عندما حولت الألعاب النارية سماء القدس العربية، في ليلة الرابع من ايلول سبتمبر الجاري، الى زخارف ملونة من اللهب المضيء، وكان أسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل، وايهود اولمرت رئيس بلدية القدس، يعلنان من قرية سلوان العربية الواقعة على سفح الحرم القدسي الشريف، عن بدء الاحتفالات الرسمية لما سموه مرور ثلاثة آلاف سنة على اختيار الملك داود القدس عاصمة له، كانت مجموعة من المتطرفين اليهود تتظاهر وتسد الشارع المؤدي الى بيت الشرق، تحت حراسة رجال الشرطة وحرس الحدود، على بعد بضعة أمتار من بيتي الواقع في طريق نابلس، وتمنع سكان الحي من الوصول الى البقالة الصغيرة بقالة عزت التي يشترون منها حاجتهم. زادت الالعاب النارية كآبة العرب في المدينة المحاصرة بالحواجز، وكانت بالنسبة اليهم ايذاناً بشروع اسرائيل في سرقة تاريخ المدينة بعد ان انتهت من سرقة الأرض. على ارتفاع نحو 800 متر فوق سطح البحر، وعلى بعد 52 كليومتراً من البحر الأبيض المتوسط، تقع مدينة القدس، جميلة، لطيفة المناخ، ومتوسطة الموقع. لو توقفت الأمور عند هذا الحد لعشت في مدينتي بسلام، كباقي الناس في مدن العالم، لكن الله سبحانه وتعالى حباها بنعمة سماوية، واختارها مركزاً لرسالاته السماوية فأبت اسرائيل إلا ان تحول هذه النعمة الى نقمة، بايثارها التفرد بها دون غيرها. وهي لذلك تحاول صياغة التاريخ من جديد على هواها، ضاربة بجذور هذه المدينة العربية العريقة عرض الحائط. "يبوس"… هذا هو الأسم الأول الذي عرفت به القدس، كما يجمع المؤرخون كافة. من هو يبوس؟ في الألف الرابعة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، ضاقت الجزيرة العربية بجزء من سكانها، نتيجة لعوامل الطقس والجفاف، فخرجت قبائل تبحث عن الكلأ والمرعى في بلاد الشام وشمال مصر. أشهر هذه القبائل كانت القبائل الكنعانية، نسبة الى جدهم الأعلى كنعان. وقد اعتاد العرب على تسمية قبائلهم على أجدادهم. وفي الألف الثالثة قبل الميلاد، استقرت احدى هذه القبائل الكنعانية في المنطقة التي تعرف الآن بالقدس. وأقامت أول مستوطنة حضارية عليها، عرفت باسم جدهم "يبوس". هناك من يقول ان مجموعة بشرية أخرى سكنت المنطقة قبله، ربما كانت من العموريين، إلا ان شيئاً من تاريخهم لم يصل الينا. أخبار الحضارة اليبوسية العربية في القدس وصلت الينا عن طريقين، الأولى كانت في أسفار العهد القديم من التوراة، والثانية من النقوش المصرية القديمة التي عثر عليها في معبد الأقصر، وفي تل العمارنة على ضفاف نهر النيل. جاء في سفر حزقيال، أحد اسفار التوراة 16:3، عن القدس "هكذا قال السيد الرب لأورشليم مخرجك ومولدك من أرض كنعان أبوك أموري وأمك حثية". هذا الوصف رغم انه يحمل رمزاً القصد منه ابراز الجانب السلبي لأصل المدينة الوثني، فإنه يعتبر برهاناً على اعتراف التوراة بأصل المدينة الكنعاني. لم يكن للاسرائيليين قبل سيدنا داود أية صلة بالقدس إذ كانت مدينة غريبة عليهم، وورد في سفر القضاة 19:21: وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جداً قال الغلام لسيده تعال نميل الى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها فقال له سيده لا نميل الى مدينة غريبة حيث ليس احد من بني اسرائيل هنا نعبر الى جبعة". وتؤكد التوراة صلة اليبوسيين بالكنعانيين، ففي سفر التكوين 10/16 ورد "وكنعان ولد صيدون بكره وحثا واليبوسي والأموري…". بقيت القدس مملكة صغيرة ضمن الممالك الكنعانية في بلاد الشام، وقد اطلق عليها في القرن التاسع عشر قبل الميلاد تقريباً اسم آخر يقول المؤرخون انه نسبة الى إله كان يرعى يبوس واسمه سالم وقد ظهر اسم "اورسالم" للمرة الأولى في نقوش كتبت بالكتابة المصرية القديمة هيرية - وهي أبسط من الهيروغليفية - في مصر، ويعتقد ان الألواح التي ظهر فيها هذا الأسم كتبت بين السنوات 1879 - 1842ق.م، في ما سماه العلماء "نصوص لعنة" فرعونية ضد أعداء الملك من الأسرة الثانية عشرة. ورد هذا الأسم محرفاً في التوراة حين ذكرت رحلة سيدنا ابراهيم عليه السلام، إذ ورد في سفر التكوين 14/18 "وملكي صادق ملك شاليم اخرج خبزاً وخمراً وكان كاهناً لله العلي وباركه وقال مبارك ابرام من الله العلي مالك السماوات والأرض". تكرر اسم "اور سالم" في نقوش مصرية قديمة عثر عليها في تل العمارنة في مصر، وتعود الى النص الأول من القرن الرابع عشر قبل الميلاد. هناك من يفسر كلمة "اور" او "اورو" على انها مدينة. وعليه فقد فسر اسم المدينة بپ"مدينة السلام". واقتبس العبرانيون هذا الأسم اليبوسي وحوله الى "أورشليم". ولم يعجب هذا الاسم اليبوسي الملك داود، فسماها بعدما اتخذها عاصمة له على اسمه "عير دافيد" اي مدينة داود. لكن المدينة اليبوسية رفضت هذا الاسم الذي انتهى بانتهاء عهد العبرانيين. وها هم اليوم حكام اسرائيل يحاولون ارجاع عجلة التاريخ الى الوراء ويعلنون عن بدء "الاحتفالات" من المنطقة التي سموها بعد حرب حزيران "عير دافيد". لا داعي للخوض مطولاً في تلك الحقبة التي قامت فيها "مملكة اليهود، ودامت نحو أربعة قرون، لكن لا بد من التعرض لأهم احداثها: في الألف الأولى قبل الميلاد، وبعدما بدأت الأمور تستقر للعبرانيين غرب النهر، ونودي على داود ملكاً عليهم في الخليل، قرر البحث عن عاصمة له تتوسط القبائل العبرانية التي استقر جزء منها شمال بلاد الشام والجزء الثاني جنوبها. كانت القدس تجمع بين التوسط والحصانة التي تهم القائد العسكري. وكانت القدس اليبوسية من دون مدن المنطقة قد عصت على العبرانيين لحصانتها وأسوارها، فقام داود بمحاصرتها، ودخلها بتكتيك عسكري ناجح، اذ اكتشف جنوده نفقاً يوصل الى القلعة اليبوسية المحصنة، فدخلوه وباغتوا رجالها، وسقطت المدينة بأيديهم. وفي هذا الصدد تقول التوراة سفر صموئيل: 5: 6-9: "وذهب الملك - داود - ورجاله الى اورشليم الى اليبوسيين سكان الأرض فكلموا داود قائلين لا تدخل الى هنا ما لم تنزع العميان والعرج اي لا يدخل داود الى هنا وأخذ داود حصن صهيون وهي مدينة داود". كان هذا في العام 997 ق.م. والاعتقاد السائد هو ان سكان القدس اليبوسيين اندمجوا مع المحتلين الجدد، وخدموا تحت امرة داود في تنظيم أمور مملكته، حتى انه يقال ان أحد الكاهنين اللذين كانا من المقربين الى الملك داود كان يبوسياً ويدعى صادوق، ورثه داود من المعبد اليبوسي. والثاني كان يهودياً يدعى ابيثار. أربعة وسبعون عاماً بقيتها مملكة داود وابنه سليمان موحدة، رغم القلاقل التي أثارها ابشالوم بن داود على والده، ومحاولته الاستيلاء على السلطة. وقد تميز عهد ابنه الملك سليمان بالعمران والبناء، خصصواً بناء الهيكل الذي أعد له والده. وعلى مستوى العلاقات الخارجية عزز الملك سليمان مملكته بفرض الجزية على الممالك المجاورة، ووصل نفوذه الى اليمن والحبشة. انتهى العصر الذهبي لمملكة داود بموت سليمان وتولى ابنه رحبعام الملك، الذي انشقت في عهده المملكة التي امتدت من دان شمالاً وحتى بئر السبع جنوباً. وانسحبت عشر قبائل عبرانية واختارت يربعام من سبط افرايم ملكاً عليها، ومن نابلس شخيم عاصمة لها، وسميت مملكة اسرائيل. وبقيت القدس عاصمة لمملكة يهودا. زالت مملكة اسرائيل على أيدي ملك اشور سنة 721ف.م. واستمر حال مملكة يهودا في الاضمحلال الى ان نكص ملكها صدقيا بين يوشيا عهده مع سيده نبوخذ نصر ووتوقف عن دفع الجزية له، وتحالف مع ملوك مدن فلسطين وسورية، الأمر الذي لم يرق لملك بابل الذي كسر هذا التحالف، واحتل القدس العام 586ق.م وسبى اليهود ودمر هيكلهم وطوى صفحة من تاريخ المدينة استمرت نحو أربعة قرون. تنقلت القدس بين أيدي الغزاة، فحل الاحتلال الفارسي محل البابلي، وسمح ملكهم كورش بعودة اليهود اليها، الأمر الذي لم يلق استحساناً من سكان جنوب بلاد الشام العرب قبيلة قيدار الذين خافوا من عودة مملكة يهودا، وخرج ملكهم جشم لمحاربة ذلك، لكنه لم ينجح. وقد سمح الملك الفارسي دارا الأول لليهود باعادة بناء الهيكل. بعد الفرس جاء الاسكندر المقدوني، تلاه حكم البطالسة المصريين، ثم السلوقيون حكام سورية الذين تهاونوا في البداية مع اليهود الى ان فسد النظام بأسره وفسد معه زعماء اليهود في المدينة، حتى انهم صاروا يشترون المناصب الدينية بالمال. وفي نهاية المطاف ترك بعضهم الدين وعاد الى عبادة الأوثان وأكل لحوم الخنزير، مما حدا بالمتعصبين منهم الى القيام بثورة عرفت بالتاريخ باسم "ثورة المكابيين". استغل المكابيون انشغال الملك السلوقي في تدعيم سيطرته على بلاد ما بين النهرين وهزموا الجيش الذي ارسله لاخماد ثورتهم. وفي العام 164ف.م تمكن يهوذا المكابي من احتلال القدس بعد ان نجح في صد هجمات السلوقيين المتلاحقة، وأعاد تكريس الهيكل، وكانت هذه هي المرة الثانية التي أصبح لليهود فيها دولة مستقلة بعض الوقت تحت حكم يونثان، بعد ان نجح يهوذا في العام 161ق.م في ابرام حلف مع روما. وخلال الفترة بين 63ق.م و637 ميلادية وقعت القدس تحت حكم روما وبيزنطة. وشهدت خلال هذه الفترة ثلاثة أحداث، أعظمها كان ميلاد المسيح عليه السلام في بيت لحم، وبدء انتشار الدين المسيحي، ومحاربة اليهود لهذا الدين الجديد. والثاني خراب الهيكل الثاني بأيدي الرومان، ونهب كنوزه الى روما في سنة 70 ميلادية، والثالث طرد اليهود من القدس وحرمانهم من دخولها زهاء 500 عام. وفي سنة 637، وهي سنة فتح عمر بن الخطاب للمدينة، عادت القدس الى احضان العروبة، واعترف الفاتحون العرب المسلمون بمكانة هذه المدينة لدى أبناء الديناتين المسيحية واليهودية، ورفض عمر بن الخطاب الصلاة في ساحة كنيسة القيامة خشية مطالبة المسلمين بالكنيسة فيما بعد. وسمح العرب المسلمون لليهود بالعودة الى المدينة بعد حرمان طويل دفعهم الى ابتداع صلاة كانوا يتلونها في جبل الزيتون ويشقون ثيابهم هناك، ويعودون أدراجهم حاملين الحسرة في قلوبهم لعدم تمكنهم من دخولها. لقد نجح العرب المسلمون في خلق مجتمع متجانس من أبناء الديانات الثلاث يتكلم العربية ويتشابه في العادات والتقاليد ويختلف في أداء الشعائر الدينية فقط. والجدير بالذكر ان يهود القدس العرب حاربوا في القرن السادس عشر الميلادي حين تم فتح باب الهجرة أمام اليهود الاسبان من أجل المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم العربية، ومنعوا التزاوج مع اليهود الاسبان، عندما سادت اللغة الاسبانية في الصلاة استقلوا بكنيسهم ليصلوا بالعربية. * كاتب فلسطيني مقيم في القدس.