في القسمين الأولين من هذا الحوار الطويل الذي أجرته "الوسط" مع الفنان عادل إمام في القاهرة، خضنا معه حديث الذكريات وتعرفنا على الطفل الذي أصبح "نجم النجوم"، وكذلك ناقشناه عن أساليبه الفنية من خلال اطلالة على بعض أبرز أدواره وعلى أهم مسرحياته وأفلامه، وطرحنا عليه العديد من الأسئلة حول المعارك، الحقيقية والوهمية، التي لم يتوقف عن خوضها مع النقاد الذين حدث لهم في أحيان كثيرة أن اساؤوا فهم أعماله. عبر مسار يتواصل منذ أكثر من ثلاثين سنة، اقام عادل إمام علاقة مميزة مع جمهور وقف في معظم الأحيان، إلى جانبه من دون قيد أو شرط، واعتبر نفسه على الدوام معبراً عن أحلام وتطلعات، وحتى عن احباطات ذلك الجمهور. وهنا في هذا القسم الثالث من الحوار الذي أجريناه عشية فوز عادل إمام بجائزة أفضل ممثل في مهرجان السينما القومية، نواصل استشراف شخصية هذا النجم وعلاقتها بعمله، والكيفية التي يتعامل بها هو مع الأدوار التي يمثلها ومع المخرجين الذين يعمل معهم. "عادل إمام هو الضحكة التي لا يستغني عنها شعب مصر. إنه ملح الطعام ورغيف الخبز بالنسبة إلى المصريين الذين يكدحون ويعرقون كل يوم لكي تستمر الحياة مزدهرة فوق هذا الوادي الصعب. إن عادل إمام، بموهبته الفذة وثقافته الأساسية وادراكه العميق لرسالته بين أهله وشعبه، هو تجسيد لظاهرة تجسدت قبله في عبدالله النديم وحافظ إبراهيم وبيرم التونسي، ونجيب الريحاني واسماعيل ياسين ومدبولي ومحمد عوض وفؤاد المهندس وصلاح جاهين، وغيرهم من الفنانين والفلاسفة الضاحكين...". كاتب هذا الكلام هو الناقد المعروف رجاء النقاش، أما مناسبته فهو العدد الخاص والاستثنائي الذي أصدرته مجلة "الكواكب" المصرية العريقة عن عادل إمام. ونقول استثنائياً لأنه أول فنان مصري حي يصدر عنه عدد مثل هذا. والغريب في أمر هذا العدد أنه صدر في وقت تحقق فيه أكبر نجاح لها، مسرحية "الزعيم" التي لم يسبق لمسرحية مثلها أن وجهت إلى السلطات سهام نقدها. ولقد تضافر هذا التكريم مع النجاح الذي حققه فيلم "الارهابي" ثم مع فوز عادل إمام بجائزة أفضل ممثل، تحديداً عن دوره في هذا الفيلم. وهذا كله حيّر أصاب التفسيرات السريعة كثيراً. فهم، إذا كانوا، حين عرض "الارهابي"، اتهموا عادل إمام بممالأه السلطة، فإنهم حين عرضت "الزعيم" تراجعوا عن اتهاماتهم واحتاروا. وهذا كله جعل حديث عادل إمام "حديث الموسم" في مصر طوال الشهور الفائتة. مهما يكن فإن عادل إمام يعتبر مثل هذه الضجة حماية للفنان في وقت تطالب فيه بعض المنظمات الأكثر تطرفاً، باسكات صوته، وفي وقت يرى فيه بعض أطراف السلطة أنه "ينتقد" أكثر مما يجب في مسرحية "الزعيم" بل كذلك في بعض أفلامه الأخيرة، ومنها "الارهاب والكباب" و"المنسي" حيث في الوقت الذي يدين الارهاب لا يفوته ان يوجه سهامه إلى الفئات والطبقات التي تجعل الارهاب ممكناً وحتمياً. معارض ومشاكس هذا كله دفعنا إلى سؤال عادل إمام عما إذا كان يعتبر نفسه معارضاً... - أجل.. بل وانني أكثر من معارض. أنا مشاكس. وأود أن اضع نفسي على الدوام في صف المعارضة، ولكن مش "عمال على بطال". أنا معارض بعقل ومنطق. الطريف انني حين عملت فيلم "الارهابي" قال البعض: لقد كشف عادل إمام عن نفسه بوصفه عميلاً للسلطة. عميل ايه؟ وسلطة ايه؟ أي سلطة، هل يجب عليّ، على أي حال، ان اكون ضد السلطة على طول الخط؟ سأقول لكل بكل صراحة انني هنا، في المعركة ضد الارهاب، اشعر انني والحكومة في خط واحد. لكن هذا "التحالف" الموضوعي لا يعني أبداً انني عميل للسلطة يضحك بغضب مهما يكن فإن السلطة بدلاً من أن تعطيني فلوساً بوصفي عميلها، انتزعت من أرباح "الارهابي" مبالغ طائلة. دي الحكومة طلعت كسبانة من "الارهابي" فلوساً كثيرة. أسأل مصطفى متولي يقل لكم كم كسبت منا الحكومة بالحق وبالباطل. هناك في هذا المجال مسألة في غاية الخطورة. انت تعرف اننا في بلادنا حيث يفتح شخص ما محلاً لبيع الفروج المشوي، يقوم عشرة آخرون بفتح محلات مشابهة إلى جواره. واعني بهذا ان نجاح فيلم يغري الكثيرين بتقليده فتضيع الرسالة ويضيع الهدف... - لكن هذه ليست مسؤوليتي. انا لا اناقشك في المسؤولية، بل أسألك كمراقب. هناك فيلم مصري رأيته أخيراً ولا أريد أن اذكر اسمه، حاول أن يقلد "الارهابي" فإذا به يتمخض عن كارثة فكرية واخلاقية... - اعرف. هناك بالطبع اناس يحبون ان يركبوا الموجة من دون ان يصلوا إلى مستوى معالجة الموضوع على مستوى فكري. بالنسبة اليك، نلاحظ في "الارهابي" وفي غيره ان لديك قدراً كبيراً من الجرأة في معالجة الموضوع. من أين تستمد هذه الجرأة؟ - أولاً اعتقد انه يجب على الفنان ألا يخاف حين يكون ربه وشعبه معه. بعد ذلك أقول لك ان جرأتي تأتي من الاحاسيس التي تعتريني كلما توغلت في اطلاعي على تاريخنا المصري والعربي، ومعاصرتي لحكامنا. هناك حكام لا زالوا يحكمون منذ أربعين وثلاثين وعشرين سنة. وهناك أناس يذبحون شعوبهم باسم الثورة والثورية. فأي ثورة هذه، وأي ثورية يدعيها هؤلاء الذين ينهبون فلوس البلد؟ ترى ألا تلاحظ هنا ان في كلامك خلطاً خطيراً بين السلطات التي تنهب من دون أن تجد من يردعها، وبين الارهاب الذي يحاول أن يرد عليها بطرق عنيفة دموية وخرقاء؟ - ربما... لست أدري، فقط يهمني ان أقول ان الذين يتهمونني بالتواطؤ مع السلطة، بالنسبة الى "الارهابي" عليهم ان يذهبوا ليشاهدوا مسرحية "الزعيم". أما عن الخلط الذي تتحدث عنه فأعتقد انه ليس صحيحاً. لقد سبق لك ان تحدثت عن كوني مشاكساً. وانا لا يمكنني أن أكون مشاكساً ضد طرف يخطئ ثم اسكت عن طرف آخر يرتكب الخطايا... لست وصياً على الشعب بعض الناس يقول، عن خطأ أو عن صواب، انه ما دام عادل إمام قد أصبح الى هذه الدرجة معبراً عن هموم الناس وغضبهم، صار الغضب والثورة يُلعبان على المسرح وفي السينما أو حتى في التلفزة، وصار وهمُ الثورة هذا بديلاً من غضب الشارع الحقيقي... - ما أعرفش. انا معبر عن الشخصية المصرية والعربية. أنا واحد من أبناء الشعب. لا أريد هنا أن أقول انني وصي على الشعب، اذ لا يمكن لأحد مهما أوتي من رفعة وجبروت ان يدعي الوصاية على الشعب، انا أعبر عن البسطاء وعن رأيهم وعن فكرهم. انهم يسكنون أعماقي. يعيشون في داخلي وأشعر انني أعيش في داخلهم. صحيح انني راكب عربية مرسيدس، لكني عمري ما تخليت عن الشعب أبداً. ولعلمك فإن الناس هم الذين مكنوني من أن أركب عربية مرسيدس. الشعب هو الذي موّل بيتي وشقتي بالعجمي، والشعب هو الذي يدفع قسط أولادي في المدارس. دي فلوس الناس. لذلك لا يمكنني أن أخذل الناس أو انفصل عنهم... يدفعني هذا الى التوقف عند مسرحية "الزعيم". لماذا الآن؟ - الحقيقة ان مسرحية "الزعيم" تراود ذهني منذ زمن بعيد. أما ان يكون توقيت تقديمها الآن فمسألة لها علاقة بالظروف. اذا قلت لك انني أراها أفضل أعمالك المسرحية على الاطلاق.. - سأوافقك على ذلك فوراً. هي في الحقيقة أفضل مسرحياتي، والفضل في ذلك يعود الى المخرج شريف عرفة لقد ناضلت حتى يتولى شريف اخراجها. كنت كلما اقترحت اسمه يقولون لي، انه مخرج سينمائي لا علاقة له بالمسرح... في "الزعيم" انتقلت بمستوى الصراع من المجتمع الى السياسة. في الماضي كان الصراع اجتماعياً. هو هذه المرة ضد ديكتاتور. هو صراع مباشر مع سلطة التفرد والتسلط. ما السبب في هذه النقلة؟ - لقد قلت لك ان "الزعيم" كانت تشغل دماغي منذ زمن بعيد، بل حتى منذ أيام "الواد سيد الشغال". وكان أساس الفكرة ان أعيد الى الوجود شخصية بهجت الاباصيري بطل "مدرسة المشاغبين" الذي كنت أريد أن يعود ليحيا في زمننا هذا، لنكتشف عبر عودته ان من كانوا مشاغبين في ذلك الحين يمكن أن يعتبروا ملائكة بالمقارنة مع ما يحدث في زمننا الراهن هذا. مهما يكن يبدو لي أن الظروف لم تكن ملائمة لتقديم "الزعيم". فالحريات كانت مكبوتة. اليوم عندنا في مصر حريات تفوق ما هو متاح في أي بلد عربي آخر. بيان سياسي من أجل الناس في "الزعيم" نراك تقف ضد سلطة الديكتاتور... - بل وأحياناً ضد الشعب. أفلم تلاحظ انتقادي العنيف للشعب حين أراد ان يخلق من جديد اسطورة البطل لكي يتكل عليه؟ حين ارادوا ان يعيدوا البطل الى الوجود قال لهم فارس: لا. وأضاف ان الاحلام لا تتحقق بالزعماء بل بالناس. بالناس حين تحكم وتعمل. انه بيان ساسي أليس كذلك؟ صحيح. اذن، انت في المسرحية ضد السلطة الديكتاتورية وضد اتكالية الشعب لكنك في السينما ضد الارهاب… - ولكنك حين تقول هذا تنسى "الارهاب والكباب" لقد كان صرخة ضد الارهاب ولكن كذلك ضد جهل الناس وفساد الادارة. حين يأتي بطل الفيلم ويسيطر على الجو ويقول للناس اطلبوا ما تريدون نراهم عاجزين عن تقديم أي طلب… في هذه الأفلام تختلط الكوميديا بالتراجيديا… - أجل. بل بالأحرى ان التراجيديا هي الطاغية. والكوميديا لا تظهر إلا في عدد قليل من المواقف. وما هذا إلا لأن الضحك يكاد يغيب عن حياتنا. في حين كان عربي مثلك يصل الى القاهرة، كان يجد لدى اصدقائه خزاناً من الفكاهات والنوادر الجديدة. اليوم يكاد هذا كله يختفي ليحل محله بؤس وغضب وعنف. سأتوقف عندك كممثل، بصرف النظر عن مسألة الكوميديا والتراجيديا. فالحال اننا منذ فيلم "الحريف" من اخراج محمد خان ابتدأنا، انا وزملائي النقاد نكتشف فيك ممثلاً كبيراً. ويمكن ان يقال الشيء نفسه عن ادوارك في أفلام مثل "حتى لا يطير الدخان" و"المشبوه" و"الارهاب والكباب". - و"المنسي". طبعاً… طبعاً، بل أريد ان اتوقف اكثر عند "المنسي". فأنا أعتقد ان هذا الدور يكاد وحده يلخص كل علاقتك بجمهورك. علاقة الفكاهي أعني. - بالتأكيد، فيوسف المنسي، البائس اليائس الذي عاني من مصاعب الحياة اليومية والعلاقات الانسانية، لا يجد أمامه في المكان الذي رمي فيه في محطة سكة الحديد الضائعة في ضواحي القاهرة، لا يجد سوى الحلم وسيلة للتواصل مع الحياة. لكأن الحلم هنا يعبر عن دور السينما نفسها… - اوافقك على هذا. فالحلم بالنسبة الى يوسف المنسي، هو السينما كما تبدو بالنسبة الى طبقة بأسرها مسحوقة من الناس. ومن هنا يصح الحديث عن التماهي المطلق بين جمهور الفيلم وبين شخصية يوسف المنسي. التماهي عبر الاحلام الصغيرة، ثم عبر التصدي لطبقة بأسرها… - من هنا قلت لك ان "المنسي" فيلم هام، لأنه يندرج ضمن اطار تنديدي الدائم بالفئات الطفيلية في المجتمع. لقد كنت أنا، على أي حال، اول من نبه الى خطورة شركات توظيف الأموال في فيلمي "رمضان فوق بركان" وفي افلام عديدة أخرى. المصادفة تلعب دورها الحقيقة ان نظرة منصفة تلقى اليوم على العديد من أفلام عادل إمام الرئيسية كما لا يكف عن تقديمها منذ ما لا يقل عن عشرين عاماً، ستكون كافية لانصاف الرجل في وجه النقد الذي طالما هاجمه من دون اي تعمق في دراسة أعماله وابعاد الشخصيات التي يؤديها وفي هذا السياق لا بد من القول بأن الرقابة كانت في تصديها للعديد من أفلام عادل امام، اكثر نباهة من نقاده. فلقد تصدت الرقابة لعدد كبير من أفلام عادل امام، من "الغول" الى "اللعب مع الكبار" ومن "خمسة باب" الى "حنفي الابهة". وهذا ما جعل الرقيب حمدي سرور يكتب عن عادل امام قائلاً: "من حقي ان اقول ان عادل امام لم يكن في يوم من الايام مجرد ممثل، وانما كان سياسياً كبيراً ومتابعاً لكل ما يدور حوله من احداث حتى أصبح يملك الايقاع اليومي للحياة المصرية والعربية بحلوها ومرّها". غير ان تلك النظرة المنصفة لا تمنع ملاحظة أساسية من فرض نفسها… … ففي العديد من أعمالك الأخيرة بما فيها "الارهاب والكباب" و"الارهابي" و"الزعيم" يأتي الحل عن طريق مصادفة تلعب دوراً أساسياً في تغيير دفة الأحداث… - "المصادفة هذه هي جزء اساسي وضروري من اللعبة الدرامية. أنت عاوز توصل فكرة، توصلها ازاي؟ عن طريق الدراما. عن طريق الحدوتة. المسألة ليست مسألة مصادفة. خذ مثلاً، البطل في "الارهاب والكباب" انه يعيش راضياً عن كل شيء. يحشر في الاوتوبيس فإذا به راضٍ. تزداد الأسعار فنراه راضيا. يعبر عن رضاه عن كل ما يحدث له. ولكن فجأة لا بد له أن يشعر بآدميته، لا بد له أن يشعر أنه ممتهن. المصادفة هنا مجرد حل درامي". لكنها تتكرر في أربعة أعمال على الأقل... - "كيف؟" في "الارهاب والكباب" تقوده المصادفة الى المجمع في الوقت نفسه مع الارهابيين. في "الزعيم" تكون مصادفة التشابه بين الديكتاتور الراحل والصعلوك. في "الارهابي" تخبطه الفتاة بسيارتها... - "كان من الضروري أن يخشى في "الارهابي" بيت الجماعة فكيف يدخل. كان ضربه بالسيارة حلاً درامياً لا بد منه". هذا يصح مرة، ولكنه حين يتكرر أفلا تصبح المسألة مسألة حل ميتافيزيقي؟ - "لا... الحل هنا، في السيناريو، الدراما عاوزه كده. هو لازم يخشى البيت وما فيش طريقة ثانية". وفي "المنسي"؟ - "ماله المنسي؟ هو كمان ميتافيزيقي؟". لا.. أبداً، كنت أريد أن أقول شيئاً آخر تماماً. المهم، بالنسبة اليّ فيلم "المنسي" فيلم رومانسي وساحر... - "أجل... أجل، رومانسي وساحر. حتى البنت في الفيلم عندما قالت للمنسي قبلني، خاف ان يقبلها لكيلا يصحو على الحقيقة ويضيع الحلم. على العموم أحب ان اطمئنك في فيلم "طيور الظلام" لن تكون هناك مصادفة ولا يحزنون...". عماذا يتحدث الفيلم؟ - يتحدث مرة أخرى عن الارهاب من خلال ثلاثة طلاب جامعيين اصدقاء يتخرجون من كلية الحقوق. واحد منهم يعمل في شركة والثاني يتحول إلى محامي آداب بكل ما يرافق ذلك من ظروف. اما الثالث فيتجه ناحية النشاط السياسي المغلف برداء الدين. هذا يصل وذاك يصل. وهما دائماً في حالة صعود وهبوط تمكننا من ان نتكلم عن الفساد داخل السلطة من جهة، وعن الفاشية المغلفة برداء الدين من جهة ثانية. بالنسبة اليك، على الدوام، لا يكمن الحل لا هنا ولا هناك… - لن يكون هناك حل إلا في الديموقراطية. الديموقراطية التي لا تمنح من الحاكم بين يوم وليلة ولا يكتسبها الشعب بالمصادفة. في اوروبا وصلوا الى الديموقراطية عبر صراعات ودماء وبفضل ثورة صناعية وحديثة. المواطن العربي يجب ان يعلم ما معنى الديموقراطية. طيب، انت كمواطن عربي ما هي الديموقراطية بالنسبة اليك؟ - ان اكون أنا ديموقراطياً أيضاً. أي ان لا أقهر العامل والموظف. ان أكون ديموقراطياً معناه ان أعامل الناس كبشر لا كعبيد، وأن اتوقع منهم بدورهم ان يعاملوني كبشر ايضاً.