من غير الواضح بعد، اذا كانت حكومة الرئيس رفيق الحريري قادرة على تجاوز "حقل الالغام" الذي وضعت نفسها فيه اخيراً، بحد ادنى من الخسائر. لكن ثمة مفارقة لافتة هي ان الرئيس الحريري الذي دخل القصر الحكومي قبل حوالى ثلاث سنوات لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي، تهدده شظايا انفجار هذا الوضع، الا اذا كان هناك خط احمر سياسي، محلي واقليمي، يفرض التمديد له، على غرار ما يتردد عن تمديد لغيره من الرئاسات.. والاوضاع. وثمة تفسير ثان لما يمكن ان يكون المأزق الذي يجد الحريري نفسه فيه، وهو ان اللبنانيين يحاولون محاسبته ليس على ما استطاع انجازه، وهو كثير ومهم في رأي كثيرين، وانما على ما كانوا يأملونه منه، او على الاصح على ما وعد به. وفي شريط الانجازات التي تحسب للرئيس الحريري، اقله على الصعيد الاقتصادي والنقدي والمالي، انه حقق استقراراً نقدياً افتقدته السوق المالية اللبنانية منذ 10 سنوات على الاقل، بعدما انهارت الليرة الى مستويات قياسية لم يسبق ان حققتها في تاريخها فوصلت الى مستوى 2750 ليرة للدولار في ايلول سبتمبر 1992، لتبدأ استعادة مواقعها مع وصول الرئيس الحريري الى رئاسة الحكومة، ولتصل حالياً الى حدود 1615 ليرة، تحسن تصل نسبته الى 2.41 في المئة، في خلال اقل من 3 سنوات. ويقول المؤيدون للحريري، انه كان يمكن لليرة ان تحقق تحسناً اعلى لو لم يكن هناك هدف ثان للسياسة النقدية التي انتهجتها الحكومة، ويتمثل بضرورة توفير الحد الاقصى من الاستقرار في سوق القطع لتشجيع العودة الى التعامل بالليرة، وتحسين كفاءة التعاملات المالية، ودعم استقرار اسعار السلع، وهو ما ساهم بالفعل في "احياء" التعامل بالليرة، ولو ان الدولار حافظ على حصة الاسد من السوق، اقله عند مستويات معينة، مثل الودائع والقروض المصرفية. لكن استقرار سوق القطع لم يكن النجاح الوحيد الذي حققه الرئيس الحريري، اذ يعترف له كثيرون بنجاح ثان على صعيد تدعيم احتياط العملات الاجنبية الذي ارتفع من حوالي 600 مليون دولار اواخر العام 1992 الى حدود 4 مليارات دولار في تشرين الاول اكتوبر الماضي، قبل ان يعاود التراجع الى مستوى 150.3 مليار دولار، آخر حزيران يونيو الماضي، نتيجة اضطرار مصرف لبنان الى التدخل في السوق للدفاع عن الليرة ضد الضغوط السياسية التي تعرضت لها في الاشهر القليلة الماضية. الى ذلك، ثمة من يقول ان "وهج" الحريري، الذي اكتسبه استناداً الى نجاحات شخصية في عالم المال والاعمال هو الذي ساهم بالدرجة الاولى في اجتذاب استثمارات لبنانية وخليجية تجاوزت قيمتها 17 مليار دولار في خلال 33 شهراً الماضية. وتوسع هذا "الوهج" ليشمل لاحقاً عشرات الشركات والمصارف والمؤسسات الدولية التي قررت العودة الى بيروت، اما للاستثمار فيها، او للانطلاق منها الى الاسواق الاخرى في المنطقة، ما يمكن ان يذكر بالدور الذي لعبته العاصمة اللبنانية حتى اواسط السبعينات، عندما كانت مصرف الشرق الاوسط، ومستشفاه، وعاصمة الخدمات السياحية في المنطقة. ولا يتورع مؤيدو الحريري عن القول بأن الرجل هو اول من يحاول بناء اقتصاد لبناني كبير، يمكن ان يعوض عن الخسائر التي فرضتها حرب ال17 سنة، ويوفر للبنان فرصة للمنافسة في المستقبل، وتحت هذا الشعار، ينظر المؤيدين الى خطط اعادة الاعمار، والى خطة النهوض الاقتصادي التي لم تر النور حتى الآن. فقد باشرت الحكومة خططاً لإعادة اعمار القطاعات الاساسية، مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والطرق. وتجاوز مجموع النفقات التي التزمت بها حتى الآن 3 مليارات دولار، تركزت بصورة مباشرة على تطوير قطاعي الكهرباء والاتصالات، الى المباشرة بتنفيذ مشروع توسعة مطار بيروت الدولي، ثم المرفأ، وشبكة الطرق السريعة بين المناطق انطلاقاً من بيروت، الى الشبكة الدولية من المشاريع التي تكفل للبنان قاعدة متطورة من الخدمات الاساسية. وغالباً ما يبرر مؤيدو الحريري ضخامة الانفاق واللجوء الى الاقتراض، ولو من الخارج، بالحاجة الى اطلاق الوضع الاقتصادي، وتحسين فرص الانتاج، وهي الحجة التي تستخدم في معظم الحالات لتبرير الكلفة المرتفعة لخطط اعادة الاعمار، والنهوض الاقتصادي التي تصل كلفتها الى حوالي 12 مليار دولار بأسعار العام 9219. ومع ذلك، وبقدر ما يتمتع به الرئيس الحريري من تأييد بالقدر نفسه يتعرض لانتقادات من الاكيد انها تزيد كثيراً في النصف الثاني من العام 1995 عما كانت عليه في الربع الاخير من العام 1992، عندما جاء الى السراي الحكومي تحت شعار الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي. وفي الواقع تتقاطع الانتقادات للرئيس الحريري عند 3 نقاط على الاقل: الاولى ان النجاح المالي والنقدي الذي تحقق في المرحلة الاولى تحول الى مشكلة في الاشهر الاخيرة، عندما بدا ان الاستقرار النقدي مربوط بشخص الحريري والاصح ببقائه في الحكم، ما يعني وفق ما يقوله الوزير السابق بطرس حرب، ان الاستقرار الذي تنعم به سوق القطع هو نتيجة وجود اشخاص، وليس نتيجة تحسن اوضاع. وتحول ارتباط الاستقرار النقدي بشخص الرئيس الحريري الى مؤشر الى استمرار الخلل في الاساس المالي للبلاد، وهو ما يدفع كثيرين الى تحميل رئيس الحكومة مسؤولية تضخم الدين الداخلي الى مستويات خطيرة حوالي 6 مليارات دولار وهو رقم يساوي قيمة الاحتياط النقدي ومخزون الذهب لدى مصرف لبنان تقريباً. ومع ان اخصام الحريري يعترفون بوهجه الذي شجع على جذب استثمارات كبيرة من الخارج، الا انهم يسجلون عليه مأخذه الاول، وهو ان هذه الاستثمارات تركزت في معظمها في قطاعين غير منتجين: مثل سندات الخزينة بالليرة، للافادة من الفوائد المرتفعة عليها، وقطاع العقارات والبناء، الذي وصل حالياً الى حدود "التخمة" بسبب تقلص الطلب على المساكن. وثمة من يقول ان سياسة رفع الفوائد المرتفعة على سندات الخزينة بالليرة، وهي السياسة التي اجتذبت مليارات الدولارات من الخارج، كانت احد الاسباب الرئيسية لتقلص الاستثمار في القطاعات الانتاجية بسبب الفوائد المرتفعة على القروض، واتجاه معظم المدخرين الى توظيف اموالهم بعائدات عالية ومضمونة. وتقول تقديرات مصرفية ومالية وصناعية، ان تدني التوظيفات في القطاعات الانتاجية، كان احد الاسباب المباشرة لبقاء معدلات البطالة مرتفعة، وتصل الى مستويات يقدرها رئيس الاتحاد العمالي الياس ابو رزق بحوالي 35 في المئة. لكن ثمة من يقول كذلك ان الرئيس الحريري يحاول ان يدير البلاد، كما لو كان يدير احدى شركاته، على ما في هذا الاتهام من نواح ايجابية ابرزها ان ادارة الشركات غالباً ما تكون ادارة ناجحة ومثمرة. اما تبرير هذا الاتهام فيرتبط بنواح عدة، ابرزها ان الحريري لم يعط الشأن الاجتماعي ما يحتاجه من تركيز، في اشارة الى التفاوت الحاصل بين الاداء المالي للحكومة والدور الاجتماعي الذي كان يتوقعه الكثيرون. وتتمثل النقطة الثانية التي تتركز عليها الانتقادات، في ما يعتبره كثيرون الفشل في تأمين الخدمات الاساسية، فلا الكهرباء توافرت بالكامل، الى حد ان التقنين لا زال عند المستوى الذي كان عليه قبل 3 سنوات، على رغم المواعيد التي تحددت، وكان آخرها ربيع العام 1995. كذلك فإن الاتصالات الهاتفية لا تزال مشكلة المشاكل، ومع ان لبنان انشأ شبكة للهاتف الخليوي، فإن وضع معظم الشبكات لا زال يواجه المشكلة التي كان يواجهها قبل سنوات، من تفاقم وتيرة الاعطال، وتدني كفاءة الربط بين منطقة واخرى، الى "الرشاوى" التي يتوجب على اصحاب الخطوط دفعها للابقاء على خطوطهم. ومع ان الحكومة تحمِّل كثرة السيارات جزءاً من مسؤولية الازدحام الخانق في بيروت والمدن الرئيسية، فإن من المآخذ الرئيسية عليها ان الجزء الاهم من المسؤولية يقع على ورش اعادة الاعمار والفوضى والعشوائية التي تتصف بها في اشارة الى استمرار حفر الطرق لأكثر من سنتين. الى ذلك، يرى كثيرون ان خطط اعادة الاعمار التي بادرت الحكومة الى تنفيذها اتسمت في حالات كثيرة بالفوضى، وهو ما يفسر التأخر في تنفيذ العديد من المشاريع التي بدأ العمل بها من دون اكتمال التخطيط والتحضير. اما النقطة الثالثة التي تتركز عليها الانتقادات فتتمثل في ما يعتبره كثيرون سياسة ادخال لبنان في "اتون" الديون الخارجية، نتيجة عدم التدقيق في سلم الاولويات الانفاقية للحكومة، واتجاهها الى تنفيذ مشاريع لا تتمتع أقله في الوقت الحاضر، بأولوية كافية، مثل مشروع توسعة المطار وقصر المؤتمرات. الرئيس الحريري لا يرفض الاعتراف بالخطأ، ومع ان كثيرين لا يزالون يميزونه عن غالبية الرؤساء السابقين للحكومة الى حد اعتبار الرجل ظاهرة في الحياة السياسية اللبنانية، الا ان كثيرين ايضاً يقولون ان قوته تحولت الى مصدر خطر، اذا كانت ستستمر اكثر اهمية من قوة الدولة.