في الحلقة الاولى من هذه الرحلة مع ذكريات واحلام ومسار عادل إمام تابعنا بدايات "نجم النجوم"، ونشوءه في حي الحلمية الشعبي ثم اكتشافه للسينما والمسرح ودراسته الجامعية وصولاً الى انخراطه في الحياة الفنية. هنا، في هذه الحلقة الثانية نتابع المسيرة لنتوقف عند عادل إمام وقد اضحى فناناً معروفاً ونجماً وصارت له مواقفه ومعاركه مع النقاد واتكاله في معركته على الجمهور العريض الذي يعرفه ويحبه من المحيط الى الخليج. ولكن، لئن كان عادل إمام اضطر لخوض اكثر من معركة على الصعيد الفني هو الذي لا يمكنه الا ان يقرّ اليوم بأن بداياته المسرحية والسينمائية كانت متواضعة، وبأنه احتاج للعمل في اكثر من خمسين فيلماً قبل ان يتمكن من العثور على تلك الادوار الكبيرة التي لاءمته واوجدت له طريقه الصحيحة، فانه بالتدريج وجد نفسه يخوض معارك اكثر خطورة، معارك من نوع آخر، هي المعارك السياسية التي خاضها حيناً ضد الفساد المستشري وضد الظواهر الاجتماعية الفاسدة واخيراً ضد "الارهاب" الذي كان، خلال الاعوام الاخيرة، من أجرأ الذين تصدوا له، في الساحة الفنية المصرية. يصعب على عادل إمام اليوم ان يتذكر اللحظة التي انتقل فيها من هاو للتمثيل غير مصدق انه يمكن ان يصبح ممثلاً حقيقياً، الى فنان يقرر ان يتخلى عن دراساته الزراعية لصالح الفن. ليس معنى هذا ان الفنان فيه نبت هكذا كعشبة شيطانية، بل معناه ان قدراً ما قاد خطواته من دون ان يدرك انه عبر تلك الخطوات الاولى سوف يسير الدرب التي ستقوده الى القمة. بدايات عادل امام كانت بدايات مسرحية، ولا نعني بذلك محاولاته ضمن اطار العمل الجامعي، بل ضمن اطار العمل الفني الاحترافي الذي بدأ كما يروي بعبارة واحدة كانت كل دوره في مسرحية بعنوان "ثورة قرية" من اخراج حسين كمال. وكان كل دوره في تلك المسرحية، دور بائع للعسلية ينادي "معايا العسلية بمليم الوقية" ومن الطبيعي ان دوره ذاك لم يلفت نظر احد. اما المرة الاولى التي لفت فيها عادل إمام الانظار حين لعب دور دسوقي افندي في مسرحية "انا وهو وهي" مع فؤاد المهندس وشويكار. ويروي سمير خفاجي حكاية ذلك الدور على النحو التالي: "في بداية العام 1961 بدأت في انتاج مسرحية انا وهو وهي من خلال مسرح التلفزيون وبدأنا نبحث عن فنان ليقوم بدور دسوقي افندي فجاؤوا بشاب صغير اسمه سعيد صالح وجدت انه صغير ولا يناسب الدور، فجاؤوني بشاب آخر اسمه عادل إمام فوافقت عليه فوراً فكانت تلك بدايته الحقيقية. والحال ان تمثيله في تلك المسرحية حقق له نجاحاً مدهشاً انهالت عليه بعده العروض الكثيرة، لكنه رفضها لأنها كانت كلها تدور حول شخصية دسوقي افندي". ولئن كانت بدايات عادل امام مسرحية، فان تصرّف الجمهور العريض، داخل مصر وخارجها، عليها كانت عن طريق التلفزيون. - "هذا صحيح، يجيب عادل امام، لقد كان المسرح بدايتي اما اكتشاف الجمهور العريض لي فقد كان عبر مسلسل "الفنان والهندسة" الذي كتبه علي سالم واخرجه محمد فاضل وعرض على نطاق عربي عريض، غير ان هذا لا يمنعني من ان القول بأن نجاحي الاول الاكبر كان في مسلسل "احلام الفتى الطائر"، لقد كان مسلسلاً عجيباً وحقق نجاحاً استثنائياً. واعتبره انطلاقتي الحقيقية، اذ انني في السينما كنت لا ازال حتى ذلك الحين العب ادواراً ثانوية، اما في السرح فإن عصري الذهبي لم يكن اتى بعد، واعني به العصر الذي بدأ مع "مدرسة المشاغبين". تحقيق احلام البسطاء حضور عادل إمام السينمائي لم يبدأ الا في العام 1963 حيث لعب دوراً صغيراً في فيلم "الجريمة الضاحكة" من اخراج نجدي حافظ، فكان فاتحة لخمسين دوراً ثانوياً آخر لعبها في خمسين فيلماً معظمها من النوع الكوميدي. والسينما لن تعطي عادل امام فرصته الحقيقية الا مع النصف الثاني من سنوات السبعين على اي حال. كانت بداياتك مثلثة: مسرحية وسينمائية وتلفزيونية، فأيها كان الأقرب الى قلبك ورغباتك؟ - "لكل عمل، في الحقيقة، طريقه ومنهجه. المسرح احبه كثيراً. انت مهما بلغ بك الخيال لا يمكنك ان تتصور مبلغ السخونة وقلق الممثل وتوتره وهو على خشة المسرح حين يحسّ انه امام صالة تمتلئ بجمهور من كل الاصناف والانواع والطبقات والكل يضحك في الوقت نفسه. الضحك عندي يجب ان يكون ضارباً عالياً، ولا اقبل ان يكتفي الجمهور بالابتسام. المسرح ممتع ولو انه مجهد. السينما شيء آخر. السينما أحقق فيها احلام البسطاء. الناس الذين انا منهم ويشبهونني. لقد انتقد الكثيرون افلام العنف و"الاكشن". ولكن ما المانع ان اضرب شخصاً في الفيلم واتغلب عليه انا الانسان البسيط؟ انا في افلامي العب دور فتوة والفتوة عندي فتوة عقل. الرجل قد يكون قوياً، لكنه ان كان غبياً سوف لن يكون فتى بأي حال من الاحوال. الفتوة الحقيقية هي التي تستخدم العقل اولاً ثم العضلات. السينما تتيح اظهار هذا كله. السينما تحقق الاحلام. في السينما اقفز واطير واتشقلب واواصل الغناء في كل لحظة. في السينما اصبح وزيراً، محامياً، صعلوكاً وخطيراً في لحظة واحدة وعلى مدى ساعتين". ومن خلالك تحقق للجمهور رغباته. ترى أفلا يكمن هنا واحد من اسرار نجاحك؟ - قد يكون الامر كذلك لكن ارجو ان تلاحظ ان هذا يتحقق ضمن بعد فكري، وليس بالمصادفة. الموقف دائماً مدروس في افلامي…". هل تعتقد ان كل الافلام التي مثلتها كان ثمة فكر حقيقي في خلفيتها؟ - "والله، ما دام فيه دراما، فيه فكر. قد يكثير الفكر او يقل. قد يظهر بوضوح او يختفي خلف المشاهد، هذا موضوع آخر. انا في رأيي ان كل فيلم مثلته يجب ولا بد ان يكون هناك فكر وراءه. هناك نقاد اكتفوا بالقاء نظرة سطحية غير معمقة على بعض افلامي الكوميدية الاولى مثل "رجب فوق سطح من الصفيح الساخن" او "شعبان تحت الصفر" وراحوا يشتمونني من خلالها . وانني اعتقد اليوم ان النقاد الذين شاهدوا مثل هذه الافلام قد يعيدون النظر في مواقفهم لو رأوها ثانية اليوم. ربما وجدوا فيها فكراً واضحاً، وسابقاً لأوانه!". الناقد علي ابو شادي يوافق عادل إمام على قوله هذا حيث يكتب قائلاً: "جاء فيلم رجب فوق سطح من الصفيح الساخن في العام 1979 … تعبيراً عما يسود المجتمع المصري من تفاعلات ومتغيرات وتجسيداً لأوهام واحلام افراده. فمن خلال نمط الريفي الساذج الذي ظهر كثيراً على الشاشة، والذي يقع فريسة لمحتالي العاصمة ولصوصها، يقدم الفيلم وصفته السحرية: لا تكن حملاً وسط الذئاب، بل لا بد لك ان تكون ذئباً مثلها. وحيث لا يحتاج بطله الا الى الفهلوة سلاحاً يدخل به معركة الثراء: بطل جديد ونموذج للعديد من الشخصيات التي كان الواقع يطفح بها في تلك الفترة… الذين حققوا ثرواتهم بالنصب والاحتيال والشطارة، غير آبهين او مكترثين بالقيم والاخلاق". معارك مع النقاد يقودنا هذا الى الحديث عن النقاد. هناك فنانون، وربما كنت انت واحداً منهم، يفهمون النقاد بأنهم يرفعون الفنان الى القمة ثم يخفضونه الى السطح. فهل هذا يعود الى خطأ في تركيبة النقاد ام الى عدم محافظة الفنان على مستواه؟ - "لست ادري. ادري فقط انني اعيش في خضم عملي الفني منذ اكثر من ثلاثين سنة، ومنذ اكثر من ثلاثين سنة الاحظ ان هناك نقاداً يشتمونني. بعضهم جعل شتيمتي هواية له، وبعضهم جعلها حرفته وعمله يضحك. مهما يكن، انا اقرأ كل ما يكتب واحترم آراء الآخرين. ولكن حيث يستخدم الناقد الفاظاً مثل "التدني" و"الاسفاف" "والانحطاط" تصبح المسألة "سلطة الكباب". وسأقول لك هنا بكل صراحة: انني منذ اللحظة التي صرت فيها سيد اعمالي صار اول ما يهمني هو ايراد شباك التذاكر. انظر الى هذه المرآة لقد كتبت عليها عدد حضور فيلمي الاخير، ولم أعلق آراء النقاد ليس لأنني لا احترم تلك الآراء، فأنا احترمها مهما كان توجهها، بل لأن اول شيء احب ان اطمئن اليه هو اقبال الجمهور. هل لا يزال الجمهور واثقاً بي ام لا؟ هل سيواصل انفاقه عليّ ام لا؟ هناك نقاد كثيرون هاجموا افلامي، ولكن الجمهور كان غالباً ما يخيّب آمالهم ويقبل على تلك الافلام". تقول هذا الكلام بكل ثقة. ترى ألا يساورك اي قلق؟ - "انا قلق في كل لحظة. في كل يوم انا قلق. في كل ليلة اقلق واقلق امام كل ضحكة وامام اي رد فعل يبديه الجمهور. لو جئت اليّ لتحدثني قبل فتح الستارة مباشرة سوف تجدني عصبياً ومختلفاً ولن تستطيع توجيه اي كلمة لي. انا في كل ليلة امثّل المسرحية وكأنني امثّلها للمرة الاولى". مع ان الجمهور معك من دون قيد او شرط؟ - "افضل ان اقول بأن الجمهور يثق بي. ولكن هذه الثقة هي التي تخيفني اكثر من اي شيء آخر…". عالميتي… لمَ لا تكون عربية؟ لقد تحدثنا قبل فترة عن قراءاتك في الماضي فهل لا زلت تقرأ حتى اليوم؟ - "طبعاً، وأقرأ بشكل خاص كتب ودراسات التاريخ، التاريخ المصري والتاريخ العربي وغايتي من ذلك ان اسبر أغوار الشخصية المصرية والعربية. لماذا؟ لأنني اعتبر نفسي ممثلاً لثلاثمائة مليون عربي، وبالتالي عليّ ان اعرف تاريخ وحاضر احلام هؤلاء الذين امثّلهم. عندما ابدي رغبة في عرض عمل من اعمالي في بلد عربي يأتي معه من يقول لي: ولماذا لا تعرض عملك في اميركا.. فأسأل: لماذا؟ يأتيني الجواب: لكي تصبح نجماً عالمياً. فأقول مندهشاً: هؤلاء الثلاثمائة مليون عربي افلا يمكنهم ان يصنعوا مني نجماً عالمياً؟ انني اتلقى يومياً رسائل عديدة تأتيني من المحيط الى الخليج. من كل مكان فيه عرب". اذا كان الكثيرون من متابعي مسيرة عادل إمام يقولون انه بذل جهوداً كبيرة قبل ان يصبح "زعيماً حقيقياً" في عالم الفن فان صديقه سمير خفاجي يرى ان عادل، منذ رفض، وكان لا يزال جديداً، ان يلعب دوراً لم يستسغه في مسلسل "الفوازير" فيما رضي كل زملائه الناشئين تأدية الادوار التي عرضت عليهم مهما كان شأنها، كان من الواضح انه انما يعدّ نفسه لكي يكون نجماً كبيراً. - "صحيح، يعلّق عادل إمام قائلاً، الحقيقة انني لئن كنت غير مصدّق في البداية انني سأصبح فناناً، فإنني منذ البداية الحقيقية حين لعبت الادوار الصغيرة ادركت اني سأصل الى القمة يوماً". ويرى سمير خفاجة ان عنصراً اساسياً من العناصر التي اوصلت عادل إمام الى القمة كان "انتماء هذا الفنان لفرقة الفنانين المتحدين التي نشأ في احضانها وكانت احد العوامل الاساسية لوصوله الى استقراره الابداعي" وضمن اطار تلك الفرقة قدم عادل امام اعماله المسرحية الرئيسية من "مدرسة المشاغبين" الى "الزعيم" مروراً ب "شاهد ما شافش حاجة" و"الواد سيد الشغال"، هذه المسرحيات التي يعرفها عشرات الملايين من المتفرجين العرب الذين شاهدوها اما على المسرح او عبر الفيديو. مثل هذا النجاح كان من شأنه ان يصيب بالغرور القاتل، اي فنان آخر في زماننا، لكن عادل امام يكتفي بتأمله بهدوء وكأنه يدرس دراسة سوسيولوجية ويضحك قائلاً: "الغرور؟ انا مش فاضي للغرور. ما عنديش وقت. الغرور غباء وعدم موهبة. الناس المغرورة تداري عدم وجود الموهبة لديها بالغرور…". على الرغم من دفاعك الحماسي عن معظم، ان لم يكن كل، الافلام التي مثلتها، لا بد ان تعترف معنا انك عملت مع مخرجين كبار من طراز محمد خان وشريف عرفة وسمير سيف وحسين كمال ونادر جلال كما عملت مع مخرجين أقل موهبة… "في رأيي، وبكل صراحة، ليس هناك مخرج جيد ومخرج سيىء. هناك فيلم يستجيب لطموحات صانعه وفيلم يعجز عن ذلك. وانا ما دمت، منذ البداية رضيت بالعمل مع مخرج يكون عليّ احترام عمله. الاتفاق بيننا على كل شيء يكون قبل الدخول الى البلاتوه. الديموقراطية تنتهي عند الباب. عند التصوير لا يمكنني ان اقول لشريف عرفه: حط الكاميرا هنا او هناك". هذا عن الكاميرا، فماذا عن دراسة شخصيتك في الفيلم؟ الى اي مدى تتدخل، انت، في رسم الشخصية وتوجيهها؟ - "اتدخل في ماذا؟ ده انا اللي بعمل الشخصية فكيف تقول التدخل؟". اذن، اضع سؤالي بشكل آخر، كيف تشتغل مع المخرج على رسم الشخصية؟ - "عندما أقرأ السيناريو وانتهي من تصور الشخصية ادرسها مع الكاتب ومع المخرج. خذ مثلاً شخصية التي مثلتها في فيلم "الهلفوت". شخصية الولد ابو شعر، هذه الشخصية لم تكن موجودة في السيناريو. لقد ظللت سنتين قلقاً اتساءل عن الكيفية التي سأركّب فيها هذه الشخصية. فأنت تعرف ان لكل شخصية صورتين روحية ومادية. الروحية تتعلق بروحية الشخصية وابعادها الفكرية، اما المادية فتتعلق بالشكل الخارجي والمسالك. وكان من اصعب ما جابهني هو تطبيق الصورة المادية على الروحية في تلك الشخصية". اذن فأنت تتدخل بشكل اساسي في بناء الشخصية… - "طبعاً". يقودني هذا الى ان اطرح عليك سؤالاً حول مجموعة الافلام التي لعبت فيها في الآونة الاخيرة من "الارهاب والكباب" الى "الارهابي" وصولاً الى فيلمك الجديد "طيور الظلام" اذ ليس من قبيل المصادفة ان يكون كل فيلم من هذه الافلام جزءاً من معركة… - "طبعاً معركة. وانا أردت منها ان تكون معركة". انها معركة ضد الارهاب كما هو مستشر حالياً في مصر… - "وخارج مصر ايضاً. ان الارهاب الذي نجابهه كارثة لا تقلّ عن اخطر كوارثنا القومية خطورة". حسنا. اذن، اذا عدنا الى واحد من افلامك القديمة الناجحة وهو فيلم "الغول" ربما اجدني متفقاً مع من يرى في الضربة التي توجهها الى "الغول"، اشارة مسبقة الى الاسلوب الذي سيتخذه الارهاب بعد ذلك؟ - "لماذا لا تقول ان الضربة في الفيلم تصوير ما كان حدث قبلاً، من اغتيال الرئيس السادات، بمعنى اننا في الفيلم عكسنا واقعاً قام بالفعل". لكن الفيلم لا يدين العملية بل لربما كان متعاطفاً معها… - "لاحظ ان الشخصية، في الفيلم، هي التي تقوم بالاغتيال، وليس عادل امام، لو ان كل دور في كل فيلم مثلته تبنيته، لن يكون هناك فن ولا يحزنون. الفيلم صور اغتيال السادات لا اكثر ولا اقل". واضح، ولكني اقول انك وصلت خلال 30 سنة من العمل الفني، الى ان تكون معبراً عن رغبات الناس، تفعل على الشاشة ما يعجزون هم عن تحقيقه في الحياة… - "انا ارصد ما يحدث. انا اراقب ما يحدث واحدس به. هل اذا كنت تحدثت عن الادمان في فيلم مثل "النمر والانثى" الذي صوّرت فيه حالة ادمان متميزة، اكون بهذا داعية للادمان على المخدرات؟ ان معظم الافلام التي مثلت فيها على مدى الثلاثين عاماً التي تتحدث عنها، يتناول القضايا الشائكة: الانفتاح، التسلق، الارهاب، الادمان، النفاق الاجتماعي، ودائماً من موقع الرافض لكل انواع ذلك الفساد. في هذا كله، ليس ثمة فارق عندي بين العمل في المسرح والعمل في السينما، المهم ان اوصل رسالة الى جمهوري العريض".