ستبقى السنة الحالية، صفحة سوداء في تاريخ الثقافة الجزائرية. وكالعادة في قلب الأتون المشتعل، من الطبيعي أن يرفع المسرح قبل سواه راية الحداد. سقط المسرحي البارز عبد القادر علّولة في أحد شوارع وهران، واغتيل عزّ الدين مجوبي عند باب "المسرح الوطني" في العاصمة، أيّاماً قليلة بعد تولّيه رئاسة هذه المؤسسة العريقة. وانطفأ ولد عبد الرحمن كاكي وحيداً، وهو أحد مؤسّسي المسرح الجزائري، بعد رحلة عذاب مع المرض. وقبل أيّام فُجعنا بنبأ وفاة الممثّل القدير سيراط بومدين في أحد مستشفيات وهران، على أثر نزف مفاجئ أدخله غرفة العناية الفائقة. ينطفئون الواحد تلو الآخر، جيل كامل من الفنّانين لم يعد يجد له مكاناً أو دوراً فوق الخريطة الدامية، ولم يعد يشعر أن لوجوده معنى وسط الدوّامة التي جرفت ما ومن جرفت من رموز ومنجزات وأوهام. برحيل سيراط بومدين في عزّ عطائه، يغيب واحد من أكبر ممثلي المسرح العربي. كان يستعد للمشاركة إلى جانب صونيا وآخرين، في عرض جديد لمسرحيّة علّولة "الأجواد". فإذا به يفضّل الالتحاق بمؤلفها نفسه، بعد أن كان رفيق مسيرته الفنية منذ البدايات. فقد وقف سيراط للمرّة الأولى على الخشبة محترفاً، في مسرحية عبد القادر علّولة الشهيرة "الخبزة" أواخر الستينات. ومن ذلك الحين لم يفترق الرجلان، إذ شارك الممثّل القدير صديقه في كل المغامرات: من "مسرح وهران الجهوي" إلى "تعاونيّة أوّل مايو"، ومن الثلاثية الشهيرة... إلى "أرلوكان خادم السيّدين"، حين عاد علّولة إلى غولدوني باحثاً عن روح الاحتفال ومعناه في قلب المعمعة، عند ذروة المأساة. فسيراط بومدين من نقاط الثقل في ذلك المشروع الاستثنائي: بملامحه البسيطة الساذجة ظاهريّاً، وعفوّيته النزقة، وخفّة ظلّه التي لا تخلو من غرابة، ونظرته الثاقبة، واحساسه المرهف بالايقاع، وتعبيره عن شاعريّة اللحظة، وطواعية جسده وصوته، وتمثيله "المثقّف" الذي لعب دوراً حاسماً في تمتين أواصر الصلة بين تجربة علّولة والجمهور الشعبي الذي يبحث عنه. ولعلّ ذروة هذا التعاون تتمثّل في ثلاثية "الأقوال"، "الأجواد"، "اللثام" التي عرفت اقبالاً مدهشاً على الصعيدين المغاربي والعربي، فكانت تتويجاً لنجاح تجربة علّولة ورفاقه. كان يمثّل بخفّةِ "الحكواتي" أو المدّاح، يروي ثم يمثّل، تاركاً بينه وبين القصّة المسافة النقدية اللازمة. الشخصيات التي أدّاها لم تكن تتخلّى عن السخرية والفكاهة، حتى في لحظات الأزمة واليأس. ف "ميكانيكية" التعبير عن عبثية الواقع السياسي، الاجتماعي والانساني في مسرح علّولة، كانت تعتمد دائماً على تلك العفوية "البلدية" لدى هذا "الجحا" الجزائري، الطوباوي والمثالي و"المتشائل"، الطامح أبداً إلى تحسين الأوضاع ورأب الصدع، والذي لا يعترف يوماً بالفشل أو الهزيمة. شخصية "جلّول الفهايمي" التي لازمته بحقّ ستبقى بعده، بشعريّتها وحزنها المضحك. هذا المواطن العادي الذي يريد انقاذ العلاقات والمؤسسات قبل فوات الأوان. فالمصنع ما زال يبحث عمّن يصلحه رغم أنف البيروقراطية، والمستشفى السائب يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تنظيم وتفان في العمل. عقلي ومنوّر وعلال الزبّال والآخرون... كلّهم هنا، ينتظرون. أن يعود الوطن، أن يرتفع الستار من جديد على خشبة المسرح.