تماماً كما كان متوقعاً وزع مهرجان قرطاج السينمائي الأخير جوائزه بالتساوي والتراضي بين الدول والتيارات التقليدية في السينما العربية والافريقية. وهو في طريقه الى هذا التوزيع عجز عن فعل الشيء الوحيد الذي كان يجدر به أن يفعله: عجز عن مشاهدة الجديد، العنيف والمرير والقاسي الذي تمثل في واحد من الأفلام العربية النادرة في جدتها وتجديديتها التي تحققت في الآونة الأخيرة: "سجل اختفاء" للفلسطيني إيليا سليمان. "بالإجماع... والله العظيم بالإجماع" قالها وابتسم صديق كان عضواً في لجنة تحكيم مهرجان قرطاج السينمائي الأخير. والإجماع الذي يعنيه، كان من حول اختيار فيلم الجزائري مرزاق علواش "سلاماً... يا ابن العم!" للفوز "بالطانيت" الذهبية، أي بالجائزة الكبرى في المهرجان. وهذا الفوز لم يكن، فقط، متوقعاً، بل معروفاً لأن النتائج كلها تسربت قبل حفلة الختام بساعات طويلة، بحيث لم تأت الحفلة بأية مفاجأة على الاطلاق. والحال انه ما كان لمثل هذا المهرجان في وضعيته الراهنة وفي الوضعية الراهنة للانتاج السينمائي العربي أن يسفر عن مفاجأة. وتركيبة لجنة التحكيم نفسها لم تكن مؤهلة لذلك. فالزمن الذي كان فيه مهرجان كالمهرجان القرطاجي "يجرؤ"، في أيام الطاهر الشريعية أو في أيام حمادي الصيد، على أن يستفز و "يصطاد في الماء العكر" فيمنح جائزته الكبرى لفيلم جريء مثل "عمال سود... جيرانكم" لمحمد هندو أو "مغامرات بطل" لمرزاق علواش، هذا الزمن ولى وصار جزءاً من الماضي. ولو كان قائماً لضرب المحكمون عرض الحائط بكل حسابات التسوية والعلاقات الديبلوماسية و "حصص" الدول الصديقة من الجوائز، واكتشفوا أن أمامهم ثلاثة أفلام فقط في طول مهرجان قرطاج وعرضه يستأهل تتويجها انتقال كل هذا الرهط من السينمائيين والنقاد وأهل المهنة الى قرطاج: فيلم من مصر هو "عفاريت الإسفلت" من إخراج أسامة فوزي، وعلى الأقل لجرأته الموضوعية ومحاولاته المتواضعة في التجديد الشكلي، وفيلم من أفريقيا السوداء هو "شجرة الدم" لفلورا غوميس لشاعريته وعمقه وأبعاده الاسطورية وعلاقته مع الطبيعة، أما الفيلم الثالث فهو "سجل اختفاء" لإيليا سليمان من فلسطين أي من... اللامكان. المشكلة ان لجنة تحكيم مهرجان قرطاج لم تجرؤ، أو لم تفهم شيئاً وظلت بعيدة، في نهاية المطاف، عن الروح القرطاجية التي كان صاغها، ذات يوم بعيد، آباء المهرجان المؤسسون. "عفاريت الإسفلت" و "شجرة الدم" سبق لنا أن تناولناهما لمناسبة عرضهما في مناسبات أخرى، فيبقى "سجل اختفاء" هذا الفيلم الساحر القوي، الذي يقطع نهائياً مع السائد في السينما الفلسطينية والسينما العربية، تماماً مثلما سبق لأفلام مثل "المومياء" و "مغامرات بطل" و "الهائمون" و "مرسيدس" ان قطعت مع تلك السينما. وهنا تكمن قوته، ويكمن كذلك ضعفه المهرجاني. حكاية فلسطينية! مهما يكن لا بد أن نبادر فنقول منذ الآن انه لئن كان "سجل اختفاء" نسي من قبل محكمي المهرجان فلم يذكروه ولو بتنويه جدي، فإن السبب لا يكن فقط في عجز المحكمين عن فهمه، بل في الحملة التي شنت عليه عبر "التليفونات العربية" التي اشتغلت بين القدس والقاهرة وتونس بحيث هيئ الجو لموقف معاد من الفيلم، حتى من قبل أن يشاهده أي شخص كان... لكن الفيلم وقع، أيضاً، ضحية، جدته ولغته السينمائية المستقلة التي لا تنتمي الى أي سائد في السينمات التي يمكن للقرطاجيين ان يكونوا على علم أو شغف بها، لينتمي الى تلك المحاولات التجريبية التي تعلن من دون مواربة ارتباطها بتيار سينما المؤلف كما عبر عنه مخرجون من طراز الياباني أوزو والايطالي انطونيوني والألماني فيم فندرز والأميركي جيم جارموش. ونحن لئن كنا نذكر هذه الأسماء هنا فليس الأمر مصادقة، لأن الإحالة الى سينما هؤلاء واضحة في "سجل اختفاء" بل تكاد تكون عنصراً أساسياً من عناصره. ومن هنا بسبب إغراق الفيلم في مرجعيته السينمائية، ولكن كذلك في مرجعيته الموسيقية والادائية وفي ارتباطه بالسينما كما يمكن تصورها في سنوات التسعين، لم تكن قراءته سهلة. ومنذ الآن لا بد أن نقول ان فيلماً تجديدياً الى هذا الحد كان يتطلب قراءة تجديدية من الواضح انها لا تتوافر، حتى الآن، لدى ما يمكن ان نطلق عليهم اسم الجمهور العريض. ولكن ما هو "سجل اختفاء"؟ هل قبل أي شيء آخر يوميات كتبها بالكاميرا مخرج فلسطيني إيليا سليمان يعود الى فلسطين ليرصد ما تغير فيها بعد السلام أملاً في أن يحقق فيلماً عنها، لكن زمن الفيلم ينتهي من دون أن يتمكن إيليا سليمان من تحقيق فيلمه. ومن هنا أتى الفيلم فيلماً عن الفيلم، أو بالأحرى عن الفيلم. ولذلك اذا اعتبرنا ان هذا العمل يتميز بوحدته العضوية التامة، حيث يمثل كل عنصر فيه جزءاً منه، ويرتبط فيه الشكل بالمضمون ارتباطاً لا فكاك فيه، لا يعود عنوان الفيلم نفسه ترفاً، بل جزءاً أساسياً من لعبته، وإن كان فعل الاختفاء يظل غامضاً: أهو اختفاء الفيلم المطلوب تحقيقه، أم اختفاء فلسطين، أم اختفاء الإسرائيليين؟ عن أي اختفاء يتحدث العنوان وبالتالي الفيلم كله؟ الجواب مفتوح. فإيليا سليمان في هذا الفيلم لا يتوخى العثور على إجابات وبالطبع لا يتوخى الوصول الى أي يقين. انه يضع العلامات ينشرها في فيلمه على شكل صور وأغنيات ولقاءات وتصرفات وأحداث غامضة وشخصيات تتأرجح بين الطبيعية والكاريكاتورية وأماكن... خاصة، ولحظات تّعد ثم لا توصل الى أي مكان. وذلك لسبب بسيط وهو أن المخرج العائد الى عكا والناصرة ليرصد حال الناس بعد سلام أوسلو، لم يرصد أي تغيير: الملل، السكوت اليومي، الفراغ المحيط والمحبط، الأخلاق بغثها وسمينها، العلاقات الاجتماعية شبه المفقودة لدى شريحة من الفلسطينيين حاملي الهوية الإسرائيلية من فلسطينيي احتلال 1948. ولربما كان التغير الوحيد، الذي لم يرصده الفيلم بأكمله، وان كان أبقاه مكبوتاً مضمراً، هو أن الناس نقدت حتى الذاكرة حتى الحلم وكأن السؤال الذي طرحه انطوان شماس صاحب رواية "عربسك" غداة إعلان ياسر عرفات قبل سنوات عن قيام الدولة الفلسطينية الى جانب دولة إسرائيل وفحواه: "أي هوية لنا، نحن عرب إسرائيل، في صباح اليوم التالي؟"، كأن هذا السؤال انتقل فجأة من حيز النظرية، الى حيز الفعل ففاجأ أصحاب العلاقة وأسكتهم. ... وينقطع الحديث فجأة أسكتهم لأن السكوت هو العنصر الأساسي المشترك في "سجل اختفاء"، السكوت هو المسيطر، حتى إيليا سليمان مخرج الفيلم وشخصيته المحورية المعتاد على الحكي طوال ساعات وساعات بلا انقطاع في الحياة الطبيعية، لم يفه بأي حرف في طول الفيلم وعرضه. والعبارات التي يتم تبادلها في الفيلم تبدو جوفاء بلا معنى، تخدم فقط في كمية الإحباط التي تسبغها على مشروع الفيلم داخل الفيلم. إذ في كل مرة حاولت فيها شخصية في الفيلم أن تتكلم خاصة المخرج، الكاتب طه محمد علي، الأصدقاء في المقهى وهم يتحدثون عن أطروحة تتعلق بأنه كان للإنسان ذنب في الماضي، المتجاورون في مقصف الكولونية الأميركية، المنتدون في النادي حيث كان يفترض بإيليا سليمان أن يشرح لغة فيلمه المقبل، في كل مرة كان المخرج يحاول أن يلتقط طرف الحديث لكي يبني عليه الفيلم غير ان الحديث لا يوصله الى أي مكان فيعجز عن التقاط موضوع فيلمه. قسم إيليا سليمان فيلمه "سجل اختفاء" الى قسمين، رصد في أولهما وقائع الحياة اليومية لأسرته ومدينته بشيء من الحنان وكثير من الحزن، وحاول في الثاني والذي عنونه ب "سجل سياسي" أن يرصد التغييرات السياسية. وفي الحالتين كانت النتيجة واحدة، حتى وإن كان حمل القسم الثاني شحنة سينمائية وسياسية أكثر مدلولية وخطراً. وذلك من خلال شخصية الفتاة التي التقاها في مكتب تأجير الشقق، ثم أدخلها في العديد من المشاهد الأخرى بشكل حلمي ربما يفيد بأن شخصيتها قد تصلح لأن تكون محوراً للفيلم المطلوب. ولعلها قدمت هنا في أن تكون "أنا" آخر لإيليا سليمان حيث حملها، دون غيرها، مخزون العنف والغضب الذي بدا، هو، عاجزاً عن حمله. ومن هنا لم يكن من المصادفة أن تتولى هي "بطولة" ذلك المشهد الرائع في الفيلم حيث تحمل جهاز اتصال كان سقط من شرطي إسرائيلي وتستخدمه لرسم "طوبوغرافية" للقدس عبر إرسال دوريات الشرطة الى هناك، في لعبة مزدوجة، تبدو من ناحية أشبه بألعاب الفيديو، ومن ناحية ثانية أشبه بنبوءة حلمية عن الكيفية التي يمكن بها تحريك مخزون العنف الفلسطيني، عبر لعبة استيعاب واسترجاع استخدامي في خانة الممكن: 1 الأسلحة التي ليست في الفيلم سوى ألعاب نارية، والمتفجرات التي ليست سوى أسهم نارية، 2 للأيديولوجيا الصهيونية نفسها عبر استخدام واحدة من أشهر أغنيات الأمل الصهيوني تغنيها الفتاة عُلى طبري وهي جالسة يحضنها العلم الفلسطيني في قاعة المسرح الوطني الفلسطيني. وعنصر الاستيعاب يبدو هنا واضحاً: حيث ان معاني الأغنية التي كانت جذبت ملايين اليهود الى فلسطين يمكن أن تنطبق الآن على الفلسطينيين. ويمكن فهم مخزون العنف والغضب الذي يعبق به هذا المشهد إن نحن تذكرنا كم ان اليهود حريصون على ذاكرتهم وعلى الاستحواذ على دور الضحية وأهل "الفيتو" لا يشاركه بهما أحد. ولعل واحدة من النقاط الأساسية التي يتسم بها فيلم "سجل اختفاء" هو تلك الاستعادة التي يمارسها على مفاهيم صهيونية مثل "الفيتو" و "العودة بعد انتظار" و "لعبة الضحية والجلاد". وفي اعتقادنا ان قراءة متأنية لكل هذه العناصر في الفيلم ستوصل المتفرج الى جزء من لعبة إيليا سليمان الأساسية: اللعبة المزدوجة حيث في الوقت نفسه الذي يعلن إيليا سليمان عجزه التام عن تحقيق فيلمه وعن العثور على أي أمل في السلام العتيد، نجده يرمي علامات عديدة عن الأمل وعن فعل المقاومة وعن الرفض التام لما يحدث على لسان شخصية الفتاة. ترى أوليست هي التي تقول للشرطة الإسرائيلية عبر جهاز الاتصال: "القدس لن تتوحد أبداً" "أوسلو لن تأتي أبداً"؟ هنا يفصل المؤلف/ المخرج بين موقفه الشخصي المستند الى ما يرصده في الناصرة وعكا، وحتى في أريحا، وبين ما يمكن أن يحدث في واقع ليس هو مسؤولاً عنه وقد لا يكون هو نفسه رصده. وليس مصادفة هنا ان كل مشاهد عُلى طبري نقلت من عين البصاص الذي هو المخرج، وكأن هذا الأخير يريد أن يقول لنا: "الغد موجود. المؤسف انني، أنا، لم أره" والحال ان ادراك هذا البعد الأساسي من أبعاد رؤية إيليا سليمان من شأنه أن يدفع الفيلم في اتجاه آخر ويحمله قراءة أخرى يفتح الفيلم عليها، لكنه لا يتوقف عندها طويلاً، وذلك، بكل بساطة، لأن "سجل اختفاء" كما صوره إيليا سليمان، لا كما سوف يصل في نهاية الأمر الى متفرجيه، هو فيلم عن إيليا سليمان وعن عجز إيليا سليمان عن رؤية المتغيرات. والحال ان المخرج رمى العديد من العلامات في هذا السياق، واضعاً في ترف متفرجه أكثر من إمكانية لقراءة الفيلم. ولعل هذا ما جعل نوعاً من سوء التفاهم يسيطر على العلاقة بين المتفرجين وبين الفيلم، وهو سوء تفاهم يذكر مثلاً بذاك الذي طبع عملية تلقي رواية "البيضاء" ليوسف ادريس، حين نشرت للمرة الأولى حيث لم يدرك النقاد البعد الذاتي فيها ولم يدركوا ان ما يبدو قاطعاً ونهائياً في موقفها "المعادي لقوى اليسار المصري" انما كان موقف البطل/ الراوي، الذي يجابه بإدانة المؤلف نفسه عبر لعبة النقد الذاتي. طبعاً ليس لدينا في "سجل اختفاء" أي نقد ذاتي، ولكن لدينا ما هو أعمق وأهم: لدينا كل المشاهد التي يصورها إيليا سليمان، من دون أن يكون لصاحبها في الفيلم: فهو لئن رصد: كبصّاص أضواء وروتينية حياة الناس في مدينته، فإنه ما أن تحررت منه كاميراه واستقلت عن رؤيته، حتى صورت حياة أقل روتينية وأكثر حيوية، بل عابقة بالأمل والطرافة: العرس، الشقيقان المتشابهان وقد أصيبا معاً في رقبتيهما، تبادل إشعال السجائر بكل ود بين شخصيتين مقبلتين على الحياة. ومرة أخرى: مشاهد عُلى طبري في القدس. في كل هذا يبدو لنا المخرج وكأنه يقول: هذا ما شاهدته بأم عيني. ولكن هذا، من ناحية أخرى ما يمكن أن يكون حدث من دون أن أنتبه اليه. وهذا ما يفصل الفيلم بين عالمين: عالم الرؤية الذاتية المحيطة، وعالم الواقع الموضوعي الأقل احباطاً والأكثر حملاً للامكانات. الوصول الى جوهر الفن في هذا الانقسام يصل إيليا سليمان، في اعتقادنا، الى جوهر الفن، حيث يلغي في التقسيم المتنوي بين الخاص والعام عبر استيعاب اللعبتين معاً وبين الفنان المشاكس وعالم الاجتماع المضطر للتعاطي مع الواقع الموضوعي. ويبقى المتفرج حراً بعد ذلك ان هو اختار ان يقف الى جانب الفنان أو الى جانب عالم الاجتماع، فإن اختار الموقف الأول سيجد أمامه سينما متفوقة ومتميزة، سينما التلميح والاشارة التي ترتبط عبرها كل عناصر الفيلم ببعضها البعض بحيث لا يبدو أي عنصر وكأنه من قبيل الحشو: هنا تتكامل الأغاني مع روحية المشاهد من "ايوة باشتاق لكل ساعات" الى "يا مسافر وحدك" الى "ليلة الوداع" مروراً بأغنية "برلين ? مانهاتن" لليونارد كُوِن وأغنية السلام التي تغنيها الإسرائيلية أطلس، وصولاً الى أغنية العودة الصهيونية. وفي هذا الإطار نفسه تلعب الإحالات السينمائية دوراً متميزاً من استخدام الكاميرا المنخفضة على نسق سينما يوسيجورو أوزو مشهد الخالة ومشهد طه محمد علي وفي الحالتين تستخدم تقنية الكاميرا المنخفضة للدلالة على التوقع حيث يكون المخرج على وشك التقاط أول موضوعه لفيلمه العتيد، الى استخدام تكرارية جيم جارموش ذات السذاجة الخادعة، الى فراغات انطونيوني الى أسلوب فهم فندرز التدويني اليومياتي في "طوكيوغا" مثلاً، وصولاً الى غمزة عين ظريفة في مشهد رجال الشرطة وهم يبولون على الجدار، الى مشهد مماثل وطريف في فيلم قديم حققه عاطف سالم في الخمسينات بعنوان "أرض السلام"، مروراً باستخدام اللوحات المكتوبة كما عند غودار في نوع من التقسيم الذي يتخذ دلالاته من أسلوب اليوميات الذي اتبعه المخرج. أما إذا اختار المتفرج جانب عالم الاجتماع في الفيلم، فإن بإمكانه أن يرصد مع المخرج عالم الحياة اليومية، بما فيها من أبعاد أخلاقية موقف الخالة من الفتاة المخطوبة، أو الحوار الطريف فوق مركب الصيد، وعالم الحصار الفيتوي الذي يعيش فيه فلسطينيو 1948، ومشهد النافورة في تل أبيب، حيث تأتي دلالة المشهد السياسية المطلقة من توقف النافورة والموسيقى حين يشرع إيليا سليمان في التمتع بهما، وعودتهما الى العمل حال مغادرته المشهد "ان تل أبيب ترفضني" ذلك ما يقوله المشهد. ولكن فلسطين كلها ترفض إيليا سليمان الذي لم يعد قادراً على أن يعثر لا على طفولته ولا على حاضره ولا على مستقبله في هذا المكان الهلامي الذي هو إسرائيل/ فلسطين بعد أوسلو. وهذا الرفض التام، الرفض المعكوس تعبر عنه اللقطة الأخيرة في الفيلم، حين يطغى العلم الإسرائيلي على الشاشة متواكباً مع موسيقى النشيد الوطني الإسرائيلي المسروق كما يبدو لنا من موسيقى "المولداف" للروماني سميتانا وهو أحد مقاطع قصيدته السيمفونية "وطني"... لكن هذه حكاية أخرى بالطبع! بينما والد إيليا ووالدته نائمان لا يباليان وهو واقف في صمته وحيرته، كما وقف دائماً طوال الفيلم في صمته وحيرته ولا سيما في المشهد الرائع الذي يبدو فيه أشبه بباستر كينون حين يدخل رجال الشرطة الإسرائيليون الى شقته في القدس للتفتيش ويخرجون غير عاثرين على أي شيء خطير معددين حصيلتهم: أغاني راغب علامة ومصطفى قمر، كتاب لكارل كراوس وأوراق... أوراق. في المشهد الأخير، تقول حيرة إيليا سليمان كل شيء، أو تقريباً كل شيء وتتركنا نحن المتفرجين أمام حيرتنا وأسئلتنا وأمام كل الإمكانات المفتوحة. ولكن خصوصاً أمام يقين واحد: مع فيلم "سجل اختفاء" الذي لا يشبه أي سينما فلسطينية سبقته، ها هي السينما العربية تولد من جديد، لكن مهرجان قرطاج عجز عن لعب دور القابلة.