بدأت المرحلة الثانية من عملية "العاصفة" الهجومية التي تنفذها قوات الجيش الكرواتي، بالتعاون مع القوات الحكومية البوسنية، الاسبوع الماضي بهجومين جديدين ومتزامنين. تركزا على المواقع الصربية وسط البوسنة، وفي منطقتها الجنوبية الغربية، المحاذية للحدود مع كرواتيا. الهجوم الأول شنته قوات الفيلق البوسني السابع من مناطق انتشارها في ترافنيك وجوارها، في اتجاه بلدة دونيي فاكوف صوب مدينة يايتشي ذات الأهمية الاستراتيجية لقربها من بانيالوكا، التي تعتبر أهم معقل لصرب البوسنة وسط البلاد. أما الهجوم الثاني، فشنته قوات الجيش الكرواتي انطلاقاً من دوبروفنيك الساحلية، في اتجاه تريبينييه التي تعد أهم معاقل الصرب جنوب غرب البوسنة. ومع استمرار المعارك في هاتين المنطقتين، وبعد حسم الوضع العسكري لمصلحة التحالف البوسني - الكرواتي في كرايينا وبيهاتش، أخذت تتسارع مجدداً الخطوات الديبلوماسية الهادفة الى ايجاد تسوية سياسية للصراع، في مبادرة تقوم بها حالياً الولاياتالمتحدة، بالتشاور مع حلفائها الأوروبيين وروسيا. لكن السباق بين الخطوات العسكرية والديبلوماسية لا يزال قائماً، فيما يبدو واضحاً بقدر متزايد ان أي حل سياسي لهذه الحرب المدمرة سيكون مرهوناً بنتيجة التطورات التي يحاول أطراف الصراع فرضها على الأرض قبل الجلوس الى مائدة المفاوضات. بدأ السباق العسكري - الديبلوماسي الهادف الى وضع حد لحرب الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة عملياً من خلال الموقف الأميركي المؤيد للهجوم الشامل الذي شنه الكروات مطلع آب اغسطس، ونجح، في ساعات، في حسم الموقف العسكري في منطقة كرايينا، خصوصاً عاصمتها كنين، واعادتها الى السيادة الكرواتية، إثر سحق مقاومة قوات صرب كرواتيا التي تمردت وسيطرت على تلك المنطقة، المعترف بها دولياً جزءاً من كرواتيا منذ اعلانها استقلالها العام 1991. وكان من نتائج ذلك الهجوم أيضاً نجاح قوات الفيلق الخامس البوسنية، بقيادة الجنرال عاطف دوداكوفيتش، في فك الحصار الذي فرضته عليها القوات الصربية في بيهاتش، وقضائها في الوقت نفسه على قوات الزعيم البوسني المتمرد فكرت عبديتش، المتحالفة مع الصرب، في تلك المنطقة. لتلتقي بالقوات الكرواتية المتقدمة عبر الحدود الشمالية الغربية للبوسنة إثر نجاحها في استرداد كرايينا. نقطة التحول كانت تلك نتائج المرحلة الأولى من عملية "العاصفة"، التي بات الآن هناك ما يشبه الاجماع على اعتبارها نقطة تحول أساسية، أدت الى خلط أوراق الصراع اليوغوسلافي من جديد، وأفسحت المجال، حسب تعبير الرئيس الأميركي بيل كلينتون، أمام "وضع جديد قد يحمل في طياته احتمالات ايجابية" في ما يتعلق بامكانات انهاء الحرب، والتوصل الى تسوية مقبولة. وتورد مصادر أميركية رسمية، وخبراء حلف شمال الأطلسي أسباباً عدة لهذا التقويم المتفائل، أهمها: 1- ان هزيمة الصرب في كرايينا وبيهاتش أدت الى اضعافهم في البوسنة عموماً، وفي مناطقها الشمالية والوسطى والجنوبية الواقعة بين مناطق سيطرة الحكومة البوسنية من جهة، والحدود الكرواتية من الجهة الثانية، بوجه خاص. كما ان حدوث هذه الهزيمة، مباشرة إثر نجاح الصرب قبل ذلك في احتلال سريبرينيتسا وجيبا اللتين تعتبران منطقتين آمنتين، وتشديدهم الحصار الذي فرضوه على المناطق الآمنة الأخرى: غوراجدة، وبيهاتش، والعاصمة ساراييفو، كان عاملاً ساهم بقدر كبير في ازالة أسطورة "الصرب الذين لا ينهزمون" التي زيّنت للصرب في فترة سابقة محاولة المضي قدماً في خططهم الهادفة الى استكمال سيطرتهم على البوسنة دون أيما رادع داخلي، أو اقليمي، أو دولي. 2- الانشقاقات التي نتجت عن الهزيمة في صفوف القيادتين الصربيتين السياسية والعسكرية، خصوصاً بين زعيمهم السياسي رادوفان كارادجيتش وقائدهم العسكري الجنرال راتكو ملاديتش، وهو انشقاق يبدو أنه حُسم في نهاية المطاف لمصلحة الأخير، الذي يعتبر الآن بمثابة الرجل الأقوى على الاطلاق في قيادة صرب البوسنة، والشخصية الأوثق صلة ونفوذاً لدى رئيس الجمهورية الصربية سلوبودان ميلوتشيفيتش. المثير ان الصراع بين القيادات الصربية بدأ أساساً نتيجة اعراض ملاديتش عن التدخل في حرب كرايينا في صف صربها، على النقيض من كارادجيتش. وكان موقف ملاديتش ينمّ في الوقت ذاته عن رغبة الرئيس ميلوتشيفيتش، الذي اتهمه كارادجيتش لاحقاً بما سماه "خيانة حلم الأمة الصربية". غير أنه يبدو الآن ان كارادجيتش فقد معظم نفوذه لمصلحة غريمه ملاديتش الذي تدعمه بلغراد. 3- الاستفادة من الابتعاد النسبي الذي فضّل الرئيس الصربي ميلوتشيفيتش التزامه حيال التطورات التي شهدتها كرايينا وبيهاتش. وبدا أن نأي بلغراد بنفسها عن التصدي لكرواتيا يمثل دلالة قوية على أنها أضحت تحبِّذ وضع حد للصراع المسلح بين جمهورياتها السابقة على أساس يضمن حداً أدنى من المكاسب الصربية، ويحول دون الزج بالمنطقة في أتون حرب شاملة غير مضمونة العواقب. وخلصت وجهات نظر أميركية وأطلسية الى أن تلك الأسباب تُعزى كلها الى اقتناع بلغراد بأن "حلم صربيا الكبرى مستحيل التحقيق". وترى ان هذا الاقتناع أفضل مبرر لمواقف ميلوتشيفيتش الأخيرة التي تنم عن استعداد أكبر للوصول الى تسوية مقبولة للصراع، عوضاً عن المضي بلا طائل وراء اقامة دولة صربية كبرى تمتد من البحر الأدرياتيكي حتى نهر الدانوب. وطبقاً لهذا التحليل فإن تلك القناعة رسخت اثر اعادة كرايينا الى السيادة الكرواتية، وتكريس سيطرة الحكومة البوسنية على بيهاتش. لكن انتهاء حلم صربيا الكبرى قد لا يعني، في الضرورة، انتهاء الحرب في يوغوسلافيا السابقة. اذ سرعان ما تحول التركيز الصربي تكريساً لسيطرة الصرب على مناطق شرق البوسنة، بمحاذاة الحدود مع الجمهورية الصربية، خصوصاً بعدما تحدثت أنباء عن استعداد بلغراد للقبول بخطة تنطوي على اقتسام النفوذ على البوسنة، بتحويل شرقها منطقة نفوذ صربي، وغربها منطقة للنفوذ الكرواتي، على أن تبقى ساراييفو مدينة مفتوحة في ظل حماية دولية. وأفادت تقارير بأن هذه الخطة، أو صيغاً معدلة منها، تحظى بمباركة روسيا التي تعتقد أنها قادرة على ضمان المصالح الصربية في يوغوسلافيا السابقة والبلقان، وارضاء الطموحات الكرواتية في الوقت نفسه. غير أن مسارعة زغرب لنفي تلك الأنباء، وتأكيد واشنطن مراراً أن أي تسوية للصراع يمكن أن تتم من دون ضمانة دولية صارمة لاستقلال البوسنة، وسيادتها على أراضيها، ساهما في اعادة الأمور الى "نصاب يتسم بقدر أكبر من الواقعية"، على حد تعبير مصدر في وزارة الخارجية البريطانية. اذ ان المساعي التي تبذل حالياً، وتركز في المقام الأول على مبادرة ديبلوماسية أميركية يتولى الترويج لها مستشار الرئيس كلينتون لشؤون الأمن القومي انطوني ليك، وبحث فيها مع المسؤولين الروس في منتجع سوتشي على البحر الأسود، ويعاونه على تنفيذها مساعد وزير الخارجية ريتشارد هولبروك، والمبعوث الأميركي الخاص الى يوغوسلافيا السابقة روبرت فريزر، اللذان زارا بلغراد وزغرب وساراييفو لاطلاع زعماء كل منها على المبادرة، عادت لتركز على فكرة اقتسام الأراضي اليوغوسلافية السابقة فيما بين المجموعات العرقية والدينية القاطنة فيها، من دون الغاء حق أي منها في اقامة دولته المستقلة الخاصة به. ويعني ذلك عملياً الانطلاق في التسوية على أساس المحافظة على استقلال الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد اليوغوسلافي السابق، ومنها البوسنة، ليفسح ذلك مجالاً أمام تسوية اقليمية تقوم على مقايضة الأراضي التي يسيطر عليها فرقاء النزاع حالياً، والتوصل الى رسم جديد لخريطة المنطقة يحظى بموافقة الفرقاء من جهة، وبالضمانات الدولية اللازمة لتكريس حدود الخريطة الجديدة من الجهة الثانية. لكن الحكومة البوسنية ثارت اثر تسرب معلومات عن ان المحادثات الأميركية - الروسية في سوتشي ناقشت خطة مقترحة تتضمن تنازل الجانب البوسني عن غوراجدة، واعطاءها الى صرب البوسنة في مقابل مناطق يسيطر عليها الصرب حالياً وسط البلاد وغربها. ويعني ذلك عملياً إخلاء القسم الشرقي من البوسنة برمته لمصلحة الصرب غوراجدة هي الجيب الوحيد الباقي تحت سيطرة قوات الحكومة البوسنية في الشرق، في أعقاب سقوط سريبرينيتسا وجيبا. وسارعت ساراييفو، في تصريح أدلى به الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش الى اعلان رفضها القاطع تلك المقترحات. على رغم أن الخطة شملت، حسبما ذكر، تخصيص 51 في المئة من أراضي الجمهورية لمصلحة الجانب البوسني. والجدير بالذكر أن صرب البوسنة يسيطرون حالياً على نحو 70 في المئة من أراضي الجمهورية. وتشمل المقترحات تعهداً باعتراف بلغراد رسمياً باستقلال البوسنة. العاصفة الثانية كانت تلك العوامل سبباً في التطورات الميدانية الموازية للمساعي الديبلوماسية، المتسابقة معها أحياناً. وعلمت "الوسط" من مصادر رسمية في ساراييفو وزغرب ان المرحلة الحالية من العمليات الهجومية ضد المواقع الصربية تمثل "الخطوة الثانية في عملية العاصفة، وتهدف أساساً الى استباق أي مفاوضات قد تبدأ قريباً على رسم الحدود في البوسنة بين الأطراف المتنازعة". ويبدو من متابعة سير المعارك، ان القوات الحكومية البوسنية تحاول تحقيق هدف استراتيجي يتمثل في السيطرة على منطقة واسعة وسط البلاد، تشمل جبل كومار، المطل على دونيي فاكوف ويايتشي، ولتهدد بذلك بانيا لوكا وهي، كما تقدم، معقل رئيسي للصرب، الأمر الذي سيؤدي الى فرض ضغوط شديدة على النفوذ الصربي وسط البوسنة، ويحرم الصرب من امكان مقايضتهم المناطق التي يسيطرون عليها هناك بأخرى شرق البلاد، مثل غوراجدة وغيرها من المدن. في هذه الأثناء، تواصل القوات الكرواتية استكمال مراحل تطهير المناطق المتاخمة لحدودها من الوجود الصربي، وتركز، خصوصاً، على هدف استراتيجي يتمثل في ضمان ابعاد مدينة دوبروفنيك والساحل الدالماتي المحيط بها، على البحر الادرياتيكي، عن مرمى المدفعية الصربية المرابطة في تريبينييه وجوارها. وإذا تم لها ذلك، فسيصبح بامكان القوات البوسنية والصربية المتحالفة ان تسيطر على رقعة عريضة من الأراضي وسط البوسنة وجنوبها وغربها، وان تعيد فتح طريق الامداد الاستراتيجي الحيوي الذي يربط دوبروفنيك وسبليت على الساحل الادرياتيكي وترافنيك وسط البوسنة. وتكون كرواتيا تمكنت بذلك من تأمين معظم منطقة الحدود المتاخمة للبوسنة، بدءاً من بيهاتش شمالاً، وعبر كرايينا، وحتى دوبروفنيك جنوباً. ويبدو أن الأهم في ما يجري حالياً أن مسار الأزمة يتجه الى مرحلة تحديد النتائج ورسم الحدود. غير أن الفارق الأساسي بين هذه المرحلة وما سبقها من مراحل الصراع اليوغوسلافي، ان هذه النتائج والحدود الناجمة عنها ستنجم عن الأوضاع الميدانية القائمة على الأرض، في حين أن أي تسوية سياسية محتملة لن تكون أكثر من الاطار الذي سيكرس هذه الأوضاع دولياً، بدلاً من العكس. ولعل هذا التطور يحمل ما يكفي من مؤشرات للدلالة على أن الصراع ربما دخل فعلياً مرحلة حاسمة، تمهد لقيام وضع سياسي جديد في منطقة البلقان بأكملها.