تهتز العاصمة الجزائرية مرتين أو ثلاث مرات يومياً بفعل الانفجارات المدوية التي تضرب بقوة أماكن اقامات رجال الشرطة أو محافظات الأمن أو البلديات والمحاكم أو الجسور والمرافق العامة الأخرى. وتستمر هذه الظاهرة - التي عرفت تصعيداً خطيراً في الآونة الأخيرة - عملياً منذ تموز يوليو الماضي غداة اعلان رئاسة الدولة فشل "جولة الفرصة الأخيرة" من الحوار بين السلطة وقيادة الجبهة الاسلامية للانقاذ. وتفيد معلومات الدوائر الاسلامية في العاصمة ان التصعيد مرشح للتطور بشكل أكثر خطورة. فالعمليات الانتحارية - مثل العملية التي استهدفت نهاية الشهر الماضي مقر "المديرية العامة للأمن الوطني" في باب الوادي - يمكن أن تتضاعف، اذا أخذنا في الاعتبار بعض المعلومات المتداولة في "الاعلام الموازي" والتي تفيد بأن "الجماعات الاسلامية المسلحة" تخطط لزهاء الف عملية، وان العناصر المعينة لتنفيذ مثل هذه العمليات تم اختيارها، بل وتم اداء صلاة الجنازة عليها. وفي هذا السياق وجهت "تنبيهات" الى القاطنين بالقرب من مقرات البلديات ومحافظات الشرطة تدعوهم الى الرحيل، لأن الجماعات الاسلامية "لا تتحمل مسؤولية ما ينتج عن بقائهم في مساكنهم". ووجهت "تنبيهات" الى سلك القضاء تدعو عناصره الى مقاطعة عملية الانتخابات الرئاسية التي يجري التحضير لها، كما تدعو القضاة الذين يريدون النجاة بأنفسهم الى اعلان "توبتهم" أمام المصلين في المساجد. وتركت هذه الانذارات آثارها السلبية في نفوس المواطنين، فالموثقون مثلا في وهران - عاصمة الغرب الجزائري - "اعتذروا" للسلطات المحلية التي كانت تريد اقحامهم في عملية التصديق على توقيعات التزكية لمصلحة المرشحين للانتخابات الرئاسية. وفي الآونة الأخيرة لوحظ نوع من التغيير في تكتيك الجماعات المسلحة التي أخذت توجه ضرباتها الى كبار ضباط الجيش. ففي 5 أيلول سبتمبر الجاري استهدفت احدى العمليات العميد بن عاي وهو في طريقه الى عمله في وزارة الدفاع، فأصيب بجروح طفيفة. والمؤسف انه في كل موجة عنف يكون الصحافيون على رأس قائمة الضحايا، فقد سقط منهم منذ أواخر الشهر الماضي خمسة. واحتجاجا على "تقصير" السلطات في حماية "مهنة المتاعب"، أعلن ناشرو الصحف اضراباً لمدة ثلاثة أيام. 75 الف توقيع في مثل هذه الاجواء الأمنية يستمر التحضير للانتخابات الرئاسية على قدم وساق، ما يؤكد تصميم السلطات على اجرائها في موعدها المحدد، سواء التحقت "الأحزاب الفاعلة" بالركب أم فضلت المقاطعة، وهو الأرجح حتى الآن. وفي هذا الصدد أشرف الرئيس اليمين زروال على تعيين لجنة مراقبة الانتخابات، بمشاركة المترشحين وممثلي "الأحزاب المعنية"، وبعض الشخصيات المستقلة مثل رئيس الحكومة الأسبق السيد بلعيد عبدالسلام الذي سبق أن أعلن أنه يفضل زروال مرشحاً للرئاسة. وكان زروال طلب في منتصف الشهر الماضي من الجامعة العربية والأممالمتحدة ايفاد مبعوثين لمراقبة عملية الانتخابات. وأعلن أخيراً الأمين العام للجامعة العربية الدكتور عصمت عبدالمجيد من العاصمة الجزائرية انه سيعمل على تلبية طلب الرئيس زروال، في حين فضلت الأممالمتحدة ارسال وفد لمعاينة الأوضاع السياسية والامنية قبل اتخاذ القرار المنتظر. وكانت "حملة" جمع تواقيع التزكية للمرشحين انطلقت مع مطلع الشهر الجاري وتستمر حتى الثاني من الشهر المقبل آخر موعد لتقديم الترشيحات رسميا مشفوعة بالتواقيع المطلوبة. ويذكر في هذا الصدد ان قانون الانتخابات في صيغته المعدلة أواخر تموز يوليو الماضي يشترط 75 ألف توقيع من المواطنين المسجلين موزعة بين 25 ولاية من مجموع 48 ولاية. ويعتبر المراقبون هذا الشرط بمثابة اجراء إقصائي مقنع، اذ من الصعوبة بمكان جمع مثل هذا العدد من التواقيع على مستوى الأحزاب المتواضعة، اضافة الى أن السيد رضا مالك نفسه، وهو "مرشح جناح من السلطة الفعلية"، اعتبره "شرطاً صعباً جداً". لذلك لا يبدو الحصول على مثل هذا العدد الضخم من التواقيع مع التصديق عليها في متناول غير السلطة أو الأحزاب الكبرى التي ستقاطع الانتخابات على الأرجح. فپ"حزب التجديد الجزائري" مثلاً برئاسة السيد نورالدين بوكروح وهو "أكبر الأحزاب الصغيرة"، كان كل ما حصد من الأصوات في الانتخابات النيابية أواخر 1991، 67 ألف صوت، أي أقل من التواقيع المطلوبة لمرشحه بوكروح. وهناك سابقة تؤكد ان عملية جمع التواقيع قد تصبح فعلاً عملية اقصائية. فقانون الانتخابات في صيغته التي وضعتها حكومة سيد أحمد غزالي كان يشترط على المرشح الحر للنيابة جمع 500 توقيع من المواطنين المسجلين في القوائم الانتخابية. وكان هذا العدد من التواقيع - مع تواضعه مقارنة ب 75 ألفاً - أثناء تحضير الانتخابات التشريعية لعام 1991 بمثابة العارضة التي حالت دون مرور العديد من الوجوه البارزة. وتصطدم هذه العملية كذلك بالظروف السياسية والأمنية الخاصة التي تعيشها البلاد. فالأحزاب المهمة الموقعة على "العقد الوطني" في روما مطلع العام الجاري وجهت في نهاية الشهر الماضي نداء الى المتعاطفين مع "العقد" والمواطنين عامة، تدعوهم الى رفض "تزكية أي مرشح يسير في ركاب الانتخابات الرئاسية في غياب الشروط اللازمة لانتخابات حقيقية". ونتيجة الضغوط الأمنية التي تمارسها "الجماعات الاسلامية المسلحة" وأجواء الرعب المخيمة على أجزاء من البلاد - منها منطقة العاصمة نفسها - ليس مستبعداً أن يتردد المواطنون كثيراً قبل منح تواقيعهم لهذا المرشح أو ذاك، لا سيما أن عملية التصديق تستلزم استقاء معلومات اضافية عن الموقع! وسط هذه الأجواء الملبدة تروج توقعات مفادها احتمال توصل السلطة الى ابرام صفقات مع بعض الأحزاب السياسية التي قبلت المشاركة في الانتخابات، واشترط بعض زعماء هذه الأحزاب حصولهم على نسبة معينة من الأصوات. وفي هذا الصدد يكون سعيد سعدي زعيم "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية" قد طلب نسبة لا تقل عن 20 في المئة ما يسمح له بتزعم منطقة القبائل، في غياب منافسه الكبير "جبهة القوى الاشتراكية" بزعامة حسين ايت أحمد أحد أبرز منشطي حركة "العقد الوطني" وربما حركة مقاطعة الانتخابات الرئاسية. وفي هذا السياق يندرج ترحيب بعض الصحف الموالية للسلطة بترشيح الشيخ محفوظ نحناح رئيس "حركة المجتمع الاسلامي" حماس وهي التي كانت بالأمس القريب ترى في اعتداله وتدرجه تهديداً أكبر من خطر جبهة الانقاذ نفسها. فصحيفة "الوطن" أصبحت تتحدث بإعجاب عن حركة الشيخ نحناح باعتبارها "حركة تقبل المشاركة في اللعبة البرلمانية وتسيير شؤون الدولة، على غرار مثيلاتها في الأردن وتركيا وباكستان ومصر...". وتشجع الشيخ على خوض تجربة الانتخابات الرئاسية التي "ربما لا تتوج بنجاح شخصي، لكنها ستعود بكبير الفائدة على حركته التي ستعرف وزنها الحقيقي في المجتمع". وتواصل "الوطن" عملية الاغراء قائلة: "وستسمح هذه المشاركة كذلك "لحماس" بأن تظهر كقطب رئيسي في اعادة تشكيل الحركة الاسلامية"! ان مثل هذه المواقف التي تعبر عن رغبات أكثر مما تعبر عن حقائق، تكشف في حقيقة الأمر عن اختيار قديم لبعض دوائر السلطة التي بدا لها منذ مطلع التجربة التعددية عام 1989 ان تراهن على الشيخ نحناح باعتباره "يتحلى بسمات رجل الدولة" أكثر من منافسيه "المتهورين". لكن السيد رضا مالك نفى أي اتفاق مسبق مع السلطة، حول صفقات القيام بأدوار ثانوية في مقابل نسبة من أصوات الناخبين تحفظ ماء الوجه على الأقل. وأمام اصرار السلطات الجزائرية والأحزاب الدائرة في فلكها على تنظيم الانتخابات في موعدها المحدد، سواء شاركت "المعارضة الفاعلة" أم لم تشارك، من المنتظر ألا تبقى "مجموعة العقد الوطني" مكتوفة الأيدي، مكتفية بنداء مقاطعة عملية التواقيع لمصلحة المترشحين. فهي تنوي تصعيد عملية المقاطعة، لذلك ستنظم مهرجاناً شعبياً في قلب العاصمة، ويوماً مفتوحاً على حقوق الانسان في العاصمة أيضاً، ولقاء مع الجالية الجزائرية في فرنسا قد يعقد مطلع الشهر المقبل في باريس. ومن جهة أخرى صعّد السيد عبدالنور علي يحيى رئيس "الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسان" لهجته حيال النظام طاعنا في "حياد الادارة" الذي من دونه "لا يمكن للجنة مراقبة الانتخابات ولا المراقبين الأجانب أن يضمنوا سلامة الاقتراع". وطعن رئيس الرابطة ضمنياً في احتمال ترشيح الرئيس زروال الذي "لم يكن - حسب رأيه - مهيئاً لأداء الوظيفة الرئاسية بالنظر الى تكوينه وتجربته ومسيرته السابقة، ما جعله يتحول الى ناطق باسم الجيش لا غير". واحتمال ترشيح الرئيس زروال وارد باجماع معظم المراقبين. وقد أشار الى ذلك السيد سعيد سعدي في اعلانه عن نيته في الترشيح حيث قال انه يفعل ذلك لمواجهة "مرشح النظام". وقد ظهرت حتى الآن لجان عدة محلية بعنوان "مساندة ترشيح زروال"، اضافة الى المسيرات الشعبية التي ما انفكت منذ مطلع السنة تقريباً تردد شعار: "الجيش الشعب معك يا زروال!". ويتوقع ان تنضم الى حركة المساندة هذه منظمات معروفة مثل "منظمة المجاهدين" و"أبناء الشهداء". وربما اتحاد العمال الذي أعلن أمينه العام السيد بن حمودة أخيراً أنه لا ينوي ترشيح نفسه. وستشهد الساحة السياسية قبل نهاية الشهر الجاري حدثين بارزين: الأول مؤتمر "جبهة القوى الاشتراكية" أهم الأحزاب البربرية والعضو النشيط في "مجموعة العقد الوطني" وينعقد يومي 21 و22 الشهر الجاري. وينتظر منظمو المؤتمر ان يحضره السيد حسين آيت أحمد زعيم الحزب الذي فضل مغادرة الجزائر والاقامة في سويسرا غداة اغتيال الرئيس بوضياف في 29 تموز يوليو 1992. لكن بعض المراقبين لا يستبعد تغيب آيت أحمد عن المؤتمر احتجاجاً على استمرار الانسداد السياسي ومسلسل العنف والتخريب المتولد عنه. الثاني اجتماع اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني يومي 27 و28 الشهر الجاري، ويعني تأخير البت في مسألة المشاركة في الرئاسيات الى هذا الموعد ان جبهة التحرير مقبلة على المقاطعة اسوة بجبهة القوى الاشتراكية، وربما بقية اعضاء مجموعة العقد الوطني، خصوصاً حركة "النهضة الاسلامية" وحركة الرئيس الأسبق أحمد بن بله. وتفسير ذلك ان آخر أجل لتقديم الترشيحات هو 2 تشرين الأول اكتوبر المقبل، ومن المتعذر حتى على جبهة التحرير جمع 75 ألف توقيع والتصديق عليها في ظرف يومين أو ثلاثة. وإذا حدث ان قاطعت جبهة التحرير الانتخابات الرئاسية، فسيكون ذلك للمرة الأولى منذ الاستقلال بعدما كانت الحزب "الواحد" المكلف بتزكية المرشح الوحيد. جدوى االانتخابات هذه المستجدات السياسية اضافة الى الوضع الأمني وما قد يخبئ من مفاجآت تغذي التساؤلات حول جدوى الانتخابات الرئاسية المقبلة وامكان اجرائها أصلاً، ذلك ان خصوم هذه الانتخابات ما زالوا مصممين على افشالها بمختلف الوسائل السياسية والأمنية، ما يجعل المقاطعة الجماهيرية أمراً لا يستهان به على الاطلاق. والرأي الشائع في هذا الصدد ان الانتخابات "لعبة من السلطة حول السلطة لا تحل من المعضلة السياسية شيئاً". وهو رأي مجموعة "العقد الوطني" التي قالت انها ترفض "تزكية الانتخابات في مثل هذه الظروف، لأنها قد تغرق البلاد في مزيد من الانسداد وإراقة الدماء وتدهور الوضع العام". ويشكك السيد مولود حمروش رئيس الحكومة السابق في جدوى الحلول التي تحاول السلطة فرضها على "المعارضة الفاعلة"، ومن ضمنها جبهة الانقاذ المحظورة، فيقول في هذا الشأن: "ان إرادة الضغط على الحلقة الضعيفة في قيادة جبهة الانقاذ وتقسيمها للحصول على شبه اتفاق، ما تزال أقوى من ارادة التوصل الى اتفاق حقيقي قابل للحياة ومقبول من جميع الأطراف ومن الشعب أيضاً". وفي السياق نفسه ترى اسبوعية "الحرية" بالعربية أمام انسداد الوضع الراهن، "ان الأمل ضئيل في حل الأزمة خارج ميزان القوى داخل منظومة الحكم". وأن هذا الحل "قد يأتي أثر بروز ميزان قوة جديد بعد الانتخابات الرئاسية - أو قبلها في حالة استحالة اجراء هذه الانتخابات"! بعض المراقبين، ومن بينهم شخصيات سياسية مرموقة، لا يستبعد مثل هذا الاحتمال الذي قد يتجسد في صورتين: أما ثورة الجيش على نفسه أو ثورة الشعب على الوضع بصفة عامة.