معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    أمانة القصيم توقع عقداً بأكثر من 11 مليون ريال لمشروع تأهيل مجاري الأودية    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    القادسية يتفوق على الخليج    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرجت من الجمود لتشاكس وتبرز السينما الايرانية : يحاربها النظام داخلياً ويفتخر بها خارجياً
نشر في الحياة يوم 26 - 06 - 1995

"ان النجاحات التي أحققها، محلياً وعالمياً تغيظ السلطات، بل أن كلمة تغيظ تأتي هنا ضعيفة. ولكن ما الذي نفعله، نحن معشر السينمائيين الايرانيين، غير تصوير ثراء وجمال الثقافة الفارسية، وغير محاولة اسباغ آيات المجد عليها؟ انهم يقولون ان افلامنا تخجل ايران. فيغم يمكن لأفلام مثل "أين منزل صديقي؟" أو "سائق الدراجة" أو "عبر اشجار الزيتون" ان تشكل مهانة للشعب الايراني؟ لقد حدث لنا اكثر من ألف مرة ان رفعنا لواء الثقافة الايرانية في المهرجانات الاجنبية، وفي المقابل كان ولا يزال علينا ان نتحمل داخل بلادنا ألف اهانة وإهانة. انهم لا يريدون أن يفهموا ولا يستطيعون ان يفهموا ان نجاح الواحد منا في الوصول الى جمهوره يشكل، عندنا، عائقاً في طريقه".
السينمائي الايراني الذي يطلق، الآن، هذه الصرخة اسمه محسن مخملباف، وقد نشأ على النضال السياسي الى جانب "الاسلاميين"، وذاق لوعة سجون الشاه خلال السنوات السابقة مباشرة على الثورة الايرانية، لم يعتبر أبداً من المعارضين للحكم الحالي في ايران منذ اكثر من عقد ونصف العقد من السنين، بل ان الكثيرين من زملائه كانوا يأخذون عليه وقوفه الى جانب النظام بشكل مبالغ فيه، وتقديمه للسلطة الخمينية كل الدعم الذي يمكن لسينمائي له مكانته او سمعته ان يقدمه لها. ومع هذا ها هو محسن مخملباف، اليوم، يطلق الصرخة ويدق ناقوس الخطر في الوقت، الذي يبدأ العالم الخارجي بالتعرف عليه وباكتشاف المزيد من أفلامه، وعبره كما في السابق عبر نصف دزينة من مبدعين ايرانيين آخرين، غنى وقوة سينما عرفت كيف تجعل من نفسها واحداً من آخر حصون التصدي لمحاولات محو الثقافة الايرانية واضفاء البعد الآحادي على شخصية الفرد الايراني.
حيرة السلطات
فالحال ان السينما الايرانية، دون ان يفوتها في ذلك، ان تحيّر السلطات طويلاً، عرفت، خلال سنوات الثورة الايرانية، كيف تتخطى كافة العقبات التي كانت العناصر الاكثر تطرفاً في ايران تضعها في طريقها. فتلك العناصر كان - ولا يزال - دأبها ألا تحارب هذه السينما أو تلك، هذا الفيلم أو ذاك، وانما فن السينما ككل. غير ان توازنات معينة للقوى ووجود العديد من السينمائيين بين طلائع المثقفين الذين وقفوا وناضلوا الى جانب "الثورة الاسلامية"، جعل العناصر المناوئة للسينما غير قادرة الا على اسماع صوتها، من دون ان يفوتها بين الحين والآخر ان تحرض الرقابة على فيلم معين أو مشهد في فيلم. وضمن اطار مثل هذا التحرك والصراعات التي سادت من حوله عرف السينمائيون الايرانيون كيف يواصلون، بل يطورون، مسار العمل السينمائي الايراني الذي كان مزدهراً - كمياً على الأقل - قبل "الثورة وعلى الرغم من ان بعض اكثر سينمائيي ما - قبل - الثورة طليعية صمتوا أو هاجروا، فإن جيلاً جديداً نما الى جانب الاسماء الكبيرة الرائدة، ليفرض حضوراً للسينما الايرانية، في الساحة العالمية على الأقل، أخذ يتنامى عاماً بعد عام، بحيث وصل سينمائيون من أمثال بارتير كيميائي، وداريوس مهرجيو، ثم خاصة عباس كياروستامي، الى تحقيق ما يطلق عليه النقد العالمي الآن اسم "معجزة السينما الايرانية".
والسينمائيون الايرانيون الاكثر ابداعاً، لم يجدوا الطريق امامهم معبدة بالطبع، لكنهم في الوقت نفسه لم يضطروا الى خوض معارك عنيفة، وذلك لأنهم وجدوا منذ البداية ان عليهم ان هم ارادوا تحقيق افلامهم، أن يراعوا الخطوط الحمراء وأهمها: لا نساء سافرات في الافلام، لا حكايات حب، لا مسّ بالمقدسات ولا بأس بالحياة العائلية ولا بالسلطة السياسية. ولئن بدا للوهلة الأولى ان هذه المحظورات ستشكل عائقاً في وجه قيام سينما حقيقية في ايران، فإن عناد السينمائيين ومهارتهم وارتباطهم حقاً بمجتمعاتهم، حوّل العقبات الى وسائل ساعدت السينما الايرانية الجديدة على أن تكون اكثر ابداعاً. ولئن حضرت المرأة في الفيلم محجبة، فان ذلك سوف لن ينتقص من حضورها، بل ولربما سيجعلها اكثر اثارة وأنثوية كما هو حال المرأة/ الام في فيلم "باشو... الغريب الصغير"، ولئن عجز السينمائيون عن رواية قصص تتعلق بالكبار البالغين وتمس المحرمات المضادة والمضخمة في ايران العصر الخميني، فانهم سوف يجعلون من الاطفال حاملي ألوية افكارهم يلقون عبرهم نظرتهم البريئة المرة على العالم، على عالم الكبار، عالم الفساد، عالم النفاق. وعلى هذا النحو، عن طريق نساء محجبات وأطفال أبرياء ولدت في ايران سينما هي، ومنذ عشرة أعوام على الأقل، من اجمل وأقوى ما يصنع في أي بلد من بلدان العالم الثالث.
البراءة وما بعدها
اليوم صار سينمائي مثل عباس كياروستامي وجهاً كبيراً من وجوه السينما في العالم، تتزاحم المهرجانات للحصول على أفلامه، وتتنافس صالات الفن والتجربة والتلفزات لعرضها، ويتم اختياره هو نفسه ليكون عضواً في لجان تحكيم. واليوم صار فيلم مثل، باشو... الغريب الصغير" لبهرام بياضي واحداً من الكلاسيكيات، كما ان فيلماً من توقيع محسن مخملباف مثل "سائق الدراجة" أو "الممثل" أو "ناصر الدين شاه... ممثل سينما"، يجد مكانه الطبيعي في برمجة أي محطة تلفزية تحترم نفسها.
وصار اكتشاف وجه جديد في السينما الايرانية مأثرة تتغنى بها المهرجانات، كما هو حال مهرجان "كان" الاخير الذي قدم، في تظاهرات ثانوية ثلاثة افلام ايرانية تزاحم النقاد وأهل السينما والمتفرجون العاديون لحضورها، منها فيلمان لمخملباف، وفيلم أول لمخرج شاب جديد هو جعفر باناهي، كان مساعداً لعباس كياروستامي وباتت سمعته، بفضل فيلمه الأول هذا تضاهي سمعة استاذه الذي كتب له بنفسه سيناريو فيلمه "البالون الأبيض" الذي فاز بجائزة الكاميرا الذهبية احدى أهم جوائز مهرجان "كان" بسبب قيمتها المالية المرتفعة.
باناهي يأتي اليوم لينضم الى قائمة السينمائيين الايرانيين المعروفين والمحترمين في الخارج، والمحاربين بقوة - وإن كان من قبل الجناح الاكثر تطرفاً في السلطة... دون غيره - في الداخل. فالحال انه اذا كان يمكن ان تقول عن "البالون الابيض" انه فيلم يتماشى مع المحظورات الرسمية ويحاول الا يتخطى الخطوط الحمراء، فإن قراءة ثانية له ستضعنا، مباشرة امام ذلك البعد المشاكس الذي يميز - ويشكل جوهر - هذه السينما الايرانية الجديدة.
صحيح ان النساء في "البالون الابيض" محجبات، وأن النظرة الملقاة على العالم الخارجي هي نظرة بريئة لطفلة في السابعة من عمرها - محجبة هي الأخرى -، ولكن صحيح أيضاً ان الفيلم ليس على تلك البراءة التي تلوح منه للوهلة الأولى. فإذا كان باناهي يخبرنا انه منذ وعي فن السينما طفلاً، اكتشف أن لديه، هو دون أخوته البنات، امتياز مشاهدة الأفلام في الصالات، لذلك كان يلذ له ان يحصل من شقيقاته على القروش اللازمة لكي يشاهد فيلماً مقابل أن يعود ديرويه لهن بعد ذلك، جالساً كالحكواتي - السيد فوق كرسي مرتفع شاعراً بتفوقه عليهن. ترى هل يختلف جعفر باناهي السينمائي اليوم، عن الطفل الذي كانه؟ انه، في الحقيقة يروي لنا فيلمه بالطريقة نفسها، وكأنه يرويه لشقيقاته المندهشات من حوله، محاولاً في طريقه ان يغيظهن عبر جعله بطلته الطفل ترتكب خلال الساعات القلائل التي تفصل طهران عن حلول عيد رأس السنة، جملة من المحظورات الصغيرة التي تساعدها على اكتشاف جانب من العالم، عالم الكبار، لم تكن تعرفه من قبل.
في الحقيقة ان الساعات التي تتجول فيها الفتاة الصغيرة ساعية في "البالون الأبيض" لشراء السمكة الحمراء، بالورقة النقدية التي اعطتها لها أمها، وساعات القلق التي تمضيها بعد ان تفقد القطعة النقدية، هي ساعات تشبه زمن عرض الفيلم: توتر وخوف وقلق ثم انفتاح غير ارادي على العالم، كل هذا وسط حضور كلي للأب الطاغية الذي لا نراه الا من خلال صوته الآمر، ومن خلال رهبة الآخرين منه.
ترى هل كان بإمكان جعفر باناهي أن يصل، في المشاكسة، الى أبعد من هذا؟
هل كان بامكانه أن يمعن اكثر في تعميق نظرته الى استحالة التواصل من خلال رغبة الجندي الحارقة، وهو الغريب بعيداً عن قريته في طهران القاسية، رغبته في ان يتحدث الى الطفلة على رغم صدودها عنه والى مصير جزء من المستبعدين في عزلتهم القاتلة الجندي، طبعاً، ولكن، خصوصاً، الفن الافغاني بائع البالونات الذي يتركه الفيلم وحيداً خائفاً ضائعاً في لقطة النهاية بعد أن يساعد الطفلة وأخيها على العثور على القطعة النقدية؟
اذا كان انغلز قال ذات مرة ان صرامة الرقابة يمكنها، بعد كل شيء، ان تكون ذات أثر جيد على الابداع الفني لأنها تخرجه من التبسيطية لتدخله في البساطة الخادعة، فإن مثل هذا القول ينطبق بشكل جيد على سينما ايرانية تحاول، على شاكلة ما فعل، جعفر باناهي في "البالون الأبيض"، أن تجعل من نفسها فعل مقاومة أخيرة؟ ضد الانهيار العام. والحال أننا مع "البالون الأبيض" لسنا بعيدين جداً عن سينما الفنان الايراني الكبير عباس كياروستامي، الذي كان لفت الانظار حقاً، منذ سنوات، بفيلمه "لقطة مكبرة" الذي كان واحدة من أولى الاشارات الى وجود سينما جديدة تصنع في ايران تحت ظل السلطة القائمة منذ اندلاع الثورة الخمينية. قبل ذلك، أي قبل كياروستامي كانت السينما الايرانية تعني للخاصة من اهل السينما في الخارج، نوعين، نوع تجاري بحت يحفل بشتى أنواع الميلودرامات وأفلام المغامرات يصنع للاستهلاك المحلي وللعرض في بعض المناطق الآسيوية، ونوع نخبوي يتمثل في انتاجات مبدعين من طراز مهرجيو وكيميائي بين آخرين. ولكن منذ فورة كياروستامي، وبعد أن اعتقد الكثيرون ان السينما، الايرانية ماتت الى غير رجعة، عادت السينما الايرانية تحتل مكانتها... وأكثر.
وفي هذا الاطار يعتبر كياروستامي الاشهر والاكثر رسوخاً من بين كافة السينمائيين الجدد، وهو الآن بسنواته الاثنتين والخمسين يعتبر رائداً ولا سيما بالثلاثية التي ادهشت العالم كله ونالت العديد من الجوائز. والسلطة الايرانية نفسها تعتبر كياروستامي، اليوم، مجداً وطنياً لا يشق له غبار، ولا تفتأ المنشورات الرسمية تتغنى بمشاركته في 78 مهرجاناً حتى اليوم، ونيله فيها عشر جوائز رئيسية. وفي هذا المجال يتصدّر كياروستامي لائحة تضم ما لا يقل عن دزينة من مخرجين اثبتوا حضورهم في الخارج، من دون ان يعني هذا أن السلطات سمحت بعرض كل أفلامهم في الداخل. فاذا كان محسن مخملباف يعتبر الثاني في اللائحة بحضور أفلامه في 35 مهرجاناً وبحصوله على خمس جوائز يليه درايوتس مهرجيو ثم بن ام بيضائي فابراهيم فاروزيش وابراهيم هاتاميكيا ثم محمد علي طالبي وابراهيم مختاري، فإن واحداً من اجمل أفلام مخملباف وهو "زمن الحب" لا يزال ممنوعاً من العرض في ايران، وهو لئن كان بالامكان عرضه في مهرجان كان الأخير، فإن ذلك يعود الى كونه صوّر في اسطنبول بعد ان عجز مخرجه عن اقناع السلطات - وهو واحد من ابنائها المدللين - بالسماح بتصويره في ايران! ولقد كان "زمن الحب" واحداً من فيلمين لمخملباف اكتشفا في كان أخيراً، أما الثاني فهو الرائع "سلام سينما" الذي، عبر حكاية اختيار مخرج الممثلين يلعبون في فيلم يحققه لمناسبة مئوية السينما، ينظر بتعمق الى حالة ايران ومجتمعها وحب الناس للسينما. عن عمله في هذا الفيلم يقول المخرج اليوم: "انني رغبت عبر اشتغالي على هذا الفيلم، في أن أسبر غور العلاقة العاطفية التي يقيمها الايرانيون مع السينما. فالسينما هي وسيلة لهوهم المفضلة، وهي في الوقت نفسه المرآة الوحيدة التي تعكس حياتهم وأحلامهم".
اعماق الحياة، اعماق الاحلام
ومما لا ريب فيه أن السينما الايرانية الجديدة، مستفيدة من مكانة الفن السابع لدى المواطن الايراني العادي، عرفت كيف تسبر غور تلك الحياة وتلك الأحلام، حتى ولو اختارت ان تنأى بموضوعاتها عن صخب المدن. ففيلم مثل "باتو.. الغريب الصغير" ببساطة موضوعه طفل عربي يضيع خلال الحرب بين ايران والعراق ويفقد أهله فتنقله شاحنة يختبئ فيها الى شمال ايران الهادئ حيث ينضم الى أسرة بائسة وتحتضنه ربة الأسرة كأنه ابن لها، على رغم فوارق اللغة واللون والمزاج والتاريخ هذا الفيلم عرف كيف يكون صرخة انسانية صاخبة وسط زمن كان مليئاً بالحروب والكراهية، ولم يكن من المصادفة ان يجعل المخرج طفلاً عربياً يتوصل في نهاية الأمر الى التواصل مع البيئة الجديدة التي تبنته.
هذه النزعة الانسانية، بل هذه الجرأة في التعبير عن مثل هذه النزعة، تعتبر نقطة تسجل لصالح السينمائيين الايرانيين. وتبدو خطورة مثل هذا الأمر ان نحن ادركنا ان "باتو" حقق في زمن كان فيه عشرات المخرجين الايرانيين، التجاريين أو العاملين لخدمة النظام ايديولوجياً، يحققون أفلاماً عن الحرب الايرانية/ العراقية لا تخلو من نزعات عنصرية واضحة، ولا تقل في عنصريتها عن فيلم عراقي حققه صلاح ابو سيف عن معركة "القادسية" قبل ذلك بسنوات عديدة!
هذا التوغل في البعد الانساني نلاحظه، مثلاً، في فيلم مثل "سائق الدراجة" لمحسن مخملباف، ولو عن طريق اختيار المخرج لشخصية فيلمه الرئيسية: لاجئ افغاني يضطر لكسب عيشه - كما يفعل في الولايات المتحدة ابطال "انهم يقتلون الجياد... أليس كذلك" - يضطر الى الدوران بدراجته في الساحة طوال النهار ليتولى ابنه لملمة القروش القليلة التي تعطى له من قبل مارة لامبالين به. سينما كياروستامي، هي بدورها، سينما النزعة الانسانية، غير ان سينما هذا الفنان لا تقف عند حدود الرسالة الفكرية مهما كان بعدها الانساني، بل تعتبر توغلاً في لغة السينما نفسها، وينطبق هذا الكلام خصوصاً على الثلاثية التي تضم "أين منزل صديقي؟" و"الحياة المستمرة" ثم "تحت اشجار الزيتون"، فهذه الأفلام الثلاثة التي يتولى الاطفال بطولة أوليها وأناس لهم، بدورهم براءة الاطفال لأنهم عاشقون وممثلون في السينما - كما حال حسين - بطولة الفيلم الثالث.
الرائع في حكاية هذه الثلاثية انها ولدت من بعضها البعض من دون أي تخطيط مسبق. فالفيلم الأول "اين منزل صديقي" كان يحكي عن تلميذ فتي يكتشف انه أخذ دفتر رفيقه في الصف، خطأ، فيقرر على رغم تحذير أهله، أن يقصد بيت الرفيق الذي لا يعرف عنه شيئاً لكي يعيد اليه دفتره حتى لا يسقط في الامتحان غداً. والفيلم هو تلك الرحلة التي يقوم بها الفتى خارقاً المحظورات مكتشفاً في رحلته الجبلية عوالم جديدة عليه تماماً كما هو الطفلة في "البالون الأبيض". لقد صور كياروستامي فيلمه في قرية سرعان ما ضربها الزلزال في الحقيقة، تفرض نفسه الجزر الثاني "الحياة مستمرة" حيث لدينا مخرج الفيلم الأول وهو يحاول أن يعرف ما الذي حل بطفلي فيلمه الأول ومنزليهما. اما الجزء الثالث "تحت اشجار الزيتون" فينطلق من تصوير الفيلم الثاني ليرسم حكاية حسين الذي يحب طاهرة، لكن اهلها يرفضون زواجه بها بحجة ان لا بيت له، ثم يحدث الزلزال فيصبحون هم من دون بيت. بعد ذلك خلال تصوير فيلم "الحياة مستمرة" يعمل حسين وطاهرة كممثلين ثانويين في الفيلم، فاذا بالفيلم يزوجهما وَهْماً اذ عجزا عن التلاقي في الحياة الحقيقية. "ذلكم هو سحر السينما ومعجزة الفن" يقول كياروستامي... الفن والحلم بوصفهما واحداً "فما كان يبدو لنا كحلم في الفيلم السابق، صار هنا في الفيلم الثالث حقيقة تقف في وجه الكاميرا، يقول كياروستامي الذي يضيف، ان الحلم والحقيقة بالنسبة الي يقتربان من بعضهما البعض: فالحلم يساعدنا على الافلات من الواقع، والسينما تنبع جذورها من هناك حيث تولد الاحلام. هي تساعدنا على خلق احلامنا وجعل هذه الاحلام ممكنة. فاذا كان الحلم بعيداً جداً عن الحقيقة فانه يفقد جوهره".
الحلم والسينما، ولكن هل يقول "سلام سينما" لمخملباف شيئاً آخر؟
ان السينما الايرانية، سواء اهملت توقيع كياروستامي ومخملباف، مهريو أو كيميائي، هي سينما تستمد عناصرها، في نهاية الأمر، من اعماق تلك الحضارة الاسلامية الآسيوية التي اعتادت أن تنهل من الحلم والماوراء، من دون ان يفوتها جعل الحلم والماوراء صورة إن لم يكن للواقع، فللشكل الذي يتمنى المبدع ان يكون الواقع عليه. وفي هذا الاطار تتساوى أفلام كبار مبدعي السينما الايرانية الجديدة وأفلام المبدعين الأقل أهمية، تتساوى على الأقل في كونها تخرق الواقع من دون ان يبدو عليها انها تفعل ذلك. وفي هذا الاطار اذا نظرنا الى فيلم مثل "زينات" لابراهيم مختاري، الذي عرض في "كان" العام الفائت، سيفاجئنا ذلك الحب المناصر للمرأة فيه، من خلال قصة النار التي تتأجج في فؤاد زينات لرغبتها في المحافظة على عملها بعد زواجها من حامد. فهي لئن كانت خضعت في البداية لمشيئة اهلها وأهل حامد وتخلت عن عملها فإن نار الرغبة في العمل سوف تتأكلها بقية ايامها. وفي فيلم مثل "تيك تاك" سيفاجئنا المخرج محمد علي طالبي، بحكاية صداقة بين طالبين فتيين تتحدى عالم الكبار وشرها. وفي فيلم "الزوجة" لمهدي فخيم زاده، يختبئ وراء المشهد الشهير الذي ترى فيه شيرين الزوجة تواجه الحاسوب الآلي بكل جرأة وقوة، يختبئ موضوع حساس يخرق بدوره المحظورات من دون ان يبدو عليه ذلك، من خلال حكاية زوجة تعمل مع زوجها في مصنع، لكن اكتشافها لشبكة ادارية فاسدة يقودها لأن تتولى ادارة المصنع وتصبح رئيسة على زوجها!
من هنا حتى نقول بأن السينما الايرانية، حتى الأقل جودة، تصل في مشاكستها الى حد الوقوف العلني الى جانب المرأة في مجتمع يحاول الرجال - متذرعين بالدين - أن يصنعوه على مثالهم وشاكلتهم. خطوة لا بد من قطعها، خصوصاً وأن السينما الايرانية بدأت منذ سنوات تعرف ظاهرة جديدة - او متجددة على أي حال - هي ظاهرة غزو النساء لعمل الاخراج.
اذ هناك الآن ما لا يقل عن ثماني مخرجات شابات يعملن في السينما الايرانية ويثبتن فيها حضوراً قد يبدو الآن متفاوتاً، لكنه يسير الى الأمام في كافة الحسابات... ويزيد، بالطبع، من حدة الغيظ الذي يصيب الدوائر المحافظة.
الأشهر والأكثر نشاطاً بين النساء المخرجات راكشان بني - اعتماد، حققت اخيراً، فيلمها الروائي الخاص بعنوان "الخمار الأزرق" عن حكاية انبهار صاحب مزرعة للبندورة بفتاة تعمل عنده. ومن افلام بني اعتماد الشهيرة فيلم "نرجس" 1992 الذي حقق لها شهرة لا بأس بها وجعلها تعتبر مخرجة أفلام "تسوية" غير ان راكشان بني - اعتماد ترفع هذه "التهمة" عن نفسها قائلة "انا لا يمكنني أن أوافق على مثل هذا التصنيف، ولا أعرف ماذا تعني كلمة سينما نسوية ... ان كل شخص منا يطور في ذاته مواقف معينة ازاء الحياة والفن والمجتمع... وهذه تكون، في جميع الاحوال محكومة بتربيته وكينونته الخاصة من دون النظر الى جنسه أو أي أمر آخر".
راكشان بني - اعتماد جاءت الى السينما من التلفزة مثل زميلتها فريال بهزاد التي درست السينما في جامعة بوسطن في الولايات المتحدة وحققت منذ العام 1985 أربعة أفلام طويلة أشهرها "الرجل غير المرئي" 1994 وفريال بهزاد تنعي على السينما الايرانية خلوها من مواضيع تعكس بطولات ومآثر المرأة الايرانية، مستثنية من هذا اللوم فيلم "باتو... الغريب الصغير" الذي تقوم بالدور الأول فيه امرأة تعكس بكل تجل "شخصية المرأة الايرانية المكافحة على رغم كل العقبات الموضوعة في طريقها".
الى جانب بني اعتماد وبهزاد يمكن ايراد اسماء مخرجات مثل مرزية بوروماند ويوران ديراخشانده وزصيلة ايباكشي ومشيرا محاسني وتهمينه ميلاني وياسمين مالك نصر التي حققت هذا العام فيلمها الأول بعد أن درست السينما لمدة خمسة أعوام في الولايات المتحدة اما تهمينه ميلاني، فانها الى جانب بني اعتماد تعتبر الاشهر بين زميلاتها كما انها تعتبر الاكثر فوزاً بالجوائز منذ حصل فيلمها "اطفال الثلاث" على جائزة اساسية في مهرجان طهران السينمائي قبل سنوات، كما حصد فيلمها الاخير "كاكادو" نجاحاً لا بأس به هذا العام.
نساء... اطفال ومشاكسة، هي السمات الثلاث الأساسية التي تطبع اليوم سينما ايرانية لا تعرف الراحة ولا تعرف من أين تطلق عليها السهام، ومتى يصدر القرار "بسحقها سحقاً نهائياً" حسب التعبير المرتعب لناقد ايراني صديق. وهي في انتظار ذلك تواصل مسيرتها، محققة افلاماً شعبية وأفلاماً نخبوية، افلاماً تروي مغامرات مثل "القلب الصامد" لمسعود جعفر الجوزاني، الذي ربما سيتمخض عن واحد من اكبر النجاحات التجارية لهذا العام عبر موضوعه المتحدث عن مغامرات ابنة قبيلة تعيش حداداً على اخيها الذي قتل خلال الحرب رافضة الزواج ريثما ينتهي الحداد...، وأخرى تطاول القضايا الساخنة مثل "القش الاخضر" الذي يتحدث عن حرب البوسنة من موقع تضامني، وثالثة تحاول ان تغوص في مشاكل فكرية أو في حياة الفتات المثقفة مثل "باري" للمخضرم داريوش مهرجيو، الذي يعتبر أحد أعمدة السينما الطليعية في ايران منذ أواخر سنوات الستين. و"باري" يتحدث بلغة كلاسيكية هادئة عن الشابة باري التي تدرس الأدب والفنون الدرامية وتكتشف ذات يوم نصاً صوفياً مجهول الكاتب يعود الى القرن الخامس فيقلب حياتها ويودي بها الى ازمة روحية عميقة يحاول الفيلم ان يتلمس آثارها متسائلاً عما اذا كان يمكن ان يعثر لها على حل.
الفخ الذي لا مفر منه
خط مشاكسة حقيقي وأخير للسينما الايرانية اليوم؟
ربما... ولكن يبقى السؤال قائماً، على الرغم من صرخة محسن مخملباف التحذيرية المريرة: من أين، بعد كل شيء، تستمد السينما الايرانية قوتها وقدرتها على المشاكسة؟
ربما من حب الناس للسينما كما يقترح مخملباف، وربما من المكانة التي حققتها السينما الايرانية في الخارج، حيث فيلما بعد فيلم، ومهرجاناً بعد مهرجان، تتحول السينما التي يصنعها فنانوف قلما جاهر أي واحد منهم بعدائه للنظام او برغبته في الخروج - الواضح العلني - عن تعاليمه ومحظوراته، تتحول لتصبح واحدة من الصور الايجابية التي تجابه بها ايران العالم الخارجي. فاذا نحن قرأنا في المنشورات الدعاوية الرسمية ما يتحدث بفخر عن أن السينما الايرانية قد حققت في العام 1994، 130 فيلماً، منها 58 فيلماً قصيراً و72 فيلماً طويلاً، وانها شاركت 456 مرة في 132 مهرجاناً ومناسبة في 44 بلداً في كافة ارجاء العالم، ونالت 30 جائزة اساسية منها جوائز كبرى في لوكارنو وشيكاغو واسبانيا وسان فرانسيسكو، يصبح من الصعب علينا ان نتصور كيف يمكن للسلطة ان تخرج من هذا "الفخ" الذي اطبق عليها، الفخ الذي يتجسد أفلاماً وحضوراً للنساء ومشاكسة... وأخيراً يتجسد نظرات اطفال ابرياء، أطفال يقولون كل شيء من دون خوف أو وجل.
اطفال يتفحصون العالم ويستندون الى براعتهم لاستكشاف المهول وطرق المحظورات كما تفعل الطفلة راضية في "البالون الابيض"، الفيلم الذي كان احدى ابرز مفاجآت "كان" الطيبة، ويكاد يختصر وحده، عبر سيناريو عباس كيروستامي واخراج جعفر باناهي، كل ما تحاول السينما الايرانية المتألقة والمشاكسة ان تقوله رداً على العقبات التي توضع في وجه السينما... أعني في وجه الحلم... وفي وجه الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.