حين فازت ثلاثة أفلام ايرانية أحدها كردي إيراني بجوائز في مهرجان "كان" السينمائي الأخير، لم يفت كثيرين ان يلاحظوا ان في الفوز المثلث هذا، شيئاً من رائحة السياسة، او بالأحرى: الديبلوماسية، وان ثمة ميلاً لدى محكمي بعض المهرجانات الأوروبية الى مساندة وبالتالي التسامح مع سينما تحتاج الى دعم، لأنها تنهض وتزدهر على رغم كل المعوقات الداخلية في ايران. ومثل هذا الأمر قد ينطبق على معظم المرات التي تفوز فيها افلام ايرانية بجوائز او بتنهويهات. ولكن هذا شيء وان يفوز عباس كياروستامي بسعفة مهرجان "كان" الذهبية 1997 ثم ان يفوز مساعده السابق باناهي بجائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية قبل أيام، فشيء آخر تماماً. هنا لا يعود ممكناً الحديث عن تعاطف سياسي أو ديبلوماسي، بل يصبح الحديث الوحيد الممكن هو عن القيمة الفنية لمثل هذه الأفلام. صحيح هنا ان فيلم "طعم الكرز" الذي أتاح لكياروستامي "السعفة الذهبية" مناصفة مع فيلم ياباني، لم يكن أفضل ما حققه هذا المخرج في تاريخه، بل يمكن القول إن مسيرته، عموماً، متراجعة منذ أفلامه الشفافة، الأولى. والذين شاهدوا فيلم "الدائرة" لجعفر باناهي قالوا إنهم يفضلون عليه، على رغم جودته وجرأته، فيلمه الأول "البالون الأزرق". الا ان بيت القصيد ليس هنا، ليس في تفضيل فيلم على فيلم للمخرج نفسه، بل في الدرس الذي يمكن ان تقدمه الينا سينما نهضت من رمادها على رغم كل شيء، وعلى عكس ما كان متوقعاً، وتمكنت، ليس فقط من ان تفرض نفسها على مهرجانات العالم وهواة السينما الجيدة فيه، بل كذلك على موطنها نفسه. فالواقع ان ليس سراً ان افلام كياروستامي وباناهي ومخملباف الوالد والابنة وكيميائي وروكشانا بني اعتماد وغيرهم، لا تثير الاجماع لدى المسؤولين في ايران، بل ان بين افلام هؤلاء، وغيرهم، اعمالاً يمنع عرضها في الداخل، او يؤجل طويلاً، وإن كان منتجها مؤسسة رسمية هي مؤسسة الفارابي، التي اضحت واحدة من اشهر مؤسسات السينما في العالم بفضل كياروستامي وشركاه. السينما في ايران، هي الآن فن الضد في شكل أو آخر، هي الفن الذي، عبر حيله وصبره ومعرفته ماذا يريد، بدأ يقترب من الخطوط الحمر التي تكاثرت وتعددت الى درجة السوريالية، طول السنوات العشرين التي تلت الثورة الخمينية. وفي الوقت نفسه، عرف السينمائيون كيف يتماشون مع المظاهر الخارجية التي تفرضها عليهم الرقابات المتعددة. وهذه المظاهر التي يشكل التخلي عنها جوهر فن السينما في العالم الخارجي، رضي المخرجون الايرانيون التمسك بها في الوقت نفسه الذي اشتغلوا فيه انطلاقاً من مبدأ يقول إن الفن الجميل هو في الضرورة فن ثوري، ولو على الصعد الجمالية وحدها. وهكذا، بسبب الرقابات المضروبة وأكثر من هذا، بفضلها، عرف بعض الافلام الايرانية كيف يحول المشاهد قوالب جمالية، وكيف يغلب المضمون الموارب والدافع الى الوعي على اليأس الذي كان يمكن الرقابة ان تبعثه لديهم. من هنا، ما نلاحظه ان هذه الأفلام، على رغم تشابه مواضيعها وتدثر المرأة فيها بأغطية لا تنتهي وحلول الاطفال في بطولتها كحلّ ممكن، عرفت كيف تقول الكثير. وأكثر من هذا، عرفت كيف تقول هذا في شكل يرتبط عضوياً بما هو محلي، لكنه وبالنسبة الى معظم الأفلام ينطلق من المحلي لفرض حضوره في الساحة العالمية. ونعرف بالطبع ان تراكم هذا التعامل مع البعد العالمي، أمن للسينمائيين الايرانيين، الاكثر طليعية وتفاعلاً مع فن السينما، نوعاً من الحماية في الداخل. وقد وصل هذا الى حدود تبدو بدورها سوريالية، في نظام يمثل كل ما فيه ما يتناقض مع تطلعات السينمائيين، لكنه لم يعد قادراً على حرمانهم امكان تحقيق تطلعاتهم. وفي تلك المعركة الصامتة، وسط الحيرة التي يعيشها جزء من النظام الايراني، عرف المخرجون كيف يسيرون قدماً بصبر وبمشقة، ولكن بخطوات واثقة ومؤكدة، بل عرفوا كيف يقدمون، احياناً، أفلاماً تفرض حضورها بذاتها، لا من حيث قيمتها الديبلوماسية والاحتجاجية. وفي هذا، بالتحديد، درس لا بد لأهل السينما في البلدان المحاصرة بألف قيد وألف رقابة، من أن يتعلموه، إن كانوا حقاً يحبون السينما.