التظاهرات التي شهدها لبنان في 6 ايار مايو المنصرم وأدت الى استقالة حكومة عمر كرامي وتأليف حكومة جديدة برئاسة رشيد الصلح تضخمت وعكست موجة شعبية، لسببين: اقتصادي وسياسي. فالسبب الاقتصادي تمثل بانهيار سريع لسعر صرف الليرة وتسارع موجة الغلاء وارتكاب اجهزة الدولة اخطاء كبيرة في هذا النطاق، فمصرف لبنان كان خلال الفترة الممتدة من آذار مارس 1991 وحتى نهاية تشرين الثاني نوفمبر يشتري الدولار، ومع عمليات الشراء كان سعر الليرة يتحسن، نظراً الى توافر فائض في حساب ميزان المدفوعات يوازي او يتجاوز المليار دولار. لكن منذ بداية شهر كانون الاول ديسمبر الماضي تحول الفائض الى عجز وبدأ مصرف لبنان يمارس سياسة المحافظة على مستوى صرف سعر الدولار ب 880 ليرة لبنانية. وكي يستقر السعر على هذا المستوى، في وقت بدأ فيه ميزان المدفوعات يعاني من عجز، وجد مصرف لبنان ان عليه بيع كميات كبيرة من احتياطيه الذي كان تعاظم ما بين آذار مارس 1990 وأواخر تشرين الثاني نوفمبر من 500 مليون دولار الى 1260 مليون دولار. وبكلام آخر حافظ مصرف لبنان على سعر غير واقعي لليرة من اجل الابقاء على صورة النجاح الاقتصادي. وتزامن منهج مصرف لبنان مع المباحثات التي جرت بين ممثلي البنك الدولي ورئيس الحكومة اللبنانية في باريس في شهر كانون الاول ديسمبر 1991 حول البرنامج الاستثنائي المطلوب لتمويل لبنان في مرحلة اعادة تأهيل بنيته الاساسية. حيث افترض البرنامج الاولي ان التنفيذ يمتد على مدى ثلاث سنوات وبكلفة تزيد على 4 مليارات دولار. وخلال المباحثات في باريس اعرب خبراء البنك الدولي عن ارتياحهم الى تحقيق لبنان لفائض على حساب ميزان المدفوعات والى توسيع نطاق سيطرة القوى الشرعية على مختلف المرافق، انما في الوقت ذاته عبر خبراء البنك الدولي عن تخوفهم من عجز الادارة الحكومية عن القيام بدورها التنفيذي بفعالية. وعاد رئيس الوزراء اللبناني السابق عمر كرامي الى بيروت منشرحاً، وارتكب مع حكومته خطأين جوهريين لأنه لم يشأ سماع تحذير البنك الدولي حول الادارة الحكومية وفعاليتها. الخطأ الاول تمثل في طلبه من البنك المركزي الاستمرار في سياسة دعم سعر صرف الليرة ولو كانت النتيجة تدهور الاحتياط النقدي بسرعة، والخطأ الثاني تمثل في اقرار الحكومة زيادات على معاشات موظفي الدولة بلغت نسبتها النظرية 120 في المئة، في حين تجاوزت الزيادة العملية نسبة 210 في المئة، وحيث ان القسم الاكبر من الزيادات دفع قبيل نهاية السنة، فقد نتج عن ذلك تضخم في الكتلة النقدية وزيادة في نسبة عجز الموازنة. الاهمال المتمادي وقبل نهاية 1991 وخلال الشهر الاول من السنة الحالية تكاثرت التعليقات المنبهة الى محاذير القرارات المشار اليها ومخاطر استمرار تردي اوضاع الادارة وامكانية تأخر المساعدات الدولية بسبب هذا التردي، لكن الحكومة استمرت في تجاهل التحذيرات، بل تبارى أبرز الوزراء ورئيس الجمهورية في اظهار الانجازات التي اعتبروا ان الحكومة حققتها. والواقع ان الانجاز الوحيد تمثل باستقرار السلام في لبنان، وهي مسألة تعود الى اعتبارات اقليمية ودولية تأثر بها لبنان من دون ان يؤثر فيها. وخلال شهر شباط فبراير 1992 كان احتياطي مصرف لبنان خسر 450 مليون دولار طرحت في السوق دعماً لسعر الليرة، فقررت ادارة مصرف لبنان بتاريخ 19 شباط فبراير التوقف عن التدخل في سوق القطع، وجاء الاعلان عن ان التضخم في الكتلة النقدية لا بد وان يؤثر على سعر صرف الليرة ليجمد الوضع لمدة خمسة ايام، حيث راوح سعر صرف الدولار بين 1075 ليرة و1125. الا ان التدهور سرعان ما بدأ، ومع حلول اوائل شهر ايار مايو كان سعر صرف الدولار يفوق 1600 ل.ل رسمياً، لكن السعر في السوق كان اعلى من هذا المستوى. وتفجرت الازمة في 6 أيار مايو تلقائياً عندما اندفع اللبنانيون، متعاطفين مع دعوة الاتحاد العمالي لاضراب عام، الى التعبير عن سخطهم على سياسات الحكومة، خصوصاً بسبب تجاهلها لمطالب الرأي العام، فالحكومة تصرفت وكأنها غير قابلة للعزل او الاقالة. وهذا التصرف استفز اللبنانيين على صعيد الحريات السياسية، فالغالبية المطلقة كانت ترفض سياسات الحكومة فيما الحكومة تقول ان الاوضاع جيدة، وهي تتطور. وتجاه الاهمال المتمادي للكلمة المكتوبة والرأي الاذاعي وتصريحات وزراء نافذين من خارج حلقة الوزراء المرتاحين للأوضاع، انفجر الشارع وفوجئت الحكومة بالموجة العارمة للغضب الشعبي، ومع ذلك بقي رئيس الحكومة متردداً في الاستقالة حتى اقتراب المتظاهرين من منزله الذي احاطت به قوات عسكرية كثيفة لمنع المتظاهرين من اقتحامه. وقبل ان يجرف تيار الغضب والاحباط الشعبي حكومة الرئيس كرامي كانت الحكومة انتدبت في 15 آذار مارس لجنة من 8 خبراء اقتصاديين واداريين لوضع خطة لمواجهة الأزمة، والكاتب كان واحداً من هؤلاء، وقد وضعت اللجنة تقريراً تضمن توصيات يجب تنفيذها، ورفعته للحكومة قبيل استقالتها. وقد تبنت الحكومة الجديدة التقرير مبدئياً مع توصية اضافية بالعمل على استخدام بعض موارد شركات التأمين على وجه يدعم ميزان المدفوعات ويسهم في تحسين معدل النمو. "مؤامرة" على الليرة وجاءت الحكومة الجديدة بمعظم وجوهها القديمة مطعمة بعنصرين جديدين لوزارتي الاقتصاد والمال، اولهما اقتصادي جامعي لوزارة الاقتصاد، والثاني قاض نزيه ومثقف لوزارة المال، وافترض كثيرون ان هذه الحكومة ستركز جهدها على معالجة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكن خطواتها الاولى تركزت على موضوع الانتخابات، وعلى اجرائها خلال الصيف، على اسس تنظيمية وتفصيلية اقل ما يقال فيها انها متمايزة ما بين المناطق والفئات. واخذ سعر النقد اللبناني بالتدهور، وتسارع هذا التدهور خصوصاً بعد اطلاق آخر رهينتين اجنبيتين في حزيران يونيو المنصرم، وكانت الحكومة تتذرع بأن المساعدات الدولية، خصوصاً المقررة من السوق الاوروبية المشتركة، معلقة على تحرير الرهينتين، وحينما تبدى بوضوح ان المعوقات في وجه المساعدات متنوعة، ومن اهمها سوء فعالية الاداء الحكومي، وبعد ان اجهض موسم الاصطياف بسبب مخاوف الزوار من التشنجات التي ترافق عملية الانتخابات، اخذ سعر الدولار يقفز بصورة مخيفة، وتحولت الحكومة الجديدة في تصريحات اعضائها الى منهجية الحكومة السابقة، ملقية اللوم على المعارضة ومعتبرة ان هنالك "مؤامرة" للايقاع بالليرة ومن خلالها بالحكومة. وخلال شهر آب اغسطس، ومع اقتراب موعد المرحلة الاولى للانتخابات، تجاوزت سرعة هبوط سعر الليرة التوقعات العقلانية. والتفسير المنطقي الوحيد تمثل في ذعر عام من حمل الليرة، فصغار الموظفين والعمال اصبحوا عاجزين عن تغطية حاجات عائلاتهم، والاتحاد العمالي دعا الى اضراب عام بتاريخ 29 تموز يوليو ونجح الاضراب بنسبة الاقفال التي تحققت، لكن الاضراب لم ترافقه اية تظاهرات لان الدولة اظهرت علناً وضمناً انها تنوي قمع التظاهرات بالقوة، وكانت النتيجة ان بعض الوزراء اعتبروا ان الاضراب فاشل، بل ان الاستهتار بالموقف العام بلغ حد قول احد الوزراء الفاعلين: "شو صار، كم دكان سكروا!". وفي يوم 12 آب اغسطس اعلن مصرف لبنان ان سعر اقفال السوق يوازي 0427 ل.ل. للدولار، وبيع الدولار بعد ظهر ذلك اليوم بحوالي 3000 ل.ل. وانعقد مجلس الوزراء لاتخاذ خطوات جذرية لمعالجة الوضع، فتقرر الطلب من مصرف لبنان التدخل مجدداً في السوق وتم رفع معدلات الفوائد على سندات الخزينة لتشجيع اللبنانيين على توظيف اموالهم فيها. رد الفعل الاولي على هذه الاجراءات كان تحسن سعر الليرة خلال اليوم الاول، فانخفض سعر الصرف الى 2440 ل.ل. وخلال اليوم الثاني انخفض مئة ليرة لبنانية اضافية. وكانت الحكومة في جلستها يوم 12 آب اغسطس قررت استعمال مئة مليون دولار لتحسين سعر صرف الليرة، وليس هنالك من شك بأن قرارات الحكومة اتخذت في جو محموم ومع تقبل مخاطرة ارتداد السحر على الساحر، وبالتالي فإن موقف الحكومة كان نابعاً عن توجه سياسي اكثر مما كان نابعاً عن توجه اقتصادي، والشرح التالي يبين ذلك بوضوح. تحذيرات صندوق النقد يوم اقرار اجراءات التدخل كان احتياطي مصرف لبنان بين 580 و590 مليون دولار، لا اكثر، بينما حذر صندوق النقد الدولي لبنان تكراراً من انخفاض احتياطيه دون مستوى 500 مليون دولار، وفي حال اضطرار الحكومة الى استعمال كامل مبلغ 100 مليون دولار من الاحتياطي لدعم سعر صرف الليرة فسينخفض المستوى عن الحد المطلوب ويدخل لبنان مرحلة تأزم نقدي يمكن ان ينتج عنها محاذير بالغة الاهمية لا مجال لذكرها، بل ان من الضروري عدم بحثها حالياً. وفي الاطار نفسه فإن اجراءات رفع معدلات الفوائد على سندات الخزينة ستعطي مفعولاً عكسياً، لأكثر من سبب، فمن الاسباب الرئيسية لضعف سعر الليرة تراكم الدين العام وتعاظم فوائده، اذ كل يوم يتوجب على الحكومة، وسطياً، تسديد 2.5 مليار ل.ل. فوائد عن الدين المتراكم وملياري ل ل. من اصل الدين، وهي تقترض في الوقت ذاته المبالغ الضرورية لتغطية العجز. ورفع معدلات الفوائد يرفع الاعباء المستحقة عن الدين العام، خصوصاً ان المعدلات رفعت بنسبة 10 في المئة لسندات الخزينة لفترة 3 و6 اشهر وبالتالي فان الضغط التضخمي سيتزايد بقوة نتيجة هذه الاجراءات، وتبين هذه النتيجة الواضحة مدى انغماس الحكومة في اتخاذ اجراءات موقتة قد تخدم لأيام او لأسابيع هدف تحسين سعر الليرة، لكن السعر سينهار لاحقاً ممهداً لانهيار اكبر. كذلك فان خطوات الحكومة مهددة بالفشل لأن اللبنانيين لن يقبلوا على سندات الخزينة لأكثر من سبب، فمن جهة اولى تجاوز معدل التضخم عتبة 70 في المئة مع انقضاء الشهر السابع من هذه الفئة، ومن المرجح ان يتجاوز المعدل 120 في المئة على مدى عام 1992 ، فماذا يكون النفع من التوظيف في عملة مقابل فوائد بنسبة 35 في المئة سنوياً طالماً ان التضخم يوازي 3 او 4 اضعاف هذا المعدل. ولا يخفى ان اللبنانيين الذين وظفوا اموالاً في سندات الخزينة العام المنصرم خسروا بالنقد الاجنبي نسبة 65 في المئة من توظيفهم، فكيف لهم ان يقبلوا على التوظيف من جديد، خصوصاً ان اجراءات الحكومة موقتة في منطلقاتها ولا تستند الى اهداف تخدم تحريك الاقتصاد والانتاج. في أواخر حزيران يونيو الماضي اقدمت الحكومة الحالية على زيادة الدولار الجمركي على غالبية المستوردات الخاضعة للرسم الجمركي، من 200 ل.ل. للدولار الى 800 ل.ل. كما فرضت رسماً اضافياً على صفيحة البنزين يساوي 1000 ل.ل. وقد افترضت الحكومة ان القرارات ستقوي الليرة، لكن الذي حصل هو العكس تماماً، لأن عمليات ضبط الرسوم الجمركية والتحقق من التهريب عبر الحدود عاجزة وينخرها الفساد، وعللت الحكومة قراراتها تلك بأنها تتماشى مع تقرير لجنة الخبراء الاقتصاديين، لكن الحكومة تناست وما زالت، ان تقرير لجنة الخبراء الاقتصاديين وضع شرطين رئيسيين: اولهما تشذيب الادارة الحكومية وتفعيلها واختصار اعداد الموظفين بنسبة 20 في المئة على الاقل، وثانيهما، اقرار الاجراءات الموصى بها جميعاً، والحكومة لم تتقيد بأي من الشرطين. ان الاجراءات الاخيرة التي اتخذتها الحكومة اللبنانية هي مغامرة مكشوفة لربح ايام من جو انتصار وهمي مقابل ارتفاع سعر الدولار، ودليل آخر على ان الحكم لا يزال بعيداً عن معالجة القضايا الجذرية المتمثلة بتحريك الاقتصاد وتحقيق النمو وتوسيع فرص العمل بدلاً من التلهي بهدر الاحتياطي لتحقيق انتصار سياسي وهمي لن تتجاوز مدته 100 ساعة، فنكون كلبنانيين دفعنا ثمناً باهظاً لسياسة خاطئة يوازي مليون دولار لكل ساعة. * خبير اقتصادي لبناني.