حسمت الحكومة الكويتية، بطلبها من المحكمة الدستورية تفسير المادة 71 من الدستور الكويتي الخاصة بالمراسيم والأوامر الاميرية التي تصدر في غياب مجلس الأمة، الجدل بين الجهازين التنفيذي والتشريعي في شأن سريان المراسيم التي صدرت ابان حل مجلس الأمة العامين 1976 و1986. ويذكر ان فترة التعطيل الاخيرة استمرت ستة أعوام انتهت باجراء انتخابات العام 1992. وكانت المراسيم التي صدرت إبّان تلك الفترة سبباً للمواجهة المستمرة بين الحكومة ومجلس الأمة، خصوصاً المراسيم المتعلقة بحرية الصحافة، وانشاء المجلس الوطني الذي كلف تقويم التجربة البرلمانية، وقانون محاكمة الوزراء الذي اسفر التداول في شأنه عن توتر شديد بين السلطتين. وتنص المادة 71 من الدستور الكويتي على انه "اذا حدث في ما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة أو في فترة حله، ما يوجب الاسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير جاز للأمير ان يصدر في شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون، على ان لا تكون مخالفة للدستور او التقديرات المالية الواردة في قانون الميزانية. ويجب عرض هذه المراسيم على مجلس الأمة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها، اذا كان المجلس قائماً، وفي حالة الحل أو انتهاء الفصل التشريعي، فاذا لم تعرض زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون بغير حاجة الى اصدار قرار بذلك، اما اذا عرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون، الا اذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة او تسوية ما ترتب من آثارها بوجه آخر". ورأت الحكومة، في تفسيرها لهذه المادة، استناداً على حكم سابق للمحكمة الدستورية، انها تعتبر المراسيم المشار اليها قائمة بحد ذاتها، باعتبارها مراسيم قضت الضرورة باصدارها في غياب الحياة البرلمانية. وتمسك مجلس الأمة بأن السابقة القضائية للمحكمة الدستورية ذهبت الى ان الأعمال البرلمانية لا تدخل ضمن اختصاصات الجهاز التنفيذي، وبسبب عدم ورود حكم قطعي من المحكمة الدستورية في هذا الشأن كانت تلك المراسيم محل شد وجذب، وتوتر بين الحكومة والبرلمان. وكاد ان يؤدي ذلك الى توقف التعاون بين السلطتين، حتى اتفقا العام الماضي على تجميد هذا الموضوع الى حين صدور احكام قضائية قطعية في هذا الخصوص. وكان قرار مجلس الوزراء الكويتي تعطيل صحيفة "الأنباء" اليومية فجّر الجدل مجدداً على هذه القضية. اذ ان الحكومة استندت الى المادة 35 مكرر من قانون المطبوعات والنشر، التي صدرت إبّان تعطيل مجلس الامة الذي ألغاها بدوره اثر عودة الحياة النيابية العام 1981، ونشر القرار يومئذٍ في الجريدة الرسمية. وأيد عدد من النواب قرار الحكومة على أمل ان يضع ذلك حداً لتباين الآراء واختلاف التفسيرات التي ظهرت نتيجة الاحكام التي صدرت سابقاً من المحكمة الدستورية، ولتهدئة الاجواء السياسية في البلاد. وقال عدد آخر من النواب ان السؤال الموجه من مجلس الوزراء الى المحكمة الدستورية لم يكن دقيقاً في شأن المراسيم المتنازع عليها، ورأوا ان ذلك يُوجب توجيه سؤال آخر من مجلس الأمة الى المحكمة الدستورية عن السند القانوني الذي اعتمدت عليه الحكومة في اصدار مراسيم بعد مضي 60 يوماً - وهي الفترة التي حددها الدستور الكويتي لاجراء الانتخابات بعد حل مجلس الأمة - على حل المجلس عام 1986. استجواب وزير التربية ويأتي هذا القرار الحكومي اثر مرور شهر على انتهاء التوتر السياسي الذي ساد الكويت نتيجة استجواب الدكتور أحمد الربعي وزير التربية والتعليم العالي، ومحاولة طرح الثقة به وهو مسعى تبنّته القوى الاسلامية داخل مجلس الأمة. واعتبره المراقبون "محاولة غير مبررة لاحراز مكاسب حزبية موقتة"، وتسخين الاجواء السياسية بدرجة يخشى ان تضرم النار في التجربة الديموقراطية الكويتية برمّتها. وقال النائب عبدالله النيباري ممثل المنبر الديموقراطي ليبرالي، وهو عضو في مجلس الأمة منذ العام 1971، لپ"الوسط": ان ما تعرضت له الحياة البرلمانية في الكويت خلال الفترة الأخيرة نوع من اضفاء توتر الاجواء السياسية، وأحد اسبابه في البداية الاستجواب الذي قُدّم الى وزير التربية، ثم ملابسات القرار الحكومي القاضي بتعطيل صحيفة "الانباء". وفي ما يتعلق بالاستجواب فهو ممارسة، وحق دستوري لعضو مجلس الأمة، لكنه أتى في ظرف غير مناسب. وموضع المساءلة السياسية لم يكن بتلك الأهمية، خصوصاً ان الحياة النيابية في البلاد تتعرض لانتقادات تستثمرها القوى المعادية للديموقراطية في شن هجوم مستمر على مجلس الأمة. وأضاف النيباري ان "الاخوان المسلمين" والسلفيين من اعضاء مجلس الأمة استغلوا الاستجواب لتصفية خصومتهم السياسية مع وزير التربية، اذ لم يكونوا راضين عن سياسته الرامية الى وضع حد لنفوذ تلك الجماعات في وزارة التربية. "وحولوا القضية لتبدو صراعاً بين القوى الدينية والمنهج العلماني كما صوّروه للعامة. مع انهم أيّدوا ترشيح الدكتور الربعي بعد انتخابات تشرين الأول اكتوبر 1992 لهذا المنصب، وأصدروا بياناً بهذا المعنى، وهم بذلك قبلوا التحالف معهم خلال الاجتماع الذي عقده النواب لبحث تشكيل الحكومة في ذلك الوقت". وأكد النيباري ان هذا التوجه للقوى الاسلامية هو وسيلة استعراض لقوتهم وانهم لا يزالون "قوة يجب ان تحسب لهم الحكومة ألف حساب في قراراتها، بما في ذلك التشكيل الوزاري". وقال محمد عبدالقادر الجاسم نائب رئيس تحرير صحيفة "الوطن" الكويتية لپ"الوسط": ان الاستجواب عمل سياسي مشروع ضمن ضوابط دستورية، تحكم ممارسته في المقام الأول العلاقات السياسية القائمة. وضمن هذا الاطار كان متوقعاً منذ بداية اعمال مجلس الامة ان تحدث مواجهة بين التيارات الاسلامية والدكتور الربعي، وذلك لوجود خلافات سياسية وفكرية جذرية بين الطرفين. وعندما حصل النواب الاسلاميون على ما يصلح للاستجواب لم يتوانوا عن تقديمه، واستطاعوا حشد عدد كبير من النواب، وساعدهم في ذلك عدم وجود حماسة كبيرة لدى غالبية اعضاء مجلس الامة للدفاع عن الدكتور الربعي لأنه يتجاهل قرارات المجلس، ويتعامل مع الاعضاء بأسلوب فيه شيء من التعالي والتكبر. وأضاف: المعروف انه كانت للتيارات الاسلامية سيطرة شبه تامة على مرافق وزارة التربية في الكويت وسياساتها لسنوات مضت، ويصعب عليهم القبول بتحول السيطرة الى معسكر سياسي آخر، ومن ثم فإن المواجهة كانت مقبلة بأيِّ حال وبأي شكل. اما بالنسبة الى موقف الجماعات الاسلامية من الحكومة، فانه بدأ يأخذ شكل المواجهة، فهو في الأساس، افراز طبيعي لتقلب سياسة الحكومة، اذ انها في البداية عملت على التقارب مع الجماعات الاسلامية، وأدخلت بعض رموزها في التشكيل الوزاري، غير ان ما حدث منذ العام الماضي يمكن اعتباره انقلاباً سياسياً على الجماعات الاسلامية، فقد اصبحت الحكومة تلاحق تلك الجماعات ومراكز نفوذها في محاولة لتحجيمها، ويمكن الاشارة هنا الى قرار الحكومة حل اتحاد الجمعيات التعاونية وحل المجلس البلدي وكذلك الدفاع عن الدكتور الربعي وحمايته من السقوط ليس تمسكاً به، وإنما لعدم الرغبة في منح الجماعات الاسلامية أي مكسب سياسي. ورأى الجاسم أنه يمكن اعتبار تعطيل صحيفة "الأنباء" إثر نشرها مقابلة مع الأمين العام للحركة الدستورية الاسلامية الاخوان مؤشراً آخر على عزم الحكومة على الاستمرار في التضييق على الجماعات الاسلامية وكسر نفوذها السياسي والاجتماعي. وقال: "يصعب الآن التكهن بمسار الجماعات الاسلامية في المواجهة مع الحكومة. وان كانت هناك مؤشرات تؤكد لجوء تلك الجماعات الى التهدئة السياسية، ولكن باعتقادي ان الجماعات الاسلامية حُشرت في زاوية ضيقة، ولا سبيل امامها سوى تصعيد المواجهة، لأن الاستسلام لضغوط الحكومة سيلحق الضرر بالحركة الاسلامية، ويؤثر على عنصر الثقة بين الكوادر التابعة والقيادات او الرموز، لا سيّما أن النواب الاسلاميين اخفقوا في تحقيق انجاز واحد من الانجازات الموعودة التي طرحت شعارات رئيسية للحملات الانتخابية". وخلص الجاسم الى "ان حل مجلس الأمة امر وارد في حال اصرار الجماعات الاسلامية على التصعيد السياسي الذي سيكون المؤشر الرئيسي له تقديم الاستجواب الثاني لوزير التربية. ولن أُفاجأ اذا حُلَّ المجلس، وذلك سيكون احدى حلقات سلسلة من الاجراءات الحكومية الهادفة الى تقليم أظفار التيار الاسلامي في الكويت". واستطلعت "الوسط" رأي الدكتور احمد البغدادي الاستاذ في كلية العلوم السياسية في جامعة الكويت فقال: "مما لا شك فيه ان كارثة الاحتلال العراقي، وتجربة اللجوء القسري الى الخارج، ومعاناة الحياة في الداخل، ألقت بظلالها القاتمة على الحياة السياسية الكويتية. فبعد ان كانت تتميز بتنامي عناصر قوة المواجهة فيها تجاه السلطة، وشدة الضغوط على المؤسسة السياسية ممثلة بالحكومة، قبل الغزو 1988 - 1990، تحولت عناصر القوة الى تخاذل وتراجع بعد التحرير، وخير دليل على ذلك قبول القادة السياسيين الشعبيين مثل احمد السعدون والدكتور احمد الخطيب، وغيرهم، عودة المجلس الوطني اللادستوري بعد التحرير، وكذلك قبولهم بتأجيل موعد الانتخابات العامة لعام 1992، بدلاً من 1991 حسبما اتفق عليه في مؤتمر جدة. ويمكن ان نضيف الى هذه الشواهد، تراجعهم عن اصرارهم السابق على انهم مع بقية اعضاء مجلس الامة لعام 1987 الأعضاء الشرعيون، لقناعتهم بعدم دستورية حل البرلمان عام 1986. وكذلك تجاهلهم في الانتخابات العامة لأعضاء المجلس الوطني الذين رشحوا انفسهم لمجلس الأمة عام 1992، ولم يسعوا الى فضح ممارساتهم السياسية كما كان متوقعاً، اذ آثروا السلامة والهدنة. للأسباب آنفة الذكر اصبح الوضع السياسي خلال المجلس النيابي الحالي متسماً بالتراجع وضعف القدرة على مواجهة السلطة، تحت هاجس الخوف من حل البرلمان، وقد أثر هذا على طبيعة عمل المجلس، اذ أصبح مهادناً اكثر من اللازم. فآثر لجنة تقصّي الحقائق بدلاً من لجنة تحقيق كما يفترض، ولم يتم استدعاء رئيس الحكومة لمساءلته عما حدث في 2 آب اغسطس 1990، على الرغم من اعلانه انه يتحمل المسؤولية الشخصية". ايقاف بقانون ملغى! وسألت "الوسط" الدكتور البغدادي هل هو متفائل إثر تهدئة الوضع اخيراً، فأجاب: "لسنا من المتفائلين بقدرة المجلس النيابي، وكذلك المؤسسات العامة من صحافة وجمعيات نفع عام، على تطوير الحياة السياسية الديموقراطية، فالمجلس عاجز عن توفير الضمانات للحريات العامة، وخير دليل على ذلك ايقاف جريدة "الانباء" لمدة خمسة أيام بقانون ملغى! والتضييق على الصحافيين والكتّاب الكويتيين، والرقابة على الكتب لا تزال قوية، والمراسيم بقوانين دخلت حلقة مفرغة حتى اصبحنا لا نعرف الرأي الدستوري بصورة واضحة، والحكومة لا تزال تتعامل بقوانين غير دستورية، مثل حق وزير الداخلية في مصادرة او عدم تجديد أو سحب جواز السفر الكويتي، وهناك أيضاً قانون التجمعات. لهذه الاسباب الموضوعية نعتقد بأن آفاق المستقبل السياسي تتسم بالجمود، بل التراجع الديموقراطي، يضعف قدرة المجلس على الحسم مع السلطة التنفيذية في القضايا المصيرية، وكذلك ضعف الاداء السياسي للأعضاء، بسبب الالتهاء بالقضايا الثانوية مثل النقاب والفصل بين الجنسين في الجامعة، وتغيير المادة الثانية الخاصة بالشريعة الاسلامية، وذلك على حساب القضايا الرئيسية. وأشار البغدادي الى ان ثمة مشكلة مؤجلة حالياً وهي "قضية الصلح مع اسرائيل بعد حل المشكلات التي تعترض المسار السوري - الاسرائيلي، وهي قضية تحمل في طياتها صداماً يتوقع حدوثه، الا اذا تمّ تحجيم وجود التيار الديني في المجلس من خلال التدخل غير المباشر في الانتخابات المقبلة". وأوضح ان ممثلي التيارات الدينية يعيشون مأزقاً فريداً من نوعه مع ناخبيهم من جهة، ومع الحكومة من جهة اخرى "فقد اسرفوا في تقديم الوعود الاسلامية والوطنية لناخبيهم. ونقصد بالوعود الاسلامية تعديل المادة الثانية من الدستور، وقضايا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسلمة القوانين والاعلام، وقد فشلوا في هذا كله. والوعود الوطنية ممثلة بضمان الحريات، والرقابة على السلطة التنفيذية، والتحقيق في كارثة 2 آب. وقد فشلوا في هذا أيضاً، وكانوا يتوقعون مساندة الحكومة لهم داخل المجلس بعد المساندة اثناء الانتخابات، لكن الحكومة من جانبها - على ما يبدو - كانت تريد استخدامهم داخل المجلس وقد نجحت في ذلك في قضية التجنيس مثلاً، ولجنة تقصي الحقائق".