جاء رد الفعل اليمني شديداً، على المستويين الرسمي والشعبي، إزاء الغزو الأريتري لجزيرة حنيش الكبرى اليمنية. وعلى رغم التزام الاعلام الرسمي الهدوء وطرح القضية في الاطار القومي والدولي، فإن الحادث أصبح حديث الرأي العام الذي يركز بالذات على استنكار "العدوان الأريتري" وانتقاد "الاهمال من جانب الدولة" وتبادل المعلومات والاخبار عن الجزر اليمنية الثلاث حنيش الكبرى وحنيش الصغرى وزقر. وظهر من مجمل الخطاب الرسمي حرص المسؤولين اليمنيين على استخدام صيغ الماضي في الحديث عن القضية وتجنب الخوض في مستقبلها قدر الامكان، وتركز هذه الصيغ على استنكار الغزو ووصفه بپ"العدوان الغادر"، و"انتهاك سيادة اليمن وتهديد أمن الملاحة الدولية" ومطالبة أريتريا بالانسحاب وإعلان الاستعداد للحوار والتأكيد على تمسك اليمن بحقها المشروع "في الدفاع عن سيادة أراضيها ومياهها الاقليمية". وعمدت اليمن الى معالجة الأزمة سياسياً في أيامها الأولى. فأوضح الدكتور عبدالكريم الارياني نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية ان أريتريا لم تذكر سيادة اليمن على الجزر الى فترة قريبة، وانها عقب الاستقلال "انتجت خرائط رسمية كان واضحاً منها ان الاريتريين لا ينازعون اليمن على الجزر، خصوصاً حنيش الكبرى وحنيش الصغرى". وأضاف: "وقلنا لهم ان خرائطكم تؤكد هذا وأن المسألة ليست مسألة الجزيرة وحدها بل مسألة الحدود البحرية بين البلدين". ولفت رئيس الديبلوماسية اليمنية الى أن الأريتريين في اللقاء الثاني الذي تم بين الجانبين برئاسة وزيري الخارجية في أسمرا 7 الجاري "وسعوا الخلاف بأن ادعوا حقهم ليس فقط في هذه الجزيرة حنيش الكبرى ولكن في الجزر الثلاث، فرفضنا توسيع النزاع بهذه الطريقة". وترى مصادر سياسية وعسكرية في صنعاء ان "المشكلة أكبر مما هي مطروحة" عبر وسائل الاعلام. وكشفت لپ"الوسط"، ان قوات أريترية توغلت في عمق الحدود الجيبوتية 18 الجاري، "لعسكرة مواقع في مواجهة منطقة ذباب وباب المندب، على رغم احتجاج جيبوتي رفضته أريتريا". واتهم أحد هذه المصادر قيادي عسكري اسرائيل بدعم العملية مؤكداً انها "اشتركت في الغزو بستة زوارق اسرائيلية متطورة وبقيادي عسكري اسرائيلي يشترك مع وزير داخلية أريتريا في قيادة العملية المتمركزة في جزيرة دهلك". الانسحاب أو الحرب وعلى رغم مما تلقته اليمن من تأييد عربي لسيادتها على الجزيرة الا ان الصمت خيم على الموقف الدولي. وترى المصادر ان مستقبل الأزمة يتوقف على احدى خطوات ثلاث: ان تنسحب أريتريا من الجزيرة او توافق اليمن على الحوار قبل الانسحاب أو ان يحتكم الجانبان الى السلاح. وتتفاوت في صنعاء التوقعات بين المسؤولين بالنسبة الى مستقبل الأزمة وطرق حلها مع أريتريا. فالديبلوماسيون متفائلون الى حد ما، ليس فقط بحكم المنطق الديبلوماسي، بل ولأنهم اكثر معرفة واطلاعاً واتصالاً بالمسؤولين في أريتريا من ناحية، خصوصاً بعد جولتي المفاوضات الأخيرتين مطلع الشهر الجاري في كل من صنعاء وأسمرا. ومن ناحية اخرى فهم يعتمدون على الوثائق والوثائق التاريخية والجغرافية والموقف العربي المؤيد لليمن اكثر من نظرتهم اليها من خلال الاعتداء والتشدد الأريتري، اذ يؤكدون مثلاً ان المشكلة "حادث طارئ وموقت" كما قال وكيل وزارة الخارجية غالب علي جميل. بينما يرى العسكريون ان "الحل في الوقت الراهن لن يتحقق بالحوار ولا بد من استعادة الجزيرة بالقوة العسكرية أولاً، ثم الحوار". كما يظهر العسكريون متذمرين من الموقف الأريتري الى حد بعيد، "لأن الأريتريين يرفضون الانسحاب رفضاً مطلقاً ولا يزالون يحتجزون كل افراد الحامية اليمنية التي كانت في الجزيرة بأكملها". وتتكون الحامية من 500 ضابط وجندي. وأضافت المصادر ان طائرة استطلاع عمودية هبطت في الجزيرة في اليوم التالي للغزو، وانقطع الاتصال معها. ومع ما يستطيع المراقب ان يلاحظه في العاصمة اليمنية من عدم أي انعكاس للمشكلة على واقع الحياة والحركة اليومية سوى الحديث العام عنها، فإن القيادة العسكرية في وزارة الدفاع، تعيش حركة اشبه ما تكون بحالة طوارئ غير معلنة. وقالت مصادر مطلعة ان اجتماعات عقدت في القصر الجمهوري برئاسة الرئيس علي عبدالله صالح القائد الأعلى للقوات المسلحة ضمت القادة العسكريين وكبار المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين والمستشارين ولفتت الى أن الجهود والاتصالات على الصعيد السياسي، تزامنت مع الاستعداد العسكري ومع حرص القيادة السياسية على حل المشكلة سلمياً، الا ان "الخيار العسكري وارد ومأخوذ في الاعتبار عند الضرورة". وأكدت المصادر ان التأييد العربي لليمن، سواء على مستوى مجلس التعاون الخليجي أو الجامعة العربية أو زعماء الدول العربية الاخرى، يجعل موقف اليمن قوياً سياسياً. ويكشف التفاوت في الرأي بين الديبلوماسيين والعسكريين في صنعاء حسب مصدر ديبلوماسي مطلع، عن جوانب مهمة تتعلق بالنظرة اليمنية الى المشكلة وتعاملها معها. وتتلخص هذه الجوانب في تركيز صنعاء على المواجهة السياسية الى آخر مدى ممكن، وعلى طرح القضية بوصفها قضية عربية بحكم الانتماء والمصير القومي، وأفريقية من حيث ان التحركات العسكرية الأريترية تؤكد توجهاً توسعياً على حساب دول الجوار وبالذات جيبوتي والسودان وأثيوبيا، ودولية باعتبارها تطوراً يهدد أمن البحر الأحمر والملاحة الدولية، وان الوجود الاسرائيلي وراء العملية وضمنها يزيد من خطورة الوضع وينعكس سلباً على السلام في المنطقة. ويشار هنا الى ان صنعاء لمحت الى "قوى خارجية تقف وراء الغزو الاريتري للجزيرة ولكننا لا نتهم أحداً سوى أريتريا". ومن جانب آخر يفسر سياسيون في صنعاء مفاجأة أريتريا بغزو الجزيرة، والتناقض في الخطاب الأريتري بوجود انقسام داخل القيادة الأريترية، بين رئاسة الدولة بزعامة اسياس أفورقي من ناحية، وجناح يتزعمه وزير الداخلية سعيد علي عبدالله ويضم قيادات عسكرية وحزبية لم تتضح عناصرها بعد. وذهب المصدر الى حد القول بأن "احتمال حدوث حركة انقلابية ضد الرئيس اسياس أفورقي أصبح قائماً". وفي هذا الصدد قال سفير اليمن في أسمرا احمد الباشا ان السفارة عملت منذ بداية الاستفزازات، على مواصلة الاتصالات بالمسؤولين الاريتريين الذين "كانوا ينفون معرفتهم بما يجري وينكرون صلتهم بأي تصرفات من هذا النوع". وأضاف انهم "بعد الاعتداء على الجزيرة بدأوا يتحدثون عن مفاوضات حولها بطريقة اظهرت أريتريا وكأنها من دون حكومة تلتزم مبادئ الاتفاقات بين الدول". ويؤكد المسؤولون في صنعاء حق اليمن في الجزر الثلاث من خلال وثائق وحقائق وأدلة تاريخية وجغرافية وسياسية، يتلخص أبرز ما هو مطروح منها حتى الآن، في الآتي: - سيادة اليمن الثابتة على الجزر تاريخياً، باعتبار السيادة في ذاتها دليلاً تاريخياً يسنده القانون الدولي. - وكما جاء في حديث الرئيس اليمني فان اليمن سمحت للثورة الاريترية اثناء معركتها للاستقلال عن أثيوبيا ومنذ عهد الامبراطور هيلا سلاسي، باستخدام هذه الجزر والانطلاق منها، ولم تعترض اثيوبيا على هذا، لاقرارها بسيادة اليمن على الجزر وإلا لما سمحت لليمن باستخدام هذا الحق لمصلحة خصومها الاريتريين. - وكذا فان الخرائط الجغرافية للجانبين تثبت هذا الحق، لوجود الجزر في الخرائط اليمنية وعدم وجودها في الخرائط التي أصدرتها أريتريا عقب الاستقلال، وهي المعتمدة حتى الآن. - وحسب ما جاء في حديث الرئيس اليمني، فإن الفنارات في الجزر الثلاث، يتم تشغيلها من الموانئ اليمنية منذ العام 1981 بالذات. - وهناك الوضع الجغرافي، اذ تقع الجزر على بعد نحو 20 كيلومتراً الى الغرب من تقاطع خط العرض 14 مع خط الطول 43 في مستطيل يبدأ من الشمال بجزيرة زقر كبرى الجزر 80 كلم فحنيش الصغرى فحنيش الكبرى 70 كلم في اتساق يحاذي الشواطئ اليمنية على بعد 40 كلم تقريباً. وقال الدكتور محمد عبدالملك العلفي، رئيس مصلحة المساحة اليمني لپ"الوسط": "نحن ذهبنا الى الجزر ووضعنا نقاط الارتفاع فيها عام 1992 زقر 645 وحنيش الكبرى 415 وفي الجزيرتين نقاط المثلثات مكتوباً عليها اسم الجمهورية اليمنية". حديث المفاجأة على صعيد العلاقات اليمنية - الاريترية، يعبر المسؤولون في صنعاء عن دهشتهم للاعتداء الاريتري على الجزيرة باعتباره لديهم مفاجأة لم تكن متوقعة صعّد الخلاف خلال ساعات الى حد المواجهة العسكرية. ووصف الرئيس صالح العلاقات بأنها كانت حتى الاعتداء وطيدة ومتطورة. وقال في حديث عرض فيه تطورات المشكلة امام لقاء عام شمل العلماء والشخصيات الاجتماعية والسياسيين والنقابيين ان اليمن عرضت على الاريتريين عقب الاستقلال مناقشة موضوع الحدود في المياه الاقليمية. لكنهم اعتذروا لانشغالهم بإنشاء الدولة. وأوضح ان شركة ألمانية منحتها اليمن ترخيصاً لإقامة مشروع استثماري وبدأت العمل في حنيش الكبرى منتصف العام الحالي "وفوجئنا بإنذار أريتري يطلب الخروج من الجزيرة. وتم الاتصال بيننا واقترحنا لجنة وزارية لمناقشة الخلاف برئاسة وزيري الخارجية". واستطرد في شرح بداية الخلاف، ان اللجنة اجتمعت في صنعاء وأسمرا "وقدمنا اقتراحاً بترسيم الحدود عن طريق المفاوضات او التحكيم الدولي او محكمة العدل الدولية، الا انهم أصروا على اخلاء الجزيرة". وتجدر الاشارة الى ان علاقة صنعاء ظلت متينة مع أسمرا منذ ما قبل الاستقلال، خصوصاً علاقة الرئيس صالح بالرئيس أفورقي. وهي علاقة اتسمت باللقاءات والزيارات المتبادلة والعون والدعم من جانب اليمن لأفورقي وحكومته، ومشاركته العمل لتطوير علاقات الدولة الاريترية الناشئة مع جيرانها ومع الدول العربية. وفي زيارته لأسمرا 16 ديسمبر 1994 أعلن الرئيس اليمني ان الزيارة هدفها القيام بوساطة بين اريتريا والسودان لحل الخلاف الحدودي الذي طرأ وتبادل خلاله الجانبان التهم بأن السودان تدعم التطرف في أريتريا، وان أريتريا تعمل على فتح ثغرة لاسرائيل للتآمر على السودان وتهديد الأمن في منطقة البحر الأحمر. وظلت العلاقات متينة والاتصالات مستمرة بين اليمن وأريتريا، حتى 15 تشرين الثاني نوفمبر الماضي حين أقدمت قوات أريترية على اقتحام الجزيرة في محاولة للسيطرة على الجزر الثلاث، لكن قوات البحرية اليمنية تمكنت في اليوم التالي من استعادة الجزيرة وطرد القوات الاريترية من دون خسائر تذكر. وبدأت المشاورات بين الجانبين حتى انتهت بتأجيل المفاوضات الى ما بعد شهر رمضان أواخر فبراير المقبل. لكن الأريتريين فضلوا حسم الخلاف عسكرياً، بما اعتبرته صنعاء خدعة وخرقاً للاتفاق ونسفاً للوفاق وتحدياً لكل القدرات والمقدرات اليمنية السياسية والعسكرية بصفة خاصة.