نجح الهجوم الشامل الذي شنته القوات المسلحة الكرواتية، في أقل من ثلاثة أيام، في انهاء وجود ما كان يسمى بجمهورية كرايينا الصربية التي كان صرب كرواتيا أعلنوها من جانب واحد بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي السابق العام 1991، وقيام جمهورية كرواتيا وغيرها من الجمهوريات المستقلة على أنقاضه. ولأن تداخل الأمور والقضايا وتشعبها جزء لا يتجزأ من تكوين هذه المنطقة، وتاريخها، وجغرافيتها، فإن انتهاء كرايينا بهذا الشكل السريع والحاسم سيثير مجموعة جديدة من الاسئلة والمعضلات بقدر ما يمكن أن يكون ساهم في ايجاد أجوبة وحلول لغيرها. والسؤال الرئيسي الأول الذي أثاره هو: ما الثمن الذي ترتب على هذا السقوط؟ وأي الأطراف قد يضطر الى دفعه في نهاية المطاف؟ أما السؤال الثاني والملح فيتعلق بموقف الجمهورية الصربية - تحديداً الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش - من هذا التطور، وانعكاس ذلك على مستقبل العلاقة بين صربيا وكرواتيا من جهة، ومستقبل الصراع المتعدد الأوجه في يوغوسلافيا السابقة عموماً من الجهة الثانية. الموقف الدولي هذه الأسئلة قد لا تكون هناك اجابات واضحة عليها خلال الفترة المقبلة مباشرة، لكن هناك مؤشرات تكفي للخروج بعدد من الاستنتاجات المهمة التي يركز عليها متابعو الوضع في يوغوسلافيا السابقة. لعل الاستنتاج الأول والأكثر أهمية يتمثل في ما أعربت عنه ضمناً مصادر وزارة الخارجية الأميركية، إذ اعتبرت ما حدث في كرايينا "هزيمة كان لا بد من الحاقها بالصرب حتى يعودوا الى رشدهم بعد أن مر ما فعلوه في البوسنة من دون عقاب، وبعد أن برهنت الأممالمتحدة والمجموعة الأطلسية والدولية عموماً عن عجزها الكامل عن الوقوف بوجههم". وتابعت المصادر نفسها "اذا كان الكرواتيون قادرين على تنفيذ ما عجز العالم عن تنفيذه، فلم لا ندعهم يقومون بذلك، وبأقل قدر ممكن من الكلفة السياسية والعسكرية؟". ولا تختلف المواقف التي أعرب عنها مسؤولو الشؤون اليوغوسلافية وخبراؤها في أكثر من عاصمة غربية عن الموقف الأميركي كثيراً، وإن كان أصحابها يحرصون على كتمانها. لكن ما لوحظ بوضوح تباين المواقف الرسمية للعواصم الأوروبية، وردود فعلها على الهجوم الكرواتي. إذ تفاوتت في تحفظها أو حدتها حسب قربها أو بعدها تاريخياً وتقليدياً عن الغريمين اللدودين الصرب والكروات. فقد كانت روسيا صريحة في التعبير عن تضامنها التقليدي مع الصرب، مع محاولتها عدم تفويت المشاركة في الجهود الديبلوماسية من خلال دعوة الرئيس يلتسين الرئيسين الصربي والكرواتي الى عقد قمة في موسكو لتسوية النزاع. أما بريطانيا فكانت أقل صراحة في تأييد النهج الصربي، لكنها لم تتردد في الإعراب بشدة عن استنكارها وسخطها من الهجوم الكرواتي. في مقابل ذلك، كان هناك تعاطف ألماني تقليدي مع الكروات، وثمة تنديد خجول من جانب فرنسا، لكنه لم يكن كافياً لاخفاء الشعور الفرنسي العميق بالارتياح الى "كسر شوكة" الصرب وتلقينهم درساً. العودة الى كرايينا قد تكون كرايينا نقطة العودة الى البداية في الأزمة البلقانية، فمنها اندلعت الشرارة الأولى للحروب اليوغوسلافية الحالية. فقد سارع صرب كرواتيا العام 1991، وبدعم وتشجيع مباشرين من بلغراد، الى اعلان قيام جمهوريتهم الخاصة بهم في كرايينا، واعتبار كنين عاصمة لها، في خطوة رأى المراقبون أنها لم تكن أكثر من محاولة من جانب القيادة الصربية وبقايا الجيش الاتحادي اليوغوسلافي لتحويل تلك المنطقة الى خنجر في خاصرة كرواتيا ومصدر تهديد يمكن اللجوء اليه كلما دعت الحاجة. وكان الخبراء مجمعين منذ البداية على أن ذلك الجيب الصربي المصطنع في كرواتيا لن يكون قادراً على الاستمرار من دون دعم بلغراد المباشر. أما موقف القانون الدولي فانصرف الى أن لا جدال في أن كرايينا أرض كرواتية محتلة، وكانت مدينة كنين العاصمة الملكية القديمة لكرواتيا. وكان ذلك أحد الأسباب التي حملت زغرب على وضع استرجاع هذه المنطقة، التي تؤلف مساحتها نحو 30 في المئة من الأراضي الكرواتية المعترف بها دولياً، على قمة أولوياتها السياسية والعسكرية. وما فعله الكروات خلال السنوات الثلاث الماضية التي أعقبت خسارتهم كرايينا كان ببساطة انتظار توافر الظروف السياسية والعسكرية الملائمة لاسترجاعها. وكان ذلك يعني انتهاج سياسة مزدوجة تركزت، من جهة، على كسب الوقت لاستكمال بناء قدراتهم العسكرية، متجاوزين بذلك جميع اعتبارات الحظر المفروض على تزويد يوغوسلافيا السابقة بالأسلحة، والتظاهر، من الجهة الثانية، بالاستعداد لافساح المجال أمام الجهود والمساعي الدولية التي كان يفترض أن تكون مستمرة لتأمين عودة كرايينا الى كرواتيا، عن طريق المفاوضات. القدرة والظروف السياسية لكن من يعرف القيادة الكرواتية، خصوصاً الرئيس فرانيو تودجمان، أدرك جيداً انه، فور توافر القدرة العسكرية الكافية، وحال بروز فرصة سياسية ملائمة، فإن زغرب ستسارع الى استرجاع كرايينا، غير عابئة بالمواقف الدولية، وردود الفعل المحتملة. وهذا ما حدث تماماً. إذ نجح الكروات الى حد بعيد خلال السنوات الماضية في انشاء قوة عسكرية ضخمة، على مستوى عال من التجهيز والتسليح والتدريب، مستفيدين من انشغال العالم بالحرب الدائرة في البوسنة، ومن انعدام الجدية دولياً في تطبيق حظر الأسلحة. اما الفرصة السياسية، فجاءت على طبق من ذهب بفضل ممارسات صرب البوسنة خلال الأشهر الماضية واقتناع قيادتهم، التي كانت لا تزال موحدة آنذاك تحت شقّيها السياسي ممثلاً بزعيمه رادوفان كارادجيتش، والعسكري بقيادة الجنرال راتكو ميلاديتش بأنه بات بمستطاعها حسم الموقف العسكري في البوسنة لمصلحتها، والتخلص من المناطق الآمنة التي حددتها الأممالمتحدة لحماية السكان في شرق البوسنة وشمالها سريبرينيتسا وجيبا وغوراجدة وبيهاتش. ولعل الخطأ الأكثر فداحة الذي ارتكبه الصرب وقوعهم في فخ التحرش ببيهاتش. اذ سارعت كرواتيا الى اعتبار ذلك "تهديداً استراتيجياً لأمنها لا يمكنها أن تسكت عنه" على حد تعبير وزير خارجيتها إثر اجتماع القمة الذي عقدته القيادتان الكرواتية والبوسنية في أعقاب سقوط سريبرينيتسا وجيبا في أيدي صرب البوسنة. ففي ذلك الاجتماع، الذي ربما أثبتت الأحداث لاحقاً أنه كان أحد أهم وقائع الصراع اليوغوسلافي، حددت زغرب موقفها بكل وضوح وحزم من احتمال سقوط بيهاتش في أيدي الصرب، بأن أعلنت انها لن تسمح بسقوط بيهاتش، وأن من شأن الحصار والهجوم الذي بدأت تلك المنطقة تتعرض له من صرب البوسنة وكرايينا ومقاتلي القائد البوسني المنشق فكرت عبديتش أن يدفع كرواتيا الى التدخل في الحرب مباشرة، ليس للدفاع عن بيهاتش فحسب، بل لتحقيق هدفها الاستراتيجي الذي طال انتظاره: استرجاع كرايينا. وهكذا تحول ما بدا للوهلة الأولى خطوة ذكية من جانب الصرب للالتفاف حول التحذير الدولي من استخدام القوة الجوية الأطلسية ضدهم إذا هاجموا غوراجدة، والتركيز عوضاً عن ذلك على مهاجمة بيهاتش التي لم يشملها ذلك التحذير الدولي، الى وقوع كامل في الفخ لتقديم الذريعة التي كان الكروات في انتظارها لدخول الحرب. ومن هذه الزاوية بالذات لم يكن الهجوم الكرواتي مفاجئاً، بل على العكس من ذلك كانت التصريحات السياسية الصادرة عن زغرب في شأنه واضحة للغاية. وفي الوقت نفسه، لم تكن الاستعدادات العسكرية الكرواتية خلال الفترة التي سبقت هجومهم على كرايينا خافية على أي طرف. فقد حشدت زغرب ما لا يقل عن مئة ألف جندي، وأكثر من 200 دبابة، ومئات من قطع المدفعية والراجمات الصاروخية الثقيلة التي فتحت نيرانها على الأهداف الصربية في كرايينا وعاصمتها كنين في ساعة الصفر المحددة 4 آب/ اغسطس الجاري. لكن المفاجئ كان الحسم السريع الذي نجح الجيش الكرواتي في تحقيقه على أرض المعركة، والانهيار غير المتوقع لدفاعات قوات صرب كرايينا التي كان يفترض أنها تستند الى أكثر من 50 ألف جندي، ونحو 250 دبابة، وضعف هذا العدد من قطع المدفعية الثقيلة والراجمات الصاروخية، وغيرها من الأسلحة المساندة، بما فيها وحدات جوية تضم طائرات مقاتلة، وقاذفات، وطائرات هليكوبتر هجومية مسلحة. فبعد أقل من 24 ساعة على بدء الهجوم، ومن دون حدوث أي مواجهات واسعة بالمعنى العسكري المعروف، تمكن الكروات من الاستيلاء على كنين، والسيطرة على نحو 80 في المئة من أراضي كرايينا. وفي الوقت نفسه نجحت قوات الفيلق الخامس التابع للجيش البوسني، بقيادة الجنرال عاطف دوداكوفيتش، في فك الحصار الصربي لبيهاتش، والالتقاء بقوات الجنرال ماريان ماريكوفيتش الكرواتية المتقدمة من جهة كرايينا. صفقة أم ضغوط؟ إذا كان طبيعياً ان تؤدي هذه الانجازات العسكرية السريعة، وطابع الحسم الذي اتسمت به، الى إثارة التساؤلات من الخلفيات السياسية المحتملة التي ربما أحاطت بالعملية الكرواتية، لا سيما من زاوية احتمال أن يكون هناك قرار صربي سري بالانسحاب من كرايينا في اطار صفقة ما بين زغرب وبلغراد، تتضمن استعادة الكروات منطقة كرايينا مقابل احتفاظ الصرب بمنطقة سلافونيا الشرقية المحاذية للحدود الصربية. فإن مصادر الجانب الكرواتي نفت ذلك بصورة قاطعة، واعتبرته جزءاً من المحاولات الهادفة الى "دق اسفين في العلاقات بين كرواتيا والبوسنة، خصوصاً في ضوء ما أثبته التحالف بين الجانبين من قدرة على البقاء" على حد تعبير مصدر مقرّب الى الرئاسة الكرواتية في زغرب. كما ابدى المصدر الكرواتي استغرابه لتجاهل الاعلام الغربي للدور الذي تقوم به القوات البوسنية في العمليات الى جانب القوات الكرواتية، وخصوصاً الفيلق السابق انطلاقاً من ترافنيك والفيلق الخامص من بيهاتش. وأضاف المصدر "ان أخطر ما يواجه الصرب في البوسنة حالياً استمرار التحالف بين زغرب وساراييفو، ودخول العاصمتين في مزيد من التنسيق السياسي والعسكري، لان ذلك سيعني النهاية الفعلية للحلم الصربي في البوسنة، وبالتالي نهاية حلم اقامة صربيا الكبرى في المناطق التي كانت لا تزال تحت سيطرتهم من يوغوسلافيا السابقة. ولهذا فإن المحاولات التي تقوم بها بلغراد حالياً لاشاعة مثل هذه الأجواء من عدم الثقة بين الحكومتين الكرواتية والبوسنية ليست مفاجئة لنا". وقد تكون مثل هذه التأكيدات الكرواتية في محلها، لكنها لا تنفي ان الرئيس الصربي ميلوشيفيتش اختار عملياً التخلي عن صرب كرايينا. وهو ما كانت عكسته بوضوح قبل ساعات من بدء الهجوم الكرواتي تصريحات الجنرال ميلاديتش، الذي يعتبر عملياً "رجل ميلوشيفيتش" في بالي، مقر قيادة صرب البوسنة، التي أعرب فيها عن عدم استعداد قواته للدخول طرفاً في الحرب دفاعاً عن كرايينا وصربها، خلافاً لموقف زعيمه السياسي كارادجيتش الذي رأى "ان المعركة واحدة، وهي تستهدف الأمة الصربية ومستقبلها وبقاءها" وأكد عزمه على الزج بالقوات الصربية البوسنية للدفاع عن كرايينا. غير أن الوقت فات على أي تدخل صربي بوسني محتمل لانقاذ ما يمكن انقاذه في كرايينا. كما ان الصراع على السلطة في قيادة صرب البوسنة يتجه بوضوح الى التصعيد بين الجناحين العسكري والسياسي. وسيكون حسم هذا التصعيد محكوماً بطبيعة الحال بالقرار الذي سيتخذه ميلوشيفيتش في بلغراد ليحدد الطرف الذي يفضل تأييده خلال المرحلة المقبلة. مصير البوسنة في هذه الأثناء أكدت مصادر في كرواتيا أن زغرب "لا تخشى احتمال تدخل بلغراد مباشرة في الصراع". وأوردت هذه المصادر معلومات مفادها ان واشنطن حذرت بلغراد من مغبة التدخل المباشر، سواء في البوسنة أو في كرايينا. وذهبت في تحليلها لاحتمالات الموقف الذي سيتخذه ميلوشيفيتش حيال ما يجري الى "ان الأولوية بالنسبة الى بلغراد حالياً تتمثل في المحافظة على ما تمكن الصرب من السيطرة عليه في البوسنة، وعدم التورط في مغامرات عسكرية جديدة مثل الهجوم على بيهاتش، والتركيز من الآن فصاعداً على المناورة السياسية المصحوبة بقدر من الضغوط العسكرية المحدودة بانتظار التوصل الى تسوية سياسية مقبولة من وجهة النظر الصربية". وقد يكون الأمر الوحيد الذي لا جدال عليه حالياً ان كرواتيا هي الرابح الأول في هذه الجولة من جولات الحروب اليوغوسلافية. وينطبق هذا خصوصاً على رئيسها المسن فرانيو تودجمان، الشيوعي السابق الذي تحول من جنرال في الجيش اليوغوسلافي وزميل لابن بلده مؤسس الدولة اليوغوسلافية الاتحادية الماريشال جوزيف بروز تيتو، الى قومي متعصب زجّت به أفكاره السياسية المعارضة في السجن. أما الوضع بالنسبة الى الحكومة البوسنية فلن يكون سهلاً، بل سيزيد تعقيداً على الأرجح في ضوء ما حدث في كرايينا. فاللاجئون الصرب من ذلك الأقليم الذي عاد الى السيطرة الكرواتية توجهوا في غالبيتهم الساحقة الى الأراضي البوسنية الواقعة تحت السيطرة الصربية، ما سيزيد بطبيعة الحال الضغوط على الوضع البوسني الذي يعاني أصلاً. وبين هؤلاء اللاجئين آلاف المقاتلين الساخطين الذين لن يجدوا أمامهم سوى الانضمام الى قوات صرب البوسنة لمتابعة القتال ضد الكروات والبوسنيين على حد سواء. لكن الأهم من ذلك كله الموقف الذي سيتعين على الحكومة البوسنية اتخاذه لتلافي احتمال أن تجد نفسها في موقع المضطر الى دفع ثمن الانتصار الكرواتي على الصرب. ولن يكون أمام ساراييفو الكثير من الخيارات، باستثناء العمل على تعزيز تحالفها الاستراتيجي مع زغرب، ومحاولة تكريس حدودها الدولية المعترف بها، والخروج بما يمكن لها الخروج به من أي تسوية محتملة للصراع. وقد يكون صحيحاً أن القوة العسكرية الكرواتية نجحت في وضع حد لحلم صربيا الكبرى باسترجاعها كرايينا، لكن انقاذ البوسنة لا يزال يتطلب الكثير من عناصر القوة السياسية والعسكرية التي لا بد من توفيرها قبل أن يصبح الحديث ممكناً عن نهاية للحرب في يوغوسلافيا.