في قضايا الجاسوسية، تبطل التكهنات الصحافية وتتحدث الاوراق الرسمية والوقائع والتفصيلات، حتى وإن كانت شحيحة لاسباب جديرة بالاعتبار. وفي ملف الاسرائيلي المتهم في مصر بالتجسس للدولة العبرية، رسالة رسمية عاجلة بعثت بها وزارة الخارجية قبل نحو اسبوعين الى وزير الخارجية الإسرائيلي دافيد ليفي. وتقول الرسالة: "بالاشارة الى مذكرتكم الرسمية يوم 12 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، نبلغكم بان الاسرائيلي عزام متعب عزام متهم بالتجسس لحساب اسرائيل، وبأن اقواله في التحقيقات تضمنت اعترافاً بالتهمة المنسوبة اليه، وستجرى محاكمته امام القضاء المصري". وقبل ساعات من تسليم هذه الرسالة، كان الرئيس حسني مبارك حسم - امام الصحافيين - الجدل والاتصالات المكثفة المتعددة الجوانب التي جرت في الكواليس الديبلوماسية حول طلب اسرائيل تسليم المتهم واغلاق الملف، فأكد ان "القضاء المصري سيتولى امر هذه القضية وهو صاحب الكلمة فيها". فيما اعتبره المراقبون اشارة واضحة الى ان القاهرة قد اتخذت قرارها السياسي بعد الاطلاع على ملف التحقيقات. وقال مصدر ديبلوماسي كبير في الخارجية المصرية ل"الوسط": "ان قضية عزام اصابت اسرائيل بالذعر الشديد بعدما توهمت استرخاء الاجهزة الامنية المصرية". واعتبر القبض على المتهم "مؤشرا إلى يقظة هذه الاجهزة". ورأى "ان مثل هذه التصرفات يثبت ان اسرائيل لا تفكر بمنطق السلام". وفي المعلومات الشحيحة التي رشحت من التحقيقات، ان المتهم الاسرائيلي كان يركز على جمع معلومات خاصة بمنشآت اقتصادية مصرية منها مشروع محطة نووية لتوليد الكهرباء. وكان احيل مرتين على نيابة امن الدولة العليا التي مددت حبسه مرتين، اولاهما لمدة خمسة عشر يوما، والثانية لمدة خمسة واربعين يوما اضافية. وفي محاولة لتخفيف التوتر في الازمة الناشبة بين مصر واسرائيل، سمحت سلطات القاهرة للقنصل الاسرائيلي شوكي جاباي بلقاء عزام مرتين، فالتقاه منفرداً في مقر سجنه في ليمان طره بجنوب العاصمة، ثم التقاه ثانية في احدى قاعات نيابة امن الدولة العليا في حضور مسؤولين امنيين مصريين. وخلال اللقاءين، تفحص جاباي المتهم وتأكد له عدم تعرضه لأي اصابة أو تعذيب او ضغط وان حالته الصحية طبيعية. وروى القنصل "ان عزام شكا من انه لا يعرف سبب احتجازه في مصر، وانه طلب اتخاذ اجراءات سريعة للافراج عنه وطمأنة عائلته زوجته وأبناءه الأربعة"، فأبلغه ان شقيقه وفا الذي كان يعمل معه في مصنع مصري للنسيج غادر القاهرة الى اسرائيل في الاسبوع الفائت. لكن القنصل الاسرائيلي ابدى تفاؤله بإمكان انتهاء القضية قبل انتهاء مدة سجن المتهم 45 يوماً، وعبر عن "ثقته بالقضاء المصري وعدالته". كيف كشفت القضية؟ ويذكر ان القضية كشفت بعدما قدمت السفارة الاسرائيلية في القاهرة بلاغاً رسمياً الى مدير ادارة اسرائيل في وزارة الخارجية المصرية السفير فاروق غنيم، وجاء فيه ان مواطنا اسرائيليا من اصل درزي يدعى عزام متعب عزام يحمل جواز سفر رقمه 6675013 اختفى في القاهرة منذ الخامس من شهر تشرين الثاني نوفمبر الجاري. وطلب البلاغ من السلطات المصرية "المساعدة في العثور عليه". وتسلمت الخارجية المصرية البلاغ قبل يومين من انعقاد مؤتمر القاهرة الاقتصادي 12 الجاري اي بعد خمسة ايام على اختفاء عزام، إثر توجه شقيقه وفا الى السفارة لابلاغ القنصل أمر غياب شقيقه. وإثر البلاغ بدأت القضية تتضح تدريجا فذكر شهود عيان ان ثلاث سيارات داكنة اللون وقفت امام "فندق البارون" بضاحية مصر الجديدة، ونزل منها اشخاص يرتدون ملابس مدنية تبادلوا حديثا لدقائق ثم غادروا الساحة المواجهة للفندق وبصحبتهم عزام الذي لم يبدِ أي مقاومة أو يحاول الاستغاثة بأحد. وشاعت القضية اثر اعلان اجهزة الامن المصرية احالة عزام على نيابة امن الدولة العليا بتهمة "التجسس لمصلحة جهاز الاستخبارات الاسرائيلي الموساد". وطاولت أيضاً مصرياً اسمه عماد عبد الحميد اسماعيل بتهمة "تنفيذ تكليفات جمع معلومات عن منشآت اقتصادية وعسكرية لمصلحة دولة اجنبية". وخلال التحقيقات التي جرت بسرية شديدة، اعترف عماد اسماعيل، وهو من قرية الراهب في محافظة المنوفية التي تعد كبرى المحافظات التي نزحت منها عمالة مصرية الى اسرائيل، بانه تعرف الى الضابط عزام خلال زيارته لاسرائيل قبل اشهر فطلب منه جمع معلومات عن بعض المنشآت الاقتصادية المصرية ذات الصلة بالتصنيع العسكري، وبكوادر الوحدات العسكرية. وتناولت اعترافات المتهم المصري المبالغ المالية التي تقاضاها من عزام، وروى عملية تجنيده في اسرائيل والطريقة التي خدع بها هناك على يد فتاتين اسرائيليتين. الادلة وعندما جمع المحققون بين المتهمين، سعى الاسرائيلي في البداية الى انكار كل الاقوال التي سردها المصري بخصوص اللقاءات والمعلومات والطريقة التي كانا يتعاملان بها، الا ان إصرار عماد - وفقا لما قاله مسؤول امني ل"الوسط" - أربك عزام خصوصا بعدما واجهه رجال الأمن بأدلة ضبطوها في منزل عماد وفي غرفة عزام في "فندق البارون". وطاولت التحقيقات المهندس سمير رياض صاحب "مصنع طيبة للنسيج" حيث كان عزام يعمل في منطقة شبرا الخيمة الواقعة بالقرب من طريق مصر الاسكندرية الزراعي. وزارت "الوسط" المصنع الذي يعمل فيه اكثر من الف عامل مصري في مجال صناعة الملابس الداخلية والخارجية. وقال رياض ل"الوسط": "لم يكن عزام اكثر من فني ميكانيكي متخصص في صيانة الآلات الميكانيكية الدقيقة. وكان الهدف من وجوده في المصنع نقل الخبرة الى الفنيين المصريين". واضاف: "ان اي عامل او فني اجنبي يُستقدم الى مصر سواء من اسرائيل او من غيرها يتم ابلاغ الجهات المعنية للحصول على التراخيص اللازمة لعمله فضلا عن اجراءات دخوله الى مصر". وأكد أنه اتبع كل الاجراءات القانونية في استقدام العمالة التي تعمل غالبيتها بصورة موقتة. واشار الى ان صناعة النسيج المصرية نجحت في منافسة نظريتها الاسرائيلية، وحتى القضاء عليها، إذ ان عددا من المصانع الاسرائيلية لم يتمكن من المنافسة فأغلق ابوابه وباع معداته. واللافت في قطاع النسيج ان التعاون المصري - الاسرائيلي يتجاوز مسألة الآلات والصيانة الى التسويق، حيث يعلق النساجون المصريون آمالا على شركات التسويق الاسرائيلية. على صعيد آخر، فتح ملف المتهم الاسرائيلي بالتجسس، ملفات الاسرائيليين العاملين في مصر ويتراوح عددهم بين 30 و40 في قطاع النسيج فقط، كما فتح ملفات المصريين المقيمين في اسرائيل وحصلوا على الجنسية او تصاريح للاقامة، وتجري حاليا إعداد ملفاتهم لمراجعتها من الناحية الامنية. ويذكر ان اسرائيل كانت قبضت قبل 45 يوما على ثلاثة مصريين اتهمتهم بالتسلل إليها، ولم تبلغ الخارجية المصرية رسميا عنهم