وفق المقاييس التي اعتمدها البنك الدولي حول الاوضاع الاقتصادية في العالم، فإن المشكلة عند الدول الاكثر مديونية لم تعد في ارتفاع حجم الديون المترتبة عليها، بقدر ما اصبحت في نمو كلفة هذه الديون بالمقارنة مع نمو المؤشرات الاقتصادية الاخرى، مثل حركة الصادرات ونمو الناتج المحلي الاجمالي وحركة تدفق الاستثمارات. وطبقاً للتقديرات التي وضعها البنك الدولي اخيراً، فإن نمو الصادرات في الدول النامية، ومن ضمنها الدول الاكثر مديونية، لن يزيد، وفق افضل التوقعات، عن 6 في المئة سنوياً، في حين ان ارتفاع كلفة خدمة الديون قد يصل الى 10 في المئة، ما يعني ان التحسن الذي ستحققه الدول النامية، على صعيد التصدير لن يكون كافياً لتغطية الزيادة في ارقام الديون المستحقة. ومن المعروف ان زيادة الصادرات تشكل الهدف الرئيسي لمعظم البرامج التي تطبقها الدول ذات المديونية الكبيرة، كما ان رفع وتيرة النمو الاقتصادي هو الغرض الاساسي لجميع الدول التي تعاني من قصور على صعيد تحديث انتاجيتها. لكن البنك الدولي يحذر من ان تجد الدول الاكثر مديونية نفسها محرومة من الافادة من "ثمار" برامج الاصلاح التي تطبقها بسبب ارتفاع اكلاف الديون الى الحد الذي تستطيع معه هذه الاكلاف "ابتلاع" اية نتائج محققة على مستويات اخرى. ومع ان قضية الديون هي قضية عالمية، بمعنى انها باتت تصيب عدداً اكبر من الدول في جميع القارات، الاّ أن منطقتي الشرق الاوسط وشمال افريقيا لا تزالان بين المناطق الاكثر تعرضاً لمخاطر ارتفاع كلفة الالتزامات المتوجبة عليها، خصوصاً اذا ما اخذت في الاعتبار الاوضاع التي تعاني منها دول عدة، بينها ايران ومصر والجزائر واليمن، وبصورة اكثر حدة دول اخرى، مثل السودان والصومال، وهي دول تتميز بارتفاع ارقام ديونها في مقابل تدني مستوى تدفق الاستثمار وتحسن وتيرة التصدير. وطبقاً لتقديرات البنك فإن السودان الذي يصل اجمالي ديونه الى 560،16 مليار دولار، يتصدر لائحة الدول العربية الاكثر مديونية والتي تقترب بصورة اكثر حسية من حافة الافلاس، اذ بات حجم الديون قصيرة الاجل 148،6 مليار دولار، كما ان هذه الديون باتت تزيد عن حجم الناتج المحلي الاجمالي بنسبة 273 في المئة، في حين انها تزيد بصورة خيالية عن حجم الصادرات. كذلك فإن دولاً اخرى مثل الجزائر، وعلى رغم من التسهيلات التي حصلت عليها في السنتين الاخيرتين واعادة جدولة قسم مهم من ديونها الخارجية، ما زالت تواجه مخاطر ارتفاع خدمة الديون في مقابل نسبة تحسن الصادرات، اذ تصل نسبة اجمالي الديون الى حجم الصادرات الى مستوى 6،216 في المئة، فيما تصل بالنسبة الى اجمالي الناتج الاجمالي الى 4،57 في المئة، وبحسب الارقام نفسها، فإن 77 في المئة من قيمة الصادرات تذهب الى تغطية الفوائد المستحقة. ويعاني اليمن من ارتفاع فاتورة المستحقات التي تصل حالياً الى 923،5 مليار دولار، وهو رقم يمثل 3،422 في المئة من اجمالي الصادرات، كما انه يمثل 4،56 من اجمالي الناتج المحلي. وباستثناء خمس دول خليجية هي السعودية والامارات وقطر والبحرين والكويت، فإن غالبية الدول العربية تعاني من مشكلة تفاقم ازمة المديونية ولو بنسب متفاوتة، اذ يصل متوسط الديون الى الصادرات الى 6،152 في المئة، في حين يصل هذا المتوسط بالنسبة الى اجمالي الناتج القومي الى 7،57 في المئة، بينما تستهلك الفوائد واجبة السداد ما نسبته 8،15 في المئة من اجمالي الصادرات. وللمرة الاولى في تاريخه، يعاني البنك الدولي من مشكلة العجز عن استعادة قروضه التي تصل حالياً الى 5،32 مليار دولار، أي ما نسبته 20 في المئة من اجمالي الديون المستحقة، اذ يزيد عدد الدول التي تتوقف عن السداد، كما يزيد عدد الدول التي تلجأ الى اعادة الجدولة لآجال طويلة، سواء في اطار ناديي باريس ولندن، او عن طريق اتفاقات ثنائية. وللمرة الأولى يعترف البنك الدولي بوجود مأزق، فمن جهة تبدو الوسائل المتوافرة له لتحصيل ديونه محدودة جداً وغير فاعلة، ومن جهة ثانية ترتفع حدة الضغوط من الدول الممولة للبنك لدفعه الى استعادة امواله. وكان خبراء ماليون دوليون اعترفوا بقصور برامج الاصلاح الاقتصادي التي يحرص صندوق النقد والبنك الدوليين على تطبيقها كشرط اساسي لاعادة جدولة الديون المستحقة، والسماح بضخ اموال جديدة الى الدول التي تعاني من تدني وتيرة الاستثمار فيها. والمفارقة التي يتحدث خبراء البنك الدولي عنها هي ان غالبية الدول المدينة تواجهها مشكلة تتمثل في ان التشدد في تطبيق برامج الاصلاح الاقتصادي سيؤدي الى آثار جانبية خطيرة، مثل ارتفاع اكلاف المعيشة، والاضطرابات الاجتماعية، وعجز برامج الرعاية لذوي الدخل المحدد لتعويضهم عن زيادة الاجور، وتدني القيمة الشرائية لرواتبهم. والخلاصة التي ينتهي اليه خبراء البنك هي ان ارتفاع وتيرة الازمة الاجتماعية في بلد يواجه مشكلة اصلاح اقتصادي مسألة لن تخدم استقرار البلد المدين ولا مصلحة الأطراف الدائنة.