في الستينات، وخلال زيارة قام بها شاه ايرانلالمانيا، قتل الماني برصاص الشرطة اثناء تفريق تظاهرة ضد زيارة الحليف القوي من دون ان تتصدع او تتعثر مسيرة "العلاقات التاريخية" بين الايرانيين المتحمسين آنذاك للنهج الغربي، والدولة الغربية التي تحافظ على مصالحها الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية. وفي الثمانينات والتسعينات اضطرت المانيا ذاتها للاذعان لتغييب "موقت" لبعض رعاياها الذين اتهمتهم الجمهورية الاسلامية بالتجسس أو الاحتيال. ومن جديد صمدت العلاقات الايرانية - الالمانية. من الناحية النفسية يضطر الايرانيون، كلما استدعت الضرورة، للقبول بجراحات تجميلية في سياساتهم، وتبلور هذا الموقف خصوصاً اثر وفاة الامام الخميني بعد عشر سنوات صاخبة من عمر الثورة. والواقع ان اضطرار الايرانيين لم ترافقه تضحيات المانية، ذلك ان بون وضعت نفسها منذ بدء التغييرات السياسية الجذرية في ايران موضع الحليف الغربي الوسيط بين طهران وبقية الحلفاء في الاتحاد الاوروبي، وربما لتظل الوسيط ايضاً مع الولاياتالمتحدة. ومن الناحية الواقعية لا يمكن قياس حجم المصالح الالمانية في ايران بحجم مصالح الولاياتالمتحدة مثلاً، التي شهدت تقلصاً كبيراً كاد يؤدي الى نقطة التجمد في بعض مراحل التوتر بين البلدين. وقد تمكنت بون، بسرعة، من التغلب على افرازات الواقع الجديد السلبية بالنسبة اليها، والتكيف مع هذا الواقع حسب مقتضيات المصلحة وحدها، فالدوائر الالمانية تؤكد اهمية استمرار "العلاقات التاريخية" مع الايرانيين، وهذه الرؤية لا تتعارض، في طبيعة الأمر، مع إكثار الدوائر الاعلامية والسياسية لحكومة بون من ترداد تصريحات بتراجع حاد في حجم التعاون الاقتصادي، والاستثمارات والمشاريع التي يقيمها الكارتل الالماني في ايران. فالثابت هو وجود ضغوط من نوع جديد على المانيا وتكتيك متغيّر في ما يتعلق بطبيعة التعامل مع الايرانيين المتهمين بعرقلة عملية السلام في الشرق الأوسط، ودعم منظمات توصف نشاطاتها بالتطرف والارهاب. وساطة شرق اوسطية قبل أيام التقت "الوسط" في مقر المستشار هيلموت كول، مسؤول الأمن القومي الالماني وسألته عن حقيقة العلاقات الحالية بين المانياوايران، فكانت اجاباته مزيجاً من الواقع والرغبة المتأرجحين في ميزان مصالح الدولة. وكان المستشار كول اثناءها يستعد لزيارة اسرائيل التي لا تخفي قلقها من استمرار النظام الايراني على توجهاته، الأمر الذي يشكل حجر عثرة امام مسيرة السلام. وكان المفروض ان تلعب السياسة الالمانية دوراً توفيقياً في تهدئة التوتر، ومن ثم اقناع الايرانيين بعدم التدخل، اذا لم يرغبوا في لعب "دور ايجابي". وتحركت الديبلوماسية الالمانية في البدء للتعرف على "النيات الحقيقية" لدى الجانب الايراني، وتبع ذلك تبادل للزيارات بين مسؤولين المان وايرانيين، بعضها علنية والكثير منها احيط بالكتمان. وأكد مستشار كول للأمن القومي ان التبادل التجاري بين طهران وبون لم يعد بالوتيرة ذاتها التي ميّزته خلال السنوات الماضية. وان اتحاد ارباب العمل نشر احصاءات عن تراجع نشاطاته في ايران، مع انه يحاول، بين الحين والآخر، "تعديل موقف الحكومة" ليصبح اكثر مواءمة مع المصالح الاستراتيجية لالمانيا. ويعني هذا "السير فوق طبقات البيض الهش" ان هناك دوراً مزدوجاً تلعبه المانيا لتحقيق هدفين معاً: مصالحها في ايران من جهة، وعدم اغضاب بعض حلفائها الغربيين في جهة أخرى. وحول النقطة الأخيرة يمكن الاستناد الى "التفاهم" وربما التنسيق بين موقفي الادارة الاميركية والمانيا، والذي ظهر من خلال قبول واشنطن الرؤية الالمانية في عدم جدوى غلق الابواب كلياً مع ايران، والسعي بدلاً من هذا الى بديلٍ افضل يتمثل في العمل على تحقيق الاهداف الغربية في ايران عن طريق الحوار والتراضي، خصوصاً ان الايرانيين لم يغلقوا الابواب في وجه المساعي الالمانية التي تصب في هذا الاطار. وحاولت المانيا، فعلاً، لعب دور الوسيط "غير المباشر" بين الحكومة الايرانية وتل ابيب لتبريد الوضع في جنوبلبنان. وحتى مع عدم الاعلان عن بنود اتفاق حول نقاط البحث، فان المسعى الالماني لا يزال مستمراً وفق اسلوب "عدم جواز عزل ايران في هذه الظروف". اتفاقات سرية ومن هنا ينطلق الموقف الذي تبنته بون اخيراً ازاء منظمة مجاهدي خلق الايراني المعارضة، فهذه المنظمة كانت تستند الى رؤية واشنطن المعلنة في مقاطعة ايران وعزلها، عندما حاولت توسيع نشاطاتها في المانيا، متغاضية، كما يبدو، عن حقيقة الاتفاقات السرية المعقودة وراء الكواليس، والتي أدت الى ارغام المنظمة على التخلي عن فكرة تنظيم مهرجان كبير في مدينة دورتموند تحضره مريم رجوي "رئيسة ايران المستقبل". وبالفعل تم تنظيم المهرجان باستبعاد رجوي التي اكتفت بمخاطبة المجتمعين، من مقرها في العاصمة الفرنسية، بواسطة الاقمار الصناعية. وقد ادى الشد بين السلطات الأمنية الالمانية ومسؤولي مجاهدي خلق الى اخفاء الكثير من البريق المؤمل للمهرجان، الأمر الذي حدا بمجاهدي خلق الى اصدار بيانات في بون تندد بالموقف الالماني، وتتهم متبنيه ب "الرضوخ للابتزاز والتهديدات الايرانية". بينما كان تصرّف المانيا في حقيقته محسوباً على أساس "الموقف المتفق عليه خلف الكواليس"، والذي أدى على ما يظن الى توجيه الرئيس الايراني دعوة ذات مغزى الى الولاياتالمتحدة كي "يعمل البلدان معاً على تخفيف حدّة التوتر". ومعنى هذا ان الغرب ينظر الى منظمة مجاهدي خلق، ودورها المعارض او المواجه في ايران، على أساس الاحتمالات ولعب الأوراق، وليس التنسيق او الموقف الاستراتيجي البعيد المدى. واذا استطاعت الحكومة الالمانية المضي حتى النهاية في التفاهم المأمول مع طهران فانها تكون ضربت عصفورين بحجر واحد: مصالحها والرغبات الغربية.