إكتشف جمهور المسرح في باريس أخيراً تجربة من سورية استضافها "معهد العالم العربي"، تساهم في تسليط الضوء على موهبة تمثيلية مميّزة: إنّه بسّام كوسا الذي كان وقف في العام الماضي على المنصة نفسها، لتسلّم جائزة أفضل ممثل في "بينال السينما العربية"، عن دوره المتميز في فيلم "كومبارس" اخراج نبيل المالح. في "كومبارس" لعب بسام كوسا دور المواطن المستلب الساعي إلى حريّة صعبة. أما على المرح، فقدّم هذا الفنّان الذي يعتبر بين أبرز ممثلي الخشبة السورية في السنوات الأخيرة، عرضاً مونودرامياً عن "يوميات مجنون" لغوغول، يحمل توقيع المخرج وليد قوتلي. بعد شخصية سالم إذاً، ها هو يعود إلى شخصية ذلك الانسان الصغير الذي لا يحق له تقرير مصيره، لا يعرف حزناً ولا فرحاً، ولا ملاذ له سوى الجنون. رجل منسحق تحت عبء الظروف الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تعبر الحياة أمام عينيه، وهو يتحسر عليها عاجزاً عن مجرّد البدء بها. من دون أن يغادر كرسي الخيزران، إلا لبضع لحظات، يؤدي كوسا ملامح هذه الشخصية، بل يتقمّصها. وحين يعود إلى نفسه في نهاية العرض، ويغادر كرسيه للانحناء أمام تصفيق الجمهور، ينتبه المشاهد إلى حجم الجهد الذي بذله والتركيز الذي يتطلّبه هذا الدور البسيط ظاهرياً. مناسبة العرض كانت فرصة مغرية لإجراء حوار مع بسام كوسا. ما هي علاقة هذا الدور بك؟ هل هناك نقاط مشتركة؟ - إنّها مشاكلنا وعيوبنا التي يجب ان نسلط عليها الضوء. مجنون غوغول شخصية جديرة بالاهتمام، يناقشها كل مجتمع على طريقته. هناك مجموعة مشاكل أتقاسمها مع الشخصية. أبحث عن نقاط الالتقاء بيني وبينها، أفكر بها أكثر مما هي تفكر بي. في "كومبارس" كما في "يوميات مجنون"، كان التعبير يتم عن طريق الحوار والانفعالات الداخلية لإنسان مقموع لم يعرف الحرية، يترك جسده متسكّعاً في الفراغ. كيف تهتدي إلى العناصر الفنية التي باستطاعتها عكس الشخصية المطلوبة؟ - الشخصيتان مقموعتان. سالم في الفيلم و"المجنون" في المسرحية يحاولان الدفاع عن كيانهما، عن وجودهما. ومثل هذه الشخصيات تفرض سلوكها عادةً. هناك بناء ظني للشخصية. فعندما تقول هذا الحوار، وتفكر بهذه الطريقة، يجب ان أجد لها معادلاً مناسباً على صعيد الحركة. وعندما أتحرك، يجب ان أوجد لها المعادل الحسي انطلاقاً من واقعها الاجتماعي والاقتصادي. إنها رحلة بحث مضنية ومشوّقة عن سلسلة مفاتيح، وحلول للمشاكل، لتجسيد الشخصية بالشكل الأكثر اقناعاً. هل تُلغي نفسك لتمثل الآخر؟ - لا، لا ألغي نفسي حتى لا ألغي الشخصية. أنا لا أتعامل بأنانية مع الشخصية. ففي المسرح الشخصية باقية والممثل زائل. لماذا؟ - شخصية هاملت ، تمتلك مواصفات الديمومة. وأكبر الممثلين الذين تعاقبوا على هذا الدور، ماذا بقي منهم سوى ذكرى غامضة بعيدة؟ طبعاً هذا لا يُلغي اهميتهم. بالتالي علاقتي مع الأدوار التي أمثلها هي علاقة احترام ورفض لأي تساهل. هل هي علاقة امتلاك أيضاً؟ -لا، لا أظن أن هناك أي محاولة امتلاك. يجمع الممثل بالشخصية التي يؤدّيها نوع من العلاقة المعرفية والحسية. لا بد إذاً من بناء صداقة رفيعة المستوى بيني وبين الشخصية التي ألعب. لا أحب المصطلحات المستعملة عادةً في هذا السياق، مثل التفوق على النفس مثلاً وغيرها. فأنا لا أؤمن أن في الفن معركة، بالنسبة إلي الفن أمان وسلام. أتعامل في علاقة قوى متكافئة مع الشخصية. لا أحب ان أتفوق عليه، ولا أريدها أن تتفوق علي. وهذه هي علاقتي بالحياة... هل أنت واع وعقلاني على خشبة المسرح؟ - بالنسبة إلي من المهم ان يفهم الممثل، وأن تكون لديه أدوات تعبير عالية المستوى توصل احساسه عن طريق الفعل. ليس مهماً ان أرى ممثلاً يتمزق على المسرح، والناس تضحك عليه. إن إحساس الممثل في هذه اللحظة هائل بالتأكيد، لكنه لا يمتلك أدوات ناضجة. لا بد من القيام بمجموعة أفعال تكوّن الشخصية بطريقة عالية الجودة، وتوصل الاحساس الى المتلقي. المهم أن يوصل الممثل الحالة لا أن يحس بها. هل بإمكانه إيصال الحالة اذا لم يحس بها؟ - نعم، أنا أحمل كأساً من الشاي. أنفض يدي عنه لأنه ساخن. ليس من الضروري ان تلذعني حرارته حتى يشعر المشاهد بأنه ساخن. التمثيل أفتعال، انتحال. إنه جنحة ابداعية مع سبق الاصرار. كل المعطيات تقول لك بأنك تؤدين حالة ليست لك. بدءاً بالشخصية وانتهاء بالجمهور الذي يتفرج عليك. أنا أقول كلاماً مكتوباً، وكأنّه يُقال للمرّة الأولى. ألبس ثياباً ليست لي، أقف على خشبة المسرح التي ليست مكاني... كل الشروط المطروحة هي شروط عقلانية، تمنعني من الاندماج كلّياً في اللعبة. بالتالي يجب ان أعرف في كل لحظة أن عليّ تذكر النص، وألا أخرج من دائرة الضوء، إلخ. ثم هناك الجمهور يفرض وجوداً احتفالياً واستثنائياً. هل يؤثر الجمهور على أدائك؟ وهل تحتاج المونودراما الى مساندة الجمهور أكثر من بقية أشكال العروض؟ - حرارة الجمهور أو برودته تصلان الممثل في كل ثانية. والعرض المسرحي بحاجة الى مساندة الجمهور دائماً. ما علاقة الارتجال والخيال بفنّ التمثيل كما تمارسه؟ - لكل نص شروطه. لكنني أعتقد ان هناك صلات وصل بين فن الدراما وفن العمارة. فهل يقبل مهندس العمارة ان يكون هناك أي تفصيل غير محسوب؟ أما الخيال فهو عنصر أساسي. الممثل من دون خيال هو "حيط". الحائط المجرد من أي حياة أو قيمة جمالية. هل تختلف علاقتك مع النص المحلي عنها مع النص المترجم؟ - نعم، في النص المترجم أفكر بفعل آخر. قد تكون الفكرة عامة تعني كل انسان على وجه البسيطة، لكن المعالجة لها علاقة بنمط تفكير هذه الأمة التي ينتمي إليها النص المكتوب. أنا أفضل النصوص المحليّة. لأن بيني وبين الشخصيات في هذه الحالة قنوات، ولأنني لا أحتاج الى إضافة "شيفرات" جديدة خارجة عن مجتمعي. لكن لكل نص حياته وغناه وأهميته. ما العلاقة إذاً بين شخصية غوغول والمواطن العربي؟ - يعاني المواطن العربي من مجموعة سلبيات حياتية وضغوطات. أهمها برأيي احساسه بعدم الاعتراف بقدراته كفرد، وشعوره الدائم بأن التركيبة تسعى إلى تهميشه على الصعيد الحياتي. هناك أيضاً الثقل المؤسساتي البيروقراطي الخانق الذي يطأ الفرد العربي في كل مجالات وجوده. كفرد عربي، هل أنت سعيد بكونك أصبحت ممثلاً؟ - نعم، إنها مهنة نبيلة. طورتني على الصعيد الانساني والمعرفي. من ايجابياتها انها تجعلكِ تكتشفين مناطق الجمال في الحياة. وأنها تجعل الحياة ممكنة. هي أداة يمتلكها الفرد للعمل ضد ظلمة ما! كيف تقوّم عملك مع وليد قوتلي؟ - اعتمد وليد في هذا العمل الابتعاد عن القوالب الجاهزة والسائدة في بناء الشخصية. كان يعي تماماً ماذا يريد ان يقول. ابتعد عن التوابل والزخرفات المسرحية. وهذا مهم برأيي. ألا تشعر بنقص في خبرتك المسرحية، كونك لا تطّلع إلا نادراً على التجارب العربية والعالمية التي نادراً ما تُقدّم في سورية؟ - ليس النقص بهذه الخطورة. لا بد في مثل هذه الحالات من ايجاد بدائل، وأنا لجأت إلى السينما. فالسينما تقدم معرفة جيدة على صعيد الأداء والتمثيل، وهذا يحقق تواصلاً مع التقنية العالية التي وصلت اليها المجتمعات المتطورة. أنا لا أجد فرقاً بين الأداء السينمائي والمسرحي، الفروق طفيفة. ما هو سر استمراريتك ونجاحك اذاً؟ - حب المهنة. هذه المهنة أنانية تتركينها يوماً فتتركك سنة. الفن لا يحتمل أن نتركه. لذلك مثلاً، بعد ان تخرجت "بكالوريوس نحت" من كلية الفنون الجميلة في دمشق، تركت النحت لأنني لن استطيع التوفيق بينه وبين التمثيل. الفن نرجسي، اذا لم تعطِ نفسك كلياً له، فهو لا يقبلك. ونحن نرتاده غالباً لتأكيد انسانيتنا وليس لتحقيق "الفن" بالمطلق. ما هو العمل المسرحي الأجمل الذي شاركت به؟ - إنه "رسول من قرية تميرة" في 1977 إخراج المسرحي الراحل فواز الساجر. كان دوري مع الكومبارس، وقلت فيه خمس جمل فقط، لكنني ما زلت حتى الآن أشم رائحة المسرحية في "مسرح الحمراء" في دمشق. كانت علاقتنا بالفن يومها غير مشروطة. لم نكن ننتظر لا المال ولا الشهرة. كانت علاقة وجدانية مع المسرح والعمل تحديداً والمخرج الذي كان يتميز بشخصية حادة، ناعمة، غنية. إن رحيله خسارة قومية. يبتلع الانتاج التلفزيوني السريع النشاط المسرحي والسينمائي الجيد. كيف تبرر نشاطك التلفزيوني؟ - أنا لا أحب شتم التلفزيون. فلولا هذا الكمّ من الأعمال التلفزيونية لما كنت قادراً على تنفيذ دور كما في فيلم "كومبارس". يقدم التلفزيون مساحة كبيرة من التجارب، ويساعد على تنمية أدوات التعبير. ثم بصراحة في الظرف الفني الراهن في سورية، ليس بمقدوري الاعتماد على فيلم سينمائي كل ست سنوات. الفنان كالمعدن اذا أُهمل يصدأ. أنا بحاجة الى ورشة عمل دائمة بصفتي ممثل. وهذا لا يمكنني تحقيقه في استوديو شخصي. فأحققه في التلفزيون، تختلف السوية بالتأكيد احياناً. لكن التلفزيون يقدم الشهرة وهذا ضروري. المشاهد في المسرح، يفضل ان يرى ممثلاً يعرفه. التلفزيون يقدم الشهرة ومصدر العيش. المسرح والسينما لا يشكلان - للأسف! - مورد رزق. ثم أنا ضد الاستشهاد في الفن، علاقتي معه علاقة ندية. الفن جميل لا يقبل شهداء ولا قتلى انه يقبل الموضوعي والمبدع.