد تسمية او عنوان لاتجاهه الشعري. كتب اكثر مما تكلم. لغته وخلاصه كانت القصيدة لا الدعوة او الريادة. كان يسمي نفسه "المجنون الكوني" و"المتشائم الكوني"، ويبحث عن دواء لذلك في الشعر. كان الشعر بالنسبة اليه لعبة سحرية لاكتشاف ما اختبأ تحت الظواهر، نافذة جنونية للهرب من رتابة العالم وحدوده الصارمة. لم يتوقف عن الاستنجاد بالخيال وتآويله الغريبة للأشياء، حتى اخذت الصور تحت قلمه تعبر في مثل مسار السحر: لا يعرف القارئ متى تنقلب على ذاتها وتتحوّل الى نقيضها. في شعره تبدو أشياء العالم على شفا الانزلاق والتحوّل الخرافي. لا يكف العالم عنده عن الازدواج والتناسخ، ويقدر ان يصل في بعض القصائد الى الفظاعة نفسها. وفي ديوان "الظمأ" قصائد تحمل عناوين من قبيل "سيميا" و"الحولة متامورفوز". هذا بالتأكيد ما جعل الريحاني يصف مخيلته بپ"البطّاشة". انه هنا يذكرنا بدالي، ولا سيما في المرحلة التي سمّاها دالي نفسه "الهذيان التأويلي النقدي" لولا ان علي الناصر كان نشر عام 1928 مجموعة شعرية بعنوان "قصة قلب" كما كتب قصائد ديوانه "الظمأ" بين 1928 و1931. ولم ينشر دالي نصّه حول هذا الاتجاه الا عام 1930، وهو الاتجاه الذي تمثل في ما بعد في لوحة "الرجل غير المرئي" السابق ذكرها. هل كانت مصادفات ام لقاء في هذيان الخيال، ام تجليات لشخوص علي الناصر المتناقضة؟ هكذا لمّا التقاه أورخان ميسّر، وكان هذا في أوج حماسته واندفاعه، اكتشف فيه نموذجاً سوريالياً، فراق ذلك لعلي الناصر. اما الدكتور عبدالسلام العجيلي الذي كتب مقدمة "اثنان في واحد" 1968، وهو مجموعة شعرية شارك فيها الفنان عدنان ميسر بلوحات سوريالية. وتبين المقدمة ان علي الناصر قد انسحب من صفة السوريالية. مع ذلك فالخيال الجامح الغرائبي التحويلي او التأويلي لم يفارق النصوص، وإن كان عدد القصائد ذات الشطرين قد رجح على قصائد النثر. * * * هذه الحركة السوريالية، اذا صح وصفها بالحركة، قد انحصرت في اطار ضيق لبعد حلب عن عواصم التفاعل والانفتاح الثقافي، والارجح لأنها جاءت مفاجئة للذوق العام والوضع الثقافي العام. وسوف يلازم علي الناصر مدينته وهامشيته، ويكتفي بنوافذ الجنون والحلم. اما اورخان ميسّر فينتقل الى دمشق في بداية الخمسينات. لم يكتب أورخان ميسر كثيراً. "سريال" هي مجموعته الوحيدة. وقد اعيد طبعها بعد وفاته ووفاة علي الناصر، وقدّم لها ادونيس. كما خلف ميسر مقالات فكرية جمعت ونشرت بعد وفاته بعنوان "مع قوافل الفكر" دمشق 1974. إنجاز اورخان ميسّر كان حياتياً. وتأثيره تم بطرق الاتصال الشخصي والحديث الشفوي. ففي دمشق، كما في حلب، ظل بيته ملتقى القلقين المتسائلين عن كل جديد. في هذا البيت تعرفت على السوريالية وأسلافها. هناك كان يدور الكلام على بودلير ورامبو وبريتون ودالي وماكس إرنست وبيكاسو، وكانت تطرح آراء ونظرات ليست بالضرورة معصومة او جديدة كلياً او مهمة دائماً، وكثيراً ما كانت انطباعية، ولكنها دائماً كانت مثيرة للأسئلة والجدل ومحرضة على البحث. كان أورخان "متعصباً" لحرية الرأي، اذا صح هذا الوصف. وبالنتيجة اوجد مناخاً ثقافياً غنياً منفتحاً ومتصلاً بكل السجالات التي كان دائرة. ولم تكن السوريالية، في الغالب، مدار حديث، بل الحرية. * * * فما هو "سريال" أورخان ميسّر وعلي الناصر؟ يقول أدونيس في تقديمه للطبعة الثانية من "سريال": "أصف نتاج أورخان ميسر الذي تضمّه هذه المجموعة، بأنه مشروع تحرر، وبأنه، في المقام الأول، مشروع تحرر حياتي … بل ان من خبر الحياة التي عاشها الشاعر، وتفحصها عن كثب، كما تيسر لي، نسبياً، قد يميل الى القول ان الجانب الفني في حياته لم يكن الا غنى ولا الاكثر افصاحاً. فقد كان، بتعبير آخر، شاعر "حياة" اكثر منه شاعر "أدب"." يستند أورخان ميسر في سورياليته الى نظرية اللاوعي عند فرويد، وهذا ما يجمعه بالسوريالية الفرنسية التي تزعمها اندريه بريتون. اما الآلية الفنية التي يتبلور بها اللاوعي او يتمثل عملاً فنياً فمفهومها عند ميسّر مختلف عن تعريف السورياليين للكتابة الاوتوماتيكية. وهو يراها كما يلي: التجارب الحاصلة من الصدام بين النوازع والغرائز وبين مقتضيات التكيّف مع المحيط الطبيعي - الاجتماعي - الثقافي "تتقطّر وتتساقط في الخزان الكبير الذي ندعوه بالعقل الباطن. هذا العقل الذي يحاول دائماً ان يوجد تلاؤماً بين جميع العناصر التي تعيش متجمعة فيه. وتنفرد احدى هذه المحاولات بتمثىل حالة انسانية عامة تنبثق من الفرد وكأنه كل ما مرّ وكل ما سيأتي من اجيال. ويصدف ان يقذف العقل الباطن هذه الحالة كما هي تماماً الى دائرة الشعور فيسجلها الفرد كما هي ايضاً. وهذه هي السوريالية" سريال ص 18. ملاحظات على بروتون غير أن بلوغ السوريالية، كما يرى ميسّر، نادر، ولا يتحقق بنجاح لأن الصور اللاواعية، وإن انطبعت، لدى انبجاسها، انطباعاً واضحاً، فان تسجيلها بالرسم او الكتابة لا يتهيأ دائماً، اولاً يتحقق بصدق. فهي اولاً مراوغة سريعة هاربة، وثانياً، عندما يجهد الفنان لمحاكاة ما تبقى من اشكالها وخطوطها فانه لا بد ان يعمد في ذلك الى اصطناع خطوط جديدة ليستكمل تسجيل الانطباع الذي خلفته. وهنا لا بد ان يجد نفسه امام المعجم التقليدي او السجلات التقليدية في التفسير والتشبيه والابانة، وما تقدمه من خطوط وألوان وصياغات قائمة في الذاكرة. هذا ما يجعل أورخان ميسّر يحكم بأن ما يوصف بالسوريالية هو بالاحرى PARA SURRALISM او شبه سوريالية. اما نتاج اندريه بريتون ورعيله فليس في نظره سوريالياً. بريتون، كما يرى، ليس سوريالياً الا في النظرية. اما نتاجه فهو في رأي ميسر لا يخرج عن كونه "آثاراً ذهنية مباشرة تحيط بها خطوط هندسية من الرمزية المتطرفة" ص 21 الواقع اننا لو تأملنا مفصلاً في تعريف أورخان ميسّر للسوريالية لوجدناه يلتقي بتعريفات عديدة مألوفة للفن والعملية الفنية حين يُنظر اليها كحدس وإشراق. فاللاوعي هنا مخبر التفاعل بين "النتائج الفلسفية التي ينتهي اليها العقل عن طريق الدرس العلمي الشاق" و"الاختبارات الفردية". وفي هذا المخبر "ينصهر الكل هناك مع الحنين الأبدي الذي يربطنا بالأرض ومع تمرد الغريزة التي لا تعرف السنين ولا تفقه الزمن." و"يتبنى اللاشعور هذه المادة المصهورة ويتعهدها بالصقل والتهذيب بأساليبه الخاصة، ثم يقذفها الى الوجود سلسلة من قصص تنتفض ظلالاً للفرد في مهده ولحده وللانسان في كهفه وحقله ومخبره وفي ناطحات السحاب" ص 20 - 21. السوريالية هنا فيما تؤكد على الذاتي الفردي لا تلغي العام الانساني التاريخي المجرد. نكاد نقول اننا امام مثالية لكنها بدل ان تأتي من غيب ما تنبثق من خبرات الانسانية التي تجمعت وتفاعلت في لاوعي فنان. ولو اننا تفحصنا قصائد اورخان ميسّر لوجدناها تجسّد التداخل بين الحسّي والمجرد، تقدم باستمرار مشاهد شاسعة وأزمنة مديدة تلتمُّ او تتقاطع في بؤرة وفي لحظة. مثلث يقف على رأسه، قاعدته التاريخ البشري وتجاربه، ورأسه يرتكز على محور يصل بين لاوعي الفنان وأعماق الأرض. كان دائماً يتحدث ويعرض تصورات وتحليلات مدهشة. سألته مرة: هل ستكتب هذا؟ أجاب، الكتابة تأخذ وقتاً وتقضي على حرارة الاكتشاف وفوريته. الكتابة تجمّد نشوة الكشف. وكنت آسف ولا أعلّق. لحظة الكشف، تلك هي في نظره النشوة العظمى. صديقه علي الناصر قد تكلم بكل الاشكال الشعرية قصيدة النثر، قصيدة التفعيلة الحرة، قصيدة الشطرين، الشعر المرسل، الشعر المنثور، القصة الشعرية او الملحمة كما سمّاها، بكل الاشكال التي يقتضيها خياله المنفلت الراكض وراء شهوة التكثير والتنويع. اما هو فقد بدا لي مرصداً او وتراً مشرعاً يقتنص ارتعاشات العالم وزعازعه. * * * وانتهت حكاية الشاعرين وأحلامهما كما تنتهي الفواجع العبثية: في مطلع الستينات كان أورخان ميسّر في أوج الرصد، وتراً فائق الاصغاء. قُبض عليه لأسباب سياسية حزبية، وما كان حزبياً الا ببعض افكاره، وأخصّها الارتباط بالأرض. سُجن وأهين وما انقذته نوافذ الحلم. لم تكن تلك ارتعاشات. كانت زعازع ما احتملها ذلك الوتر المرهف. ولم يعش بعد ذلك طويلاً. توفي ليلة عيد ميلاده في 6/5/1965. وأما علي الناصر فقد قتل في عيادته بحلب في ظروف غامضة في مطلع السبعينات، مع انه كان قد تجاوز الثمانين من عمره. وأما تلك السوريالية فقد ظلّت بلا ورثة. * كاتبة وناقدة لبنانية. من أمين الريحاني الى علي الناصر من تعليق أمين الريحاني على قصة "البلدة المسحورة" لعلي الناصر، في رسالة بعث بها اليه وقد أثبتها علي الناصر في مقدمة قصته الملحمية "دنّ الدموع" الصادرة عام 1954، حلب. الفريكة - لبنان في 27 تشرين الثاني سنة 1935 صديقي العزيز الناصر … هوذا الإكليل وقد ضُفر من العوسج والغار، وزُركش بأزاهر النرجس والجلّنار. أمدُدْ اليه يدك، ولا يغيظنّك العوسج فيه، فالجلّنار ينطق بما في قصتك "البلدة المسحورة" من النار الملتهبة المتأججة، والنرجس يهمس بما فيها من الحب والحنان، والغار يقول: هوذا أثر أدبي يطمح الى الذكر الدائم، وهو في طموحه جدير بالاكرام، اما العوسج فيلذكرك، أيها الصديق العزيز، بأن رجلَي أدبك، وإن كان رأس ذلك الأدب في الجوزاء، لا تزالان في الأدغال. … أقول: إنّ في كتابك هذا عبقرية مبدعة، ولكنها لا تزال تتعثر في مدارج الفن. وأنت لا تكبح المخيّلة منك ولا ترعى دائماً وحدة الاسلوب ولا التناسق في الفكر والروح … ومع ذلك فقد جئتنا بالمبتكر … وإني أبثّك أشواقي القلبية، وأرجوك أن تنوب عني بالسلام على العزيزة زوجتك، وبالقبلة الى العزيز ولدك، حفظهما الله ووقاهما جِنّتك.