لم يكف الانسان عن بحثه الدائب عن اسرار الشيخوخة. وكم تناول في اساطيره القديمة الرغبة بالبقاء طويلاً على قيد الحياة التي حفزت السومري غلغامش بطل الملحمة الانسانية الاولى على اجتراح المعجزات والحلم بالخلود المستحيل. السؤال السرمدي لا يزال بانتظار الاجابة الوافية، لكن الانسان الذي يعجز عن ايقاف زحف الشيخوخة قادر على تأخير وصولها وفق رأي العلم... والواقع اللذين يرصدهما التحقيق الآتي: سنوات طويلة مرت والفرنسية جان كالمان لا تبرح دائرة الضوء كلما ورد ذكر الاعمار والمعمرين. وكم كتب الصحافيون احتفاءً بالمرأة العجوز التي غطت صورها الكبيرة والصغيرة مساحات "شاسعة" من صحف العالم. ولم يفت "الوسط" وربما مجلات اخرى ان تنشر لقاءات مع السيدة التي ذاع صيتها كأكبر معمرة على قيد الحياة. بيد ان جان كالمان التي تتربع على عرش السن حتى في عرف مؤسسات كبيرة عرف عنها توخيها للدقة الشديدة، قد "سرقت" هذا المجد من آخرين. ويبدو انها فازت باللقب والشهرة الواسعة التي تأتي معه لمجرد انها محظوظة عاشت عمرها الطويل في اوروبا حيث تُصنع اخبار العالم. ومن يدري، ربما كان هناك كثير من المعمرين في اميركا الجنوبية والقفقاس وجبال الهملايا وبلدان "واطئة" بعيدة لم تتناقل وكالات الانباء اخبارها مثل اللبناني علي محمد حسين 134 عاماً والمصري عطوة موسى 156 عاماً اللذين كُشف النقاب عنهما اخيراً. و كالمان ولدت في كنف والد ميسور اشتغل في بناء السفن ما اتاح لها التمتع بحياتها ومزاولة هوايات فنية وموسيقية الى جانب التنس والسباحة ... اما علي محمد حسين فقد اكتفى بپ"رياضة" قطع الاخشاب التي اتخذها مهنة أكل منها قوت يومه خلال سنوات طويلة. واذا تباهت المعمرة الفرنسية بوثيقة ميلادها المدونة على ورقة زادها مرور الايام شحوباً واصفراراً، فان الشيخ اللبناني يملك شهادة ولادة أبقى وأشد جلالاً. فهو لا يزال يعيش في بيته الاول حيث فتح عيونه على الدنيا في يوم نُقش تاريخه بوضوح على واجهة البناء الحجري العتيق. واضافة الى هذا الدليل الذي يصعب دحضه، فإن الاحصاء السكاني الرسمي في العام 1932 يشير الى ان علي محمد حسين ولد في 1862. البنات والبنون وبخلاف كالمان التي تزوجت مرة واحدة وتوفي شريك حياتها قبل 54 عاماً، فان محمد حسين عقد قرانه على امرأتين لا تزال ثانيتهما التي تجاوز عمرها 90 عاماً تعيش معه في بيتهما القديم في قرية قانا. وفيما توفيت ابنتها الوحيدة في 1934 عن عمر يناهز 36 عاماً ومات حفيدها قبل ان يتجاوز عمر والدته، انجب الشيخ اللبناني سبعة اولاد و مجموعة من الاحفاد الذكور والاناث. غير ان العم عطوة موسى كان مزواجاً اكثر من المعمر اللبناني، فهو اقترن بخمس نساء رُزقن بقبيلة من الاولاد والبنات انجبوا له بدورهم عشرات الاحفاد الذين يعيش 35 منهم معه في احدى قرى الفيوم في مصر. كان السفر هو الهواية الاثيرة لدى جان كالمان التي جابت الدنيا ايام شبابها. اما عطوة الذي امتهن صيد الاسماك فتكبد مشاق رحلة طويلة وحيدة قادته الى الفيوم التي فر اليها في سنته الرابعة عشرة 1859 هرباً من اجباره على العمل بالسخرة مع آلاف الشباب لشق قناة السويس. وحياة اكبر معمري الوطن العربي، او ربما العالم، غريبة كطولها لا تخلو من الطرافة والسمات التي تدعو الى الاعجاب. فالشيخ المصري اقترن بامرأته الاولى عن حب جارف وعاشا 60 عاماً من دون اطفال. وعلى رغم صعوبة العيش في الريف من دون ذرية خصوصاً في ذلك الزمن، تحمل عطوة غياب الاولاد من حياته بجلد لأنه احب زوجته العاقر حباً جماً ولم يطق التخلي عنها. وعندما توفيت كان وقف على عتبة الثمانين. الا ان التقدم في العمر لم يُعقه عن تحقيق أمنيته القديمة فتزوج ورزق بالبنات والبنين. التدخين وطول العمر والشيخ المصري، مثل المعمر اللبناني، لا يزال يدخن بشيء من النهم. فهما عجزا عن الاقلاع عن هذه العادة التي لم تخرب صحتيهما على رغم سمعتها السيئة ومهارتها في انزال افدح الخسائر بجسم الانسان. وقد تفوقت عليهما العجوز الفرنسية في قوة الارادة، اذ تمكنت قبل اربع سنوات من التخلي نهائياً عن السيجارة التي لازمت شفتيها ما يزيد على قرن من الزمن. لكن القدرة على ضبط النفس وعدم الاخلال بالقواعد الصحية لا يكفيان وحدهما للتفوق على عطوة موسى وعلي محمد حسين. فهذان يعيشان مع عائلتيهما بصحة جيدة تساعد كلاً منهما على القيام بوظائفه اليومية البسيطة، بينما لم يعد جسم جان كالمان الهش يعينها على تدبر الواجبات الحياتية الصغيرة فانتقلت الى بيت للعجزة والمتقدمين بالعمر. ومع ان ارتجاف يدي علي محمد حسين جعله عاجزاً عن تحضير لفائفه من الدخان البلدي، فهو لا يزال يعيش حياة رجل كبير متقاعد. وشأنه في ذلك شأن عطوة موسى الذي يعجز لتقدمه في العمر عن الاستحمام واداء بعض واجباته التي يساعده احفاده على انجازها. واللافت ان المعمرين الثلاثة يحتفظون بذاكرة لم يتسلل اليها العطب على رغم تقادم العهد. هكذا يبدو كل منهم بمثابة تاريخ يمشي على قدمين لحقبة بعيدة. وعلى رغم ان الشيخين المصري واللبناني لم يتعلما القراءة والكتابة، فان ذاكرتهما متخمة بسيرة الاشخاص والاحداث التاريخية. والمعمر المصري يروي بعض الوقائع المتباعدة، وخصوصاً تلك التي ساهم فيها من قريب او بعيد. غير ان اتساع رقعة البلاد وصعوبة الانتقال بين اجزائها المختلفة ساهم في غياب احداث شهيرة عن ذاكرة الرجل الشيخ. اما علي محمد حسين فكان أوفر حظاً وبالتالي أغنى ذاكرة عن الاحداث التي شهدها وطنه الصغير. والرجلان لا يفوقان العجوز الفرنسية في القدرة على استعادة الاحداث والأمكنة والاشخاص... اذ تستطيع المرأة المسنة ان تروي أخبار الحربين العالميتين وحكايات عن 26 رئيساً للحكومة الفرنسية بدءاً بماكماهون الذي شاهدته مراراً. غير انها على الاغلب لا تعتزم تحضير اطروحة دكتوراه في التاريخ اسوة بالايطالي جيمستو فيلاني 103 أعوام الذي حاز الشهادة العالية قبل نحو عام. والشيخان العربيان عقدا صداقة مع الفقر منذ ايام الشباب. وقد برهن صديقهما هذا انه يتحلى بوفاء وود عجيبين، اذ لم يتخل بعد عن صحبة الرجلين. وهما لم يتمتعا بپ"طفولة ذهبية" مثل تلك التي حظيت بها كالمان، كما لم يسعفهما الحظ بلقاء اي من مشاهير الدنيا بخلاف العجوز الفرنسية التي عرفت الرسام الهولندي فان غوغ عن كثب ولم يرق لها بسبب "قباحته البالغة". رأي العلم لم يقصر التدخين عمر الرجلين المعمرين او يشلهما عن الحركة، فيما لم تعد قدما العجوز الفرنسية تقوى على حمل جسدها الهزيل منذ سنوات على رغم اقلاعها عن الدخان. قد يقال ان الشيخين عبارة عن استثناء لا يلغي القاعدة العلمية القائلة ان السيجارة تحرق عمر الانسان وجسده. لكن هذا الافتراض يضاعف اهمية الشيخين فهما يمثلان حالة نادرة للغاية. الانطباع الاخير يتعزز لدى البحث عن اسرار الشيخوخة والعمر المديد الذي لا يزال واحداً من اشد الالغاز الانسانية غموضاً. ففيما تعزي جان كالمان حياتها الطويلة الى اسباب يأتي في مقدمها "الطعام المتوازن ... والمغذي" يبدو ان الفقر المقيم حرم الشيخين العربيين من هذه النعمة التي تمتعت بها المرأة الفرنسية. والطريف ان العلم يؤيد جان كالمان، اذ يعتبر ان السعرات الحرارية المتوازنة التي يحصل عليها الانسان تؤدي الى طول العمر. لكن واقع الشيخين العربيين يأتي مرة اخرى مناقضاً لرأي العلم! وكان العالم كلايف ماكاي وزملاؤه في جامعة كورنيل اكتشفوا منذ 60 عاماً ان تغذية الجرذان بسعرات حرارية محدودة يطيل عمرها بحوالى 33 في المئة من 3 الى 4 سنوات. كما وجدوا ان تلك الجرذان حافظت على شبابها ولم تعان من الأمراض إلا قليلاً مقارنة بأقرانها ممن لم تشملهم الحمية الغذائية. واثبتت الدراسات ان الحمية الغذائية وتخفيف السعرات الحرارية يساعد جدياً في اطالة عمر القوارض والحيوانات الثدية الشبيهة بالانسان وذباب الفواكه والسمك بما في ذلك أصغر مخلوقات الله البروتوزوا أو الحيونيات البدئية. ويبدو ان المؤشرات الواردة من بعض التجارب على القرود والانسان تؤكد امكانية اطالة العمر إذا التزم المعنين بتناول وجبات طعام ذات سعرات حرارية منخفضة جداً. إلا ان التزام الانسان بمثل تلك الوجبات حتى ولو كانت مصدراً لينبوع شبابه أمر غير مضمون لأن اغراءات الطعام بأنواعه وأشكاله ولذة مذاقه قد تدفع البعض للهرب من قيود الحمية الغذائية. ويحدونا الأمل في ان يتمكن العلماء من تركيب أدوية وعقاقير تساعد الانسان في كبت شهيته والتحكم بها من دون تعرضه للمضاعفات النفسية والجسدية المزعجة التي ترافق عملية الامتناع عن تناول وجبات غنية بالسعرات الحرارية اعتاد عليها منذ سنين. وحالياً يقوم الدكتور ريتشارد وايندروتش الاستاذ المساعد في جامعة ويسكنسون - ماديسون والمدير المشارك لمعهد الشيخوخة فيها معه كثير من المختبرات الأميركية الأخرى بدراسات لفهم الركائز الخلوية والجزيئية التي يستند عليها تأثير الحمية الغذائية والسعرات الحرارية المحدودة على تأخير عملية الشيخوخة او الكبر عند الحيوانات. وتشير نتائج التجارب التي اجريت على القوارض ان تحديد مستوى استهلاك السعرات الحرارية والحرص على تزويد الحيوانات بالفيتامينات والمعادن والبروتينات والشحوم الضرورية للمحافظة على نشاط وحيوية الأنسجة قد ساعد في تأخير اصابتها بالأمراض التي تنتشر عادة مع التقدم في السن او في مراحل العمر المتأخرة كأمراض السرطان التي تصيب الثدي والبروستات وجهاز المناعة والجهاز الهضمي. كما ان ردود الفعل المناعية وعملية التخلص من السكر وبناء البروتينات لا تتضاءل عند تلك الحيوانات بل تحافظ على نشاطها لفترات أطول مقارنة بمثيلاتها التي تعيش على وجبات غذاء غنية بالسعرات الحرارية. وفي بريطانيا أشار الدكتور بريان ميري اخصائي معهد أمراض الشيخوخة في جامعة ليفربول البريطانية الى ان حرمان الجرذان من 70 في المئة من السعرات الحرارية التي تستهلكها عادة وتعويضها بأنواع من الأغذية الصحية التي تملأ بطونها من دون اتخامها بالسعرات الحرارية، ساعد في اطالة عمرها بحوالى 42 في المئة من 3 الى 5.4 سنوات. وتجري حالياً استعدادات على نطاق دولي للقيام بتجارب على البشر غايتها فهم الأسباب الكامنة وراء تأخر ظهور أعراض الشيخوخة نتيجة تحديد نسبة السعرات الحرارية المستهلكة. إذ ربما ساعد ذلك في تركيب أدوية تعطي نتائج مشابهة من دون الحاجة الى الحمية الغذائية مستقبلاً. االأسباب العلمية للشيخوخة يعزو العلماء أسباب الشيخوخة الى الآثار الضارة لما يعرف بالراديكلات الحرة Free Radicals داخل الجسم وهي عبارة عن جزيئات من الأوكسيجين الشديد التفاعل، تتكون عندما تبدأ آلية توليد الطاقة داخل الحبيبة الخيطية مايتوكوندريون باستخدام الاوكسيجين والمغذيات لانتاج الطاقة الضرورية لتشغيل معظم وظائف الخلية. وتهاجم الراديكلات الحرة مولدات الطاقة والمادة الوراثية التي تحتاجها الحبيبة الخيطية لتركيب بعض أجزائها. فتؤثر الاضرار التي تحدثها الراديكلات الحرة مع مرور الوقت على الحبيبة الخيطية وتتراكم آثارها بشكل يحد من انتاج الطاقة بينما يزيد انتاج الراديكلات الحرة. وتتورط هذه الذرات في عملية التأكسد السامة التي تحصل داخل الجسم فتصيب الأوعية الدموية بالتصلب عند اتحادها مع الكوليسترول. ويؤدي الضرر اللاحق بالمادة الوراثية DNA الى تعريض الانسان للاصابة بأمراض السرطان. كما يؤدي الضرر الناجم عنها بعد بلوغ البشر سن الثلاثين الى عجز الخلايا عن توليد الطاقة الضرورية التي يحتاجها الجسم للاستمرار بوظائفه اليومية. وتحوّل هذه الراديكلات المادة البروتينية الى مركبات عديمة الفائدة تدمر الغشاء الواقي للخلايا، اضافة الى تأثيرها السلبي على الغدة النخامية التي تنظم عملية انتاج الهورمونات. وهذا يؤدي الى هبوط مستواها والاسراع في عملية الشيخوخة. ويؤدي فقدان الجسم قدرته التخلص من جزئيات السكر الاضافية في الدم الى التصاقها بالبروتينات فيحدث تشابك بينها يسبب افراز المزيد من الراديكلات الحرة التي تنشر سمومها داخل الجسم فتصيب العين وعدستها بمرض السُد المياه الزرقاء، وكذلك الأوعية الدموية بالتصلب مع التأثير على عملية التصفية داخلى الكلى. وتسبب هذه التغيرات والتفاعلات البيولوجية عدداً من الأمراض التي تصاحب الشيخوخة مثل أمراض القلب والسرطان والزهايمر والتهاب المفاصل والسكري وتخلخل العظام والسُّد، فتؤثر على الملامح الخارجية للانسان.