في خلال أقل من اربعة أشهر خسر مصرف لبنان ما يزيد على 335 مليون دولار، من احتياط العملات الذي يملكه، والذي تراجع حتى أواسط آذار مارس الماضي الى 664،3 مليار دولار، بعدما كان وصل في مطلع كانون الاول ديسمبر الماضي الى ما يزيد على 4 مليارات. ويفسر هذا التراجع بأنه نتيجة مباشرة لعودة المصرف المركزي الى التدخل في سوق القطع لحماية سعر صرف الليرة من الاهتزاز، ومواجهة زيادة الطلب على الدولار، وهي مسألة بدأت تظهر بوضوح منذ اواخر العام الماضي، عندما أعلن رئيس الحكومة رفيق الحريري الاستقالة وعاد عنها بعد 5 أيام، وقالت معلومات مصرفية يومها ان "قصة الاستقالة" كلفت المصرف المركزي في خلال يومي عمل فقط حوالي 400 مليون دولار، اضطر الى ضخها في السوق لمواجهة الطلب على الدولار، واندفاع المتعاملين الى التحول عن الليرة. ويقدر مصرفيون حجم تدخل البنك المركزي في سوق القطع حالياً بين 2 و3 ملايين دولار يومياً لتغطية الفارق بين العرض والطلب، ومنع حصول تقلبات حادة لابقاء الاسعار على ما هي عليه منذ سنتين لمصلحة الليرة. وكان التفسير المالي والتقني للتحول عن الليرة باتجاه الدولار وعملات اخرى هو بتراجع الفوائد على العملة اللبنانية. ويقول رئيس مجلس ادارة مصرف "الاعتماد اللبناني" الدكتور جوزف طربيه، ان تراجع الطلب مسألة تقنية سببها المباشر تراجع مستويات الفوائد في السوق المحلية وهو ما يمكن معالجته عن طريق اعادة النظر بمعدلات الفوائد المعمول بها على سندات الخزينة التي اجتذبت في خلال السنتين الماضيتين استثمارات خارجية، خصوصاً من دول الخليج العربي، بما يمكن ان يزيد على 3 مليارات، عمد أصحابها الى توظيفها في سوق بيروت للافادة من تحسن صرف العملة اللبنانية من جهة، وارتفاع الفوائد عليها من جهة ثانية. إلاّ أن مصرفيين آخرين يقولون ان موضوع الفوائد ليس المشكلة الوحيدة التي تواجهها سوق القطع في بيروت ويقول مصرفي ان ثمة طلباً تجارياً على لدولار، الاّ أن هناك تحولاً ولو محدوداً عن الليرة ايضاً، معتبراً أن مثل هذا التحول سببه المباشر شعور المدخرين بالحاجة الى حماية ودائعهم بصورة أفضل في خلال الاشهر المقبلة لاقفال الباب على احتمالات سياسية معينة، تتصل بانتخابات رئيس جديد للجمهورية، اضافة الى الاعتبارات المتعلقة بتعثر مفاوضات السلام في المنطقة، واحتمالات انعكاس ذلك بصورة سلبية على لبنان. وكانت وزارة المال ومصرف لبنان عمدا في الاسابيع الماضية الى زيادة معدلات الفوائد على سندات الخزينة بمعدل نقطتين تقريباً، الى مستوى 15 في المئة تقريباً لفئة 3 أشهر، في مقابل 6،12 في المئة قبل 3 أشهر، الاّ أن ذلك، كما يقول المصرفي نفسه، لم يؤد الى تغيير جذري في اتجاه السوق، ما يثبت ان ثمة اعتبارات اخرى بدأت تدخل على الخط. وكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبلغ جمعية المصارف اخيراً عزمه على الاستمرار في سياسة التدخل لحماية الليرة، إلاّ أن مصرفيين كثيرين يقولون ان هذه السياسة قد لا تكون كافية وفعالة الى أجل غير مسمى نظراً الى المخاطر الواسعة التي يمكن ان تحملها، وفي طليعتها خطر استنزاف الاحتياط الذي يملكه المصرف المركزي، اذا ما استمر التدخل على وتيرته القائمة حالياً وفي ظل اعتبارات سياسية غير ملائمة، على غرار ما حصل في مراحل سابقة، عندما لجأت السلطات النقدية الى استخدام الاحتياط المتوافر لديها لدعم الليرة، من دون غطاء سياسي مشجع، ما أدى الى استنفاد هذا الاحتياط الذي وصل في أواخر العام 1992 وقبل مجيء حكومة الرئيس الحريري الى حوالي 500 مليون دولار، وهو رقم بالكاد كان يغطي المشتريات الحكومية من المواد الاساسية، مثل القمح والطحين، ونفقات البعثات اللبنانية في الخارج. وتجمع تقديرات مالية ومصرفية على أن الاكتفاء باستخدام سلاحي الفوائد والتدخل في سوق القطع قد لا يكون كافياً لضبط الوضع، ما لم تنجح الحكومة التي باشرت مرحلة جديدة من خطة اعادة الاعمار في اجتذاب استثمارات جديدة من الخارج والحصول على قروض ميسرة وطويلة الاجل لتغطية كلفة مشاريع تأهيل البنى التحتية، واطلاق خطة النهوض الاقتصادي. وحسب هذه التقديرات، فإن لبنان الذي نجح في اجتذاب رساميل من الخارج، بما يصل الى حوالي 5 مليارات دولار، من لبنانيين واجانب، عجز عن توظيف هذه الرساميل في مشاريع ذات طابع انتاجي طويل الامد، اذ تركزت غالبيتها في قطاعي العقارات وسندات الخزينة ما أدى الى حصول نوع من التوظيف في قطاعات انتاجية يستفيد منها أكبر عدد ممكن من الناس. الاّ أن من المخاطر التي يمثلها هذا النوع من الاستثمارات هو انها استثمارات سريعة هدفها تحقيق أكبر ربح ممكن، بأقل قدر من المجازفة، باعتبار ان القوانين المعمول بها حالياً تسمح لحاملي سندات الخزينة بتسييلها والتحول عن الليرة الى عملات أخرى ما يمكن أن يشكل عنصر ضغط على سوق القطع من الصعب مواجهته بسهولة. هل ينجح مصرف لبنان في التغلب على الضغوط التي يواجهها؟ كبار المسؤولين في المصرف المركزي الذين يحظون باحترام الاوساط المالية والمصرفية، يبدون تفاؤلاً على رغم اعترافهم بصعوبة المرحلة، وارتفاع حدة الاعباء التي يتوجب على المصرف المركزي مواجهتها، وضرورة التعاون مع المصارف لتقليص حدة المخاطر التي يمكن أن تنشأ وتلبية احتياجات خطط اعادة الاعمار والتأهيل.