"ربيع المسرح العربي" تظاهرة مسرحية أطلقتها وزارة الثقافة في المغرب، وتحولت بعد سنوات أربع الى تقليد راسخ يشهد اقبال الجمهور، ويحقق نجاحاً نوعياً. وال "ربيع" يتخذ شكل موسم مسرحي، تتوزع عروضه على أكثر من خمس مدن في المملكة المغربية، عملاً بخيار اللامركزية الثقافية. بين المحطات البارزة التي عرفها المهرجان على امتداد أسابيع، نتوقف في ما يلي عند تجارب نور الدين الورغي من تونس، عبد القادر علولة من الجزائر، الطيب الصديقي وعبد الواحد عوزري من المغرب... مع أن موعده جاء متأخراً هذا العام، فإن "ربيع المسرح العربي" في دورته الرابعة يعتبر رهاناً رابحاً. ورغم الارتباك التنظيمي الذي رافق المهرجان وبعض الارتجال في البرمجة، اضافة الى وقوعه في فترة انتخابية غير ملائمة للعمل الثقافي، فإن ارادة المسرحيين وحماسة الجمهور من العناصر الحيوية التي أثرت ايجابياً ورجحت في النهاية كفة النجاح. ولا شك أن اللجنة المشرفة على هذه التظاهرة، بذلت قصارى جهدها لانجاحها واعطائها الحيز الذي تستحق على الساحة المغاربية والعربية. لكن تكاثر العروض الضعيفة ارتد ضد ادارة المهرجان، الذي يدين بنجاحه الى العرض التونسي والآخر الجزائري، اضافة الى مسرحيتي الطيب الصديقي وعبد الواحد عوزري من المغرب. بين المسرحيات الاثنتي عشرة التي استضافها الربيع، رأينا من المناسب التوقف عند المحطات المعبرة التي تحمل الاضافات الجمالية وتقدم بعض العناصر لقراءة ممكنة في سياق ثقافي عام. هكذا اكتفينا بالتطرق الى عروض قدمها "المسرح الجهوي في وهران" الجزائر، "مسرح الارض" تونس، "فرقة الحاوي" و"فرقة الضوء" مصر، اضافة الى الفرق المسرحية المغربية. "مسرح الارض" "اليك يا معلمتي" هو عنوان العرض الذي قدمته "فرقة الارض" التونسية. الفرقة أسسها الثنائي نور الدين وناجية الورغي عام 1983. ويسعى نور الدين، وهو ناقد مسرحي سابق، الى البحث عن آليات جديدة وأصيلة للنهوض بالمسرح التونسي، معتمداً في رهانه المسرحي على المادة الشعبية، وعناصر التراث والحكايات والتقنيات المستمدة من الذاكرة الجماعية. هكذا تتركز تجربته على الفضاء الريفي، وعلى ثقافة الهوامش والاطراف. وضمن هذا السياق جاءت مسرحية "اليك يا معلمتي" لترسخ هذا الاتجاه. فالعرض الذي أخرجه نور الدين الورغي ومثلته ناجية الورغي، وفّق بين البحث الاختباري على مستوى لغة التعبير، وبين نص مسرحي مرهف يتجاوز مشاكل التواصل مع الجمهور. وقد انعكس ذلك بوضوح على حركة اقبال الجمهور. تدور الاحداث حول معلمتين تتبادلان أطراف الحديث في ليلة من ليالي الشتاء القارس، وذلك ضمن اطار سينوغرافي يتقصد الفقر والبساطة والاقتصاد في التفاصيل البصرية. فبيت المعلمة في بيئة ريفية، والفضاء المشهدي اختار أن يركز على انسداد الافق وعدم القدرة على التنفس، وعلى استحالة الحرية... من هنا أن الورغي اختار فضاءً يشبه المغارة للتعبير عن الضيق. أما المسرحية فقائمة أساساً على لعبة الانفلات من هذا الاطار الخانق وذلك عبر اسلوب التمثيل، الذي شهد تفجر طاقات الورغي التمثيلية على الخشبة. المسرحية عبرت عن معاناة فئة من المجتمع التونسي من خلال تجربة المدرسين في الارياف. ونجح الاخراج في نقل حالة الحصار هذه، عبر لغة حركية مشحونة بالتوتر، تعكس القلق النفسي، ورغبة التمرد والخروج على سلطة المؤسسة والعادات البائدة. وعبر هذا الصراع المكبوت بين قيم الريف والتقاليد المدنية الزاحفة، عمد الورغي الى خلخلة بعض الثوابت، التي غالباً ما تكون مغلوطة، من أجل اعادة اقحام العالم الريفي في الادب والفن والمسرح. وعانى المخرج التونسي، كما أفصح خلال لقائنا به، من الهندسة الجامدة للخشبة الايطالية في القاعات التي استضافت عرضه. فهو كان يتمنّى أن يجلس المشاهدون جميعاً وسط القاعة، على كراسي محشورة، وفي فضاء مكتظ، كي يدخلوا اللعبة ويعيشوا حالة الضيق والاختناق. ذلك أن الهاجس الاجتماعي حاضر أبداً في أعمال "مسرح الارض"، رغم ابتعادها عن اللغة المباشرة والطرح الايديولوجي المحنط. فكل شيء يمر عبر اللغة المسرحية، خاصة أن الورغي اعتمد في عمله الاخير تقنية التوالد، مصغياً لموسيقى الكلمة والجملة الريفية، بغية اعطاء العرض نكهته الفريدة وايقاعه الخاص... "مسرح وهران" فرقة "مسرح وهران الجهوي" من الجزائر، قدمت نصاً معروفاً من التراث العالمي، هو "أرلوكان... خادم السيدين" تأليف كارلو غولدوني. وبهذا الخيار يعمد المخرج المعروف عبد القادر علولة الى القيام بخطوة جديدة، على طريق تعميق خياراته الجمالية والفكرية التي تتجلّى في ثلاثيته، وخاصة في "اللثام" والاجواد"... فبعد استيحائه اشكال السرد التقليدية، ومساهمته في تدعيم أسس ما عرف بالمسرح الاحتفالي، عبر اعتماده تقنيات المداح، واسلوب التغريب البريختي، ها هو يصل الى تطويع جماليات ال "كوميديا دي لارتي" القائمة على التضخيم المقصود، واشراك المشاهد في الاحتفال عبر تعرية الواقع بطريقة غير مباشرة. تروي المسرحية، القائمة على الحبكة، حكاية أرلوكان الخادم الذي يعمل عند سيدين مختلفين للحصول على قدر أكبر من المال، كي يأكل أكثر. ومن الطبيعي أن يكون علولة، المعروف بخياراته السياسية، وظف المادة الاصلية للتعبير عن الواقع الجزائري الراهن. فحول مغامرات هذه الشخصية الكوميدية، صاغ المخرج الذي يعتبر "أرلوكان" امتداداً طبيعياً لتجاربه السابقة الساعية الى تأسيس مسرح عربي آخر، عرضاً يخوله دخول حلبة الصراع الراهن من زاوية غير سياسية، وتحديداً من زاوية الحب. الحب الذي يستحيل، في واقع يطغى عليه عدم التسامح، خشبة خلاص وأفق مفتوح على احتمالات المستقبل. لكن دوافع تقديم هذه المسرحية، لا تنحصر في الدوافع السياسية، بل أن هذه الاخيرة تستمد زخمها من بحث علولة المتواصل عن نقاط التقاطع الممكنة بين الثقافة المحلية والتراث المحلي من جهة، والتراث الثقافي العالمي من جهة أخرى. هذا ما دفع المخرج الى اختيار غولدوني والكوميديا دي لارتي، مع انه اعتاد على كتابة نصوصه المولودة في معظمها من تجارب جماعية في التأليف والارتجال والبحث في وجدان الجماعة. ويرى علولة أن تجربته انصبت على "مسرحة الكلمة". كما أنه قدم مسرحاً للتسلية والمتعة والفرجة، باللهجة العامية الجزائرية كعادته، مع الابقاء على الملابس والاسماء والاماكن الايطالية... مما خلق تناقضاً لم يعهده مسرحه من قبل. واعتمد المسرحي على انارة كاملة للخشبة، وعلى الالعاب البهلوانية التي قام بها بطل المسرحية تمثيل سيراط بومدين. المسرح المصري كان الجمهور المغربي يتوقع بشغف وصول فرقة "المسرح القومي" من مصر، التي سبق أن أعلن عنها في برنامج "ربيع المسرح العربي"، كي تتسنّى له أخيراً مشاهدة مسرحية طالما سمع بها منذ أشهر عديدة. هذه المسرحية هي "أهلاً يا بكوات؟" التي أدّى بطولتها حسين فهمي وعزّت العلايلي، وهي من تأليف لينين الرملي واخراج عصام السيد. لكن دهشة جمهور المسرح كانت كبيرة، حين اكتشف أن المسرحية استبدلت لاسباب لم يعلن عنها، وفي اللحظة الاخيرة، بعرضين عاديين: الاول مونودراما بعنوان "هذا هو أنفي" ل "فرقة الحاوي". أما الثاني فقدمته "فرقة الضوء" وهو بعنوان "البيانو". علت، بعد تقديم العملين، الاصوات التي تستنكر هذا الاستخفاف بالجمهور المغربي، ذلك أن المسرحيتين لا يتوافر فيهما الحدّ الادنى المطلوب الذي يقوم عليه أي عمل ابداعي. فهل يعقل أن يغيب عن ال "ربيع" وجه مصر الآخر، وهي أم الفنون المسرحية عند العرب؟ ولم يتردد البعض في طرح سؤال أكثر احراجاً: هل هذا هو مستوى الانحدار الذي وصل اليه المسرح المصري؟ كنا نعرف أنه يواجه أزمة قاسية، ومرحلة اعادة نظر، لكن النماذج المقدمة في الرباطوالدار البيضاء هي اعلان احتضار أكيد! "هذا هو أنفي" مونودراما من تأليف واخراج نادر صلاح الدين وبطولة خالد سيّد. أما "البيانو" فمأخوذة عن نص للمؤلف المجري فيرنس كيرنسكي، اقتبسه طارق سعيد مدير "فرقة الضوء" وقامت باخراجه داليا بسيوني. كتب نادر صلاح الدين مسرحيته عام 1982، وهي تتناول قصة رجل يطارد ذبابة لمدة عشرين دقيقة، هي مدّة العرض، قبل أن ينتهي به الامر الى اطلاق الرصاص على أنفه، حيث وقفت الذبابة العتيدة. كل ذلك بعد صراع مرير، كان أقرب الى الهزل والتهريج، غاب عنه الابداع وتسطحت معه الدلالات الدرامية، حتّى كاد يتحول الى "إشهار" أو فاصل اعلاني لماركة مبيد حشرات... يعتبر المؤلف أنه أعطى عرضه بعداً فلسفياً واراد له حضوراً وديمومة على الساحة العربية والعالمية. أما الذبابة، فيقول المخرج إنه أرادها "رمزاً لعلاقة النص بالواقع المتحوّل"! التطلعات الفلسفية نفسها نجدها في مسرحية "البيانو" التي هدفت على ما يبدو الى "طرح قضية الوعي بقيمة الفن داخل المجتمع" حسب داليا بسيوني. "أعمالنا - تقول المخرجة المصرية - تركز على القاء الضوء على منطقة ما للتفكير فيها... نتحدث في هذه المسرحية عن قيمة الفن ودوره في صياغة الشخصية والذاكرة الانسانية"... لكن المتتبع للعرض، يجد صعوبة أكيدة في تطبيق هذا الكلام العام والطموح، على الصراع بين صاحب البيانو البارد والكئيب الذي يرغب في بيع آلته، وبين جاره الفضولي الذي يمنعه عن ذلك. ولا يساعد الاخراج البدائي، ولا السينوغرافيا الباهتة، ولا حضور الممثلين الذي لا يعكس أدنى حرفة أو جهد، على انتشال العمل من عاديته وذهنيته البليدة. ولعل أطرف ما في الامر، قيام افراد الفرقتين المصريتين، خلال المؤتمر الصحفي الذي يسبق العروض، بالاعلان عن رغبتهم في "الخروج عن النمط المسرحي السائد، والابتعاد عن المسرح التجاري نحو المسرح الهادف". المسرح المغربي شارك المغرب في "ربيع المسرح العربي" بثمانية عروض، تفاوتت مستوياتها بشكل يطرح أكثر من سؤال على الحركة المسرحية هنا. قدم "المسرح الوطني" مسرحية "أقدام اليح" في مدينة وجدة، بينما قدّم عبد الحق الزروالي "زكروم الادب" في مدينة تطوان. أما طلبة المعهد العالي لفنون الدراما، فقدموا في مكناس "الاستاذ مشاغب". نذكر أيضاً "نابولي مليونيرة" التي قدمها مسرح الدار البيضاء في مدينة فاس، و"صنادق العجب" التي قدمتها في مدينة مراكش "فرقة المحترف الفنّي". واحتضنت مدينة الرباط مسرحية "خُلقنا لنتفاهم" للطيّب الصدّيقي و"الشمس تحتضر" لعبد الواحد عوزري مسرح اليوم. كما عرضت فرقة "المسرح الجامعي" الفاسية مسرحية "أساطير معاصرة" لمحمد كغاط في مدينة تازة التي شهدت اختتام ال "ربيع". "خلقنا لنتفاهم" "مسرح الناس" مسرحية من تأليف واخراج وبطولة الطيّب الصديقي. تدور أحداثها في المغرب خلال القرن السابع عشر، في عهد السلطان مولاي اسماعيل. ويتناول العمل الناطق باللغة الفرنسية، العلاقة القائمة آنذاك بين فرنسا والمغرب، من خلال التركيز على مهمة السفير بن عائشة الدور يؤديه الصدّيقي لدى ملك فرنسا لويس الرابع عشر. ينطوي العمل على أبعاد فكرية أكيدة، عبر تناوله التراث من زواياه المشرقة. لكن الطيب الصديقي ملأ الاطار بمادة جمالية دسمة، وزين العرض بلوحات تشكيلية تداخلت فيها الالوان والاصوات والحركات... فجاء عمله امتداداً للاعمال السابقة من"الامتاع والمؤانسة" الى "الشامات السبع". كما وفق هذا المسرحي المغربي المعروف، كعادته، في اختيار الموضوعات والمواقف والشخصيات التي تؤكد على خصوصية تجربته المسرحية، وهي أرست تقاليد واسساً اتجاه "المسرح الاحتفالي". ونحن نجد العناصر الاحتفالية نفسها، تتردد بأشكال مختلفة، في أغلب عروض "ربيع المسرح العربي" اللافتة لهذا العام من الورغي الى علولة وصولاً الى عبد الواحد عوزري. والمسرحية المغربية الاخرى التي تستحق الاهتمام هذا الموسم، تحمل توقيع هذا الاخير، وتحمل عنواناً معبراً: "الشمس تحتضر". المسرحية التي قدمها "مسرح اليوم" مع ثريا جبران وسيمون الباز، محاولة للتعاطي مع المتن الشعري المغربي المعاصر. ليست المرة الاولى التي يعمد فيها عوزري الى مسرحة الادب. فقد كانت بداياته الرسمية على الخشبة العربية مع "حكايات بلا حدود"، وهي تعامل مشهدي مع مقالات نثرية للشاعر السوري محمد الماغوط. أما هذه المرّة فيتطرق لنص شعري على درجة من الخصوصية والتفرّد، هو نص الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي يكتب بالفرنسية ويقيم في باريس الترجمة العربية تحمل توقيع الشاعر اللبناني الياس حنا الياس. هكذا جاءت "الشمس تحتضر" عرضاً تتداخل فيه الاجناس الفنية من شعر وموسيقى ورقص، وتتقاطع فيه الاساليب المسرحية على مستوى الاخراج والاضاءة ولغة الاجساد. تجربة جديدة تثبت حضور عوزري بقوّة كأحد أبرز ممثلي جيل الشباب في المسرح المغربي والعربي. أما التظاهرة فانتهت بحضور وزير الثقافة المغربي علال سيناصر، وعدد من رموز الثقافة المغربية بينهم المسرحي عبد الكريم برشيد المسؤول عن "ربيع المسرح"، بتقديم عرض "أساطير معاصرة" من تأليف واخراج محمد الكغاط. وتحاول المسرحية استعارة لغة التراجيديا لتناول الواقع السياسي الراهن في العالم العربي. ولم يبقَ لنا الا انتظار الدورة المقبلة، آملين أن تكون أكثر تنظيماً وقدرة على تمثيل الحركة المسرحية الجادة في العالم العربي...