لعل الخصوصية الأولى التي تميّز كتاب "مقاتل من الصحراء" للفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، ليست في كونه مرجعاً أساسياً لتأريخ حرب الخليج وأحداثها فحسب، بل كونه مدخلاً عاماً الى فهم سياسات هذه المنطقة وخلفياتها وتعقيداتها الجمّة. ويشعر القارئ، خبيراً متخصصاً كان أم مجرد متابع مهتم بشؤون الخليج وشجونه، بأنه مقبل فعلاً على عمل من شأنه تفسير الكثير من خفايا الأزمة وحيثياتها، وشرح الكثير من نقاط الاستفهام التي دارت حولها، وصولاً الى الاطلاع على سير الأزمة والحرب ومراحل عملياتها بتفصيل دقيق وبتجرّد قلما عبرت عنه المحاولات المماثلة التي يقدمها بين الحين والآخر قادة عسكريون أو سياسيون في مذكراتهم الرامية الى تسجيل ما مروا به من تجارب. لكنّ الأهم من ذلك هو ما يجسده الكتاب من تعبير دقيق، يبلغ حدّ الشفافية، عن الهموم القاسية والمشاعر المتضاربة التي عصفت بالنفس الخليجية خصوصاً، والعربية والاسلامية عموماً، في ضوء عملية "عاصفة الصحراء" وما ترتّب عليها من شروخ واهتزازات لا يزال الوضع العربي يعانيها حتى اليوم. وهو من هذا المنطلق يدخل صميم النظرة العربية الى الحرب، وعمق وجدان الانسان العربي في موقفه منها. ويسجل الأمير خالد قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات بذلك سابقة. فندرة هم المسؤولون العرب الذين يتحدثون بمثل هذه الصراحة عن تجاربهم وهمومهم ومشاكلهم أثناء وجودهم في مراكز السلطة والمسؤولية. وندرة هم القادة العسكريون العرب الذين يجهرون بما كان يخالج أنفسهم في أوقات الشدة والأزمات. والأكثر ندرة هم السياسيون العرب الذين يفتحون قلوبهم ويشرحون ما كان يدور في عقولهم عند اتخاذهم قرارات مصيرية. ويتجاوز الأمير خالد في "مقاتل من الصحراء" هذه الاعتبارات، ليقدّم المرجع الأول والوحيد حتى الآن عن أزمة الغزو العراقي للكويت من منظور عربي بحت، وعلى لسان مسؤول توّلى مباشرة التخطيط والاعداد لحرب التحرير والمشاركة في قيادتها. وهو في هذا السياق يورد معلومات وتفصيلات لم تكن لتتوافر من أي مرجع آخر. اضافة الى ذلك، فإن تحليل الأمير خالد للأزمة وأسبابها والمواقف العربية التي اتخذت خلالها، وشرحه لأهداف التحالف العربي - الاسلامي - الدولي والأولويات السياسية والعسكرية والاستراتيجية التي حدّدت طريقة ادارة الأزمة وصولاً الى النتائج التي آلت اليها، يشكلان كشفاً لا غنى عنه لكل من رغب في فهم ما دار داخل أروقة القرار ومرجعياته خصوصاً بين الرياض من جهة وكلّ من واشنطن ولندن وباريس والعواصم العربية من جهة ثانية. ويتفوّق بذلك على نظرائه من القادة العسكريين والسياسيين الغربيين الذين كتبوا عن حرب الخليج، وبالذات الجنرال نورمان شوارزكوف. فهو يوفّر للقارئ ما لم يتوافر في الكتب التي صدرت عن حرب الخليج الثانية من معلومات عن النظرة العربية والأهداف العربية من الأزمة. ويتحلى بذلك بجرأة شخصية وسياسية ليقدم في الكتاب ما يمكن اعتباره "البعد العربي" لأزمة الخليج. وما قد يكون للوهلة الأولى مثيراً لا يظل كذلك اذا تذكّرنا التلخيص البسيط الذي يشدّد عليه الأمير خالد في وصفه الأزمة. فمنذ البداية وصف دخول القوات العراقية الى الكويت بأنه أزمة "استثنائية" استدعت رداً "استثنائياً". من هنا، قد لا يكون مبالغة ان يتميز "مقاتل من الصحراء" بسمة "الاستثنائية" في فحواه ومضمونه، كمرجع أساسي عن حرب الخليج. القرار التاريخي ولعلّ المؤشر الأول الى هذا الطابع الاستثنائي ما يورده المؤلف في سياق تناوله القرار التاريخي الذي اتخذه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز بدعوة القوات الحليفة والصديقة الى المشاركة في الدفاع عن أمن المملكة العربية السعودية وأراضيها في مواجهة التهديد العراقي. ويفنّد في هذا المجال الروايات المتداولة عن توصّل القيادة السعودية الى ذلك القرار. ويصحّح الكثير من الأوهام خصوصاً في ما يتعلّق بالدوافع. فلا القرار كان نتيجة "ضغوط أميركية"، ولا بفضل تدخل هذا الزعيم الغربي أو ذاك، بل كان قراراً نابعاً من المنطق والشجاعة والاقتناع بأن "المحافظة على البقاء وعلى الوطن تأتي فوق أي اعتبار آخر" ص - 22. ويضيف ان القرار كان حصيلة اجماع أركان القيادة السعودية على انه "في حال تعرض أمن المملكة وسلامة أراضيها لأي تهديد قد لا تكون قواتها الذاتية قادرة على مواجهته بمفردها، فإن الرياض لن تتردد في طلب العون من أي دولة صديقة تربطها بها مصالح مشتركة، بما في ذلك الولاياتالمتحدة" ص - 24. وهذا التفسير الحاسم لقرار دعوة القوات الحليفة والصديقة، والذي شكّل اللبنة الأولى لقيام التحالف العربي والدولي، ينطلق بدوره من تفسير مهم آخر يقدمه المؤلف للطريقة التي نظرت بها السعودية، ومعها دول الخليج العربية الأخرى، الى غزو العراقالكويت. فالملك فهد اعتبر ان "احتلال الكويت لا يختلف عن احتلال الرياض نفسها، بل ان من شأن زوال الكويت عن الخريطة ان يؤدي الى نشوء تهديد خطير، عاجلاً أم آجلاً، لأمن المملكة بل لهويتها" ص - 19. من هذا المنطلق، قام موقف المملكة منذ البداية على حقيقة أساسية هي ان هذه الأزمة "تختلف كثيراً عن غيرها من الأزمات" التي كانت تعصف بالمنطقة العربية بين الحين والآخر. بل ان خادم الحرمين الشريفين توصّل الى استنتاج مبكّر جداً عقب اجتماعه بالسيد عزّت ابراهيم الدوري موفد الرئيس العراقي، يوم الجمعة 3 آب اغسطس 1990، أي بعد يوم واحد على الغزو، مفاده "ان صدام حسين ينوي البقاء في الكويت، وان أي قوة عربية لن تكون قادرة على اخراجه منها. وبالتالي، فإن أي حديث عن حلّ عربي للأزمة ما هو الا مجرّد وهم غير قابل للتحقيق" ص - 18. القيادة المشتركة اذن، ازمة استثنائية استدعت ردوداً استثنائية فكان قيام القيادة العسكرية المشتركة التي أشرفت على أضخم عملية حشد عسكري شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أمر لم يسبق له مثيل في التاريخ المعاصر، أقله خلال النصف الثاني من هذا القرن. ومثل هذا الانجاز الضخم حمل معه مشكلات وصعوبات بمثل ضخامته. ولا يوفّر المؤلف تفصيلاً أو واقعة الا ويوردها في معرض شرحه للعوائق التي واجهت مهمة قيام التحالف وتكريسه وتحويله من مجرد قرار سياسي واستراتيجي الى أمر واقع وفعلي على الأرض وفي الجو والبحر تمهيداً لتحقيق أهداف التحالف العليا. ومرة اخرى، يساهم "مقاتل من الصحراء" في تصحيح ما سبقه من روايات عن تفاصيل الأيام الحرجة، بما في ذلك ما ورد مثلاً في كتاب شوارزكوف عن انشاء القيادة المشتركة للقوات المتحالفة ص - 31 كما انه يتحدث بكثير من الصراحة والتوسع عما رافق انشاء تلك القيادة من خطوات وتطورات، منذ صدور القرار الملكي بتعيينه قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات يوم 10 آب اغسطس 1990، وما تلاه من ترتيبات ان اتسمت بشيء فانما بپ"التصميم على جعل القيادة المشتركة مشتركة فعلاً"، حتى الوصول الى مبدأ فريد اطلق عليه الأمير خالد تسمية "القيادة المتوازية" ص - 189، للدلالة الى الأهمية القصوى لضرورة "ان تكون القيادة متساوية تماماً، لا بنسبة 49 في المئة، ولا حتى 49.5 في المئة، بل بنسبة 50 الى 50 تماماً" ص - 38. ومن خلال مطالعة الكتاب، ومتابعة السيرة الذاتية لمؤلفه بدءاً من نشأته وطفولته في المملكة، ثم دراسته في كلية ساندهيرست الملكية العسكرية في بريطانيا، ودخوله القوات الملكية السعودية حيث توّلى منذ البداية مسؤوليات ميدانية ثم قيادية في قوات الدفاع الجوي التي نجح في تحويلها خلال السبعينات الى قوات حديثة ومتطورة حسب المقاييس العالمية، وبعدها الى ان أصبحت قيادة عسكرية مستقلة الى جانب كل من القوات البرية والجوية والبحرية وقوات الحرس الوطني في المملكة خلال الثمانينات ص - 130، وتوليه منصب أول قائد لقوات الدفاع الجوي السعودية، والذي ظلّ فيه الى حين تعيينه قائداً للقوات المشتركة ومسرح العمليات، يصبح طبيعياً ان يظهر الأمير خالد مثل هذا التصميم على تكريس مبدأ المساواة في القيادة بينه وبين نظيره الأميركي. فالأمير خالد لا ينسى ان يشدّد على الدور الذي لعبته نشأته كأمير سعودي شاب في تكوين شخصيته وبلورتها من بداية حياته العسكرية الى حين تسلّمه زمام قيادة القوات المشتركة ومسرح العمليات. وهذه النشأة، التي يشير فيها المؤلف بقدر ملفت من الحرارة والعاطفة الى الأثر الذي تركته في نفسه تربية والده الأمير سلطان بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران. فالأمير سلطان كان "المرشد والموجه والمثال الأعلى". وسواء خلال الفترة التي لعب فيها الأمير سلطان الدور الأول والأساسي في تطوير القدرة العسكرية السعودية وتحديثها خلال الستينات والسبعينات والثمانينات، أم خلال حرب الخليج نفسها حيث كان المرجع الذي يعود اليه المؤلف في أوقات الشدة من اجل النصح والتوجيه، فإن الأمير خالد يذهب بعيداً في تثمين دور والده كنهج وأسلوب وشخصية وادارة وحنكة سياسية كان لها أبلغ الأثر عليه شخصياً وعلى دوره العسكري كقائد خلال حرب الخليج. لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ طبعاً. فمثل ذلك التصميم كان نابعاً في المقام الأول من ايمان المؤلف بالدور الخاص الذي كان لا بد للسعودية من ان تقوم به في كل مراحل الأزمة. بل لعله من غير المبالغ فيه القول ان الهدف الأول للكتاب ولو لم يقل المؤلف ذلك صراحة، هو تصحيح تأريخ الأزمة والحرب في الخليج، واعطاء كل ذي حقّ حقّه، من حيث ايراد الحقائق والوقائع المتصلة بالدور السعودي والعربي والاسلامي الذي لولاه لما كان هناك امكان لقيام تحالف ولا لتحرير الكويت. وما يبرز جلياً في "مقاتل من الصحراء" هو العزم السعودي الجازم على "تحرير الكويت واعادة الأمور في الخليج الى نصابها" ص - 187. والأكثر من ذلك انه لولا استعداد السعودية لدعوة القوات الحليفة واستقبالها لمواجهة التهديد الذي شكله نظام صدام حسين للخليج ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها، ولولا المساندة الشاملة، مالياً وسياسياً وعسكرياً، التي أفردتها المملكة للمجهود الحليف، لما كان مثل هذا الهدف أمراً قابلاً للتحقيق. فالسعودية كانت بلا شك "ركيزة التحالف ولحمته والاسمنت الذي قام عليه" ص - 210. وقد يكون هناك قدر من العتب في كلام الأمير خالد بن سلطان على الطريقة التي أغفلت بها وسائل الاعلام الغربية المساهمة العربية والاسلامية في "عاصفة الصحراء"، لكن ذلك العتب يصبح أكثر وضوحاً عندما يشير الى شوارزكوف الذي يستشهد الأمير خالد بكلام قاله في الاحتفال الخاص الصغير الذي أقيم في الرياض لتبادل الأوسمة عقب انتهاء الحرب، وجاء فيه "لقد دعمنا السعوديون بنسبة 100 في المئة ومنهم حصلنا على غذائنا ومياهنا ووقودنا ووسائل نقلنا وغير ذلك… وغير ذلك. وليكن كلامي واضحاً: ان ما حققناه كان انجازاً عسكرياً عظيماً، لكن هذا الانجاز لم يكن ممكناً من دون دعم السعودية وتعاونها الكامل معنا" ص - 303. ويعلّق الأمير ببساطة على كلام القائد الأميركي، فيقول: "لقد قدّرت هذا الاطراء الخاص من جانب شوارزكوف، لكنني كنت أتمنى لو انه ردّده علانية في كتابه" ص - 304. كانت الاستعدادات للحرب اذن جهداً مشتركاً. وكذلك كان الأمر بالنسبة الى الحرب نفسها. وهي لم تكن ممكنة من حيث المبدأ لو لا هذا الطابع المشترك الذي اتسمت به في كل مراحلها. المساهمة العربية والدولية وبالطبع، فإن أحداً لا يمكنه التقليل من الضخامة التي ميّزت الجهد العسكري الأميركي. والأمير خالد نفسه يردد مراراً في كتابه مركزية الدور الذي لعبته الولاياتالمتحدة في التحضير للحرب وخوضها. لكن النقطة الجوهرية في هذا المجال تعود لتتركز على ما يمكن تسميته "التكامل" الذي تميّزت به طريقة ادارة الأزمة سياسياً وعسكرياً بين أطراف التحالف. وهنا يتميز "مقاتل من الصحراء" مرة اخرى عن غيره من كتب ودراسات خاصة بپ"عاصفة الصحراء" حتى الآن. فالمؤلف لا يغفل أحداً ممن ساهموا في تحقيق الأهداف التي رسمها التحالف لنفسه. بل يتحدث بالقدر نفسه من الحرارة والتقدير عن دول مثل السنغال والنيجر ساهمت كلّ منها بقوات رمزية لا تتعدى مئات من الجنود، كتحدثه عن دور الولاياتالمتحدة التي أرسلت ما يزيد على نصف مليون جندي. وهو لا ينسى طبعاً الاشارة الخاصة الى المساهمات العربية. فمن دول مجلس التعاون الخليجي التي شاركت بما أوتي لها من قدرات الى المغرب الذي أرسل وحدات من خيرة قواته الصحراوية الخاصة، وصولاً بطبيعة الحال الى الركنين العربيين الأساسيين في التحالف، أي مصر التي أرسلت نحو 35 الف جندي، وسورية التي شاركت بحوالى 15 الف جندي. والى جانب هذه الدول وقفت السعودية التي وضعت كل قواتها العسكرية في خدمة التحالف، فضلاً عن كل طاقاتها المادية والبشرية المعروفة جيداً للجميع ص - 420. وقد تكون مثيرة الاحصاءات المتعلقة بعدد الطلعات الجوية التي نفذتها طائرات التحالف خلال الحرب كواحد من المؤشرات الى حجم المشاركة فيها. والتفاصيل العسكرية التي يوردها المؤلف في كتابه كثيرة. فهو يتحدث بتوسع عن معركة الخفجي وأهمية الانتصار الذي تمكنت القوات السعودية والعربية من تحقيقه فيها على القوات العراقية التي كانت تمكنت من دخول البلدة السعودية الحدودية، والأثر المعنوي الضخم الذي تركته نتيجة تلك المعركة على القوات الحليفة باعتبارها كانت أول انجاز عسكري مباشر ص - 365. وتساهم التفصيلات عن هذه المعركة في تصحيح معلومات كان أوردها شوارزكوف في كتابه ص - 367. ويتناول الأمير خالد بقدر مساو من التفصيل مراحل العمليات العسكرية بدءاً بالحملة الجوية التي شنتها القوات الحليفة فجر 17 كانون الثاني يناير 1991، وحتى ساعة الصفر التي كانت حددت لبدء الحرب البرية وتحرير الكويت، وهي الرابعة من فجر 24 شباط فبراير 1991، في ما عرف باسم "حرب المئة ساعة" للدلالة الى السرعة التي حسمت فيها. وقد لا يكون هنا المجال للدخول في تفاصيل ما يورده المؤلف من معلومات عن مراحل سير العمليات العسكرية، جواً وبحراً وبراً، وما تخللته على سبيل المثال من محاولات قام بها التحالف لدرء خطر صواريخ "سكاد" العراقية ومهاجمة منصات اطلاقها، والصراع الذي دار بين تلك الصواريخ وصواريخ "باتريوت" المضادة في الأجواء السعودية والخليجية، وعمليات القوات الخاصة التابعة للتحالف وراء الخطوط العراقية في الكويتوالعراق نفسه، وتفاصيل التقدم البري الذي نفذته وحدات الميكانيكية المتحالفة على محاور هجومها المثلث في اتجاه مسرح العمليات الكويتي، وصولاً الى تحرير الكويت العاصمة وخروج القوات العراقية منها ومن سائر الأراضي الكويتية. نتائج ودروس لكن الملفت هو التقويم الذي يتوصل اليه الأمير خالد لنتائج الحرب ولمدى تحقيقها الأهداف التي كانت مرسومة لها على كل المستويات العسكرية والسياسية والاستراتيجية العليا. فهذا التقوىم يعكس بوضوح وجهة النظر العربية حيال الأزمة ونتائجها. وفي حين لا يوجد شك في ان حرب الخليج كانت على المستوى العسكري البحت انجازاً مهماً وانتصاراً للآلة العسكرية الحليفة التي برهنت عن جدارة وتفوق كاسح على نظيرتها العراقية، فإن الواضح الآن ان النتائج السياسية للحرب، أو ربما الاستراتيجية الشاملة، لم تكن على المستوى نفسه من الحسم. وهذا ما يعبر عنه بصراحة كلية الأمير خالد عندما يقول "في تصوري الشخصي، لم تأت الطريقة التي انتهت فيها حرب الخليج موازية للطريقة التي تم فيها خوض تلك الحرب. فبينما كانت العمليات العسكرية ماهرة وحاسمة، جاءت الترتيبات التي أعقبتها لاحلال السلام غامضة ومترددة. وهذا الأمر لا بد من ان يكون مسؤولاً، ولو جزئياً، عن حقيقة ان صدام حسين ظل قادراً على البقاء بعد انتهاء الصراع المسلح" ص - 421. وبالصراحة نفسها يحدد الأمير خالد رأيه في الأسباب التي أدت الى ذلك، فيقول: "انتهت حرب الخليج بطريقة غير مرضية لأنه لم يكن هناك اتفاق، بل لم يكن هناك حتى نقاش حقيقي بين أطراف التحالف في الطريقة التي ينبغي فيها انهاء الحرب" ص - 421. ومثل هذا التقويم يعكس بطبيعة الحال الاطار الاستراتيجي العام الذي ميز قيام التحالف في مراحله الأولى. ورسم أولوياته وأهدافه خلال الأشهر التي تلت غزو الكويت. ويتناول الأمير خالد الطابع "المرحلي" الذي اتسمت به عملية بلورة أهداف التحالف وأولوياته. فمن مجرد الدفاع عن المملكة وردع أي اعتداء عراقي عليها، كان منطقياً وطبيعياً ان يتدّرج الرد على الغزو العراقي في اتجاه تحرير الكويت واعادة حكومتها الشرعية اليها، وهو ما كان حجر الزاوية في استراتيجية التحالف منذ البداية، وما حدّده بوضوح خادم الحرمين الشريفين في خطابه الذي ألقاه يوم 9 آب اغسطس 1990 واعتبر بمثابة الاعلان الرسمي والحاسم للسياسة السعودية وأهدافها في تلك المرحلة ص - 180. اختلاف الأهداف بعد ذلك، كان لا بد من الارتقاء بأهداف التحالف مرحلة اخرى تتمثل في "ازالة تهديد العراق لأمن جيرانه وللاستقرار في الخليج" ص - 315. ولعل ما يورده المؤلف هنا يعبّر أفضل تعبير عن الفارق الذي ميّز ما بين الاستراتيجية السعودية - العربية حيال الحرب، وأهدافها من جهة، والاستراتيجية الأميركية من جهة اخرى. يقول الأمير خالد في هذا السياق: "استناداً الى قراءتي الشخصية للموقف، فإن الفارق بين موقفنا والموقف الأميركي خلال تلك الأسابيع الأولى كان يعكس فارقاً في الأهداف المتوخاة من الحرب. فأهدافنا، نحن وحلفاؤنا العرب، كانت انسحاب القوات العراقية، وازالة التهديد ضد أمننا، واعادة الأمور الى نصابها في الكويت والخليج. وطبعاً، كنا سنرحب برؤية سقوط صدام لما مثّله الرجل من خطورة، لكنّنا لم نكن راغبين اطلاقاً في ان نرى العراق نفسه عرضة للتدمير. فالعراق بالنسبة الينا، وعلى رغم خلافنا مع زعيمه، يظل بلداً شقيقاً سبق لنا ان ساعدناه في حربه مع ايران، وهو بلد كنا دائماً نقدّر دوره كقوة في موازنة كل من ايران واسرائيل… وفي مقابل ذلك، فان فهمنا للاستراتيجية الأميركية دفعنا الى الاقتناع بأن أهداف الولاياتالمتحدة من الحرب تركزت على الدفاع عن منابع النفط ومسالكه الحيوية بالنسبة الى الغرب، وحماية أمن اسرائيل، وازالة تهديد صدام للنظام السياسي في الخليج، وفي صورة عامة تكريس موقع الولاياتالمتحدة وتفوقها العالمي. وحتى نكون منصفين، فإن الرئيس بوش والشعب الأميركي كانا أيضاً مهتمين بالظلم الذي لحق بالكويت من جراء غزوها، واعتبرا تحريرها قضية عادلة تستحق التعبئة من أجلها" ص - 315. واذا كانت هذه الفوارق، كما يعبّر عنها قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات، ميزت ما بين الأولويات الأساسية التي حكمت الاستراتيجيتين السعودية - العربية والأميركية - الدولية حيال الحرب وأهدافها، فإنها ظلّت طبعاً ضمن اطار مشترك عبّر عنه نجاح التحالف في بلوغ القاعدة الأساسية لأهدافه، وهي تحرير الكويت والدفاع عن أمن الخليج وتقليص عامل التهديد العسكري العراقي وبعده الأقليمي. وتحقيق هذه الأهداف تم فعلاً بكفاءة وجدارة وحسم لا يمكن أحداً ان يناقش فيها. لكن مجرد وصول "عاصفة الصحراء" الى هذا السقف المحدد من الأهداف من دون غيرها. كان في حد ذاته تعبيراً عن الحد الاستراتيجي الذي قام التحالف على أساسه جامعاً 37 دولة من المنطقة والعالم. فهذه الدول من الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا وغيرها الى السعودية وحليفاتها العربيات الى دول افريقية وآسيوية وأوروبية شرقية، لم تكن مهتمة بالدخول الى بغداد أو احتلال العراق أو اطاحة نظام لا يزال يعمل حتى الآن على التنكيل بشعبه. وهنا ربما كمن التفسير اللازم لما آلت اليه نتائج الحرب في مستواها السياسي لكنّ مجرد جمع هذه الدول في اطار مشترك، ونجاحها في تحقيق الأهداف المشتركة التي اتفقت عليها وبالحد الأدنى الذي كان ممكناً تصوره من خسارة كان بلا شك انجازاً تاريخياً فريداً، يعبر عنه "مقاتل من الصحراء" خير تعبير.