ما قصة هذه العلاقة الوثيقة التي بدأت قبل ربع قرن بين العقيد معمر القذافي والأمين العام ل"الجبهة الشعبية - القيادة العامة" أحمد جبريل؟ وهل كانت هذه العلاقة العميقة، التي سبقت العلاقات الحميمة مع ايران، السبب في الاتهامات الغربية ل"القيادة العامة" بالضلوع في تفجير لوكربي؟ في هذه الحلقة يحكي جبريل قصة العلاقة مع ليبيا بدءاً من الحوارات الطويلة مع الضباط الفتيان الذين اختاروا "القدس" كلمة السر في العملية الانقلابية التي حملتهم الى السلطة. ويروي جبريل قصة الثلاثة ملايين دولار التي تسببت في جفاء مع ليبيا ثم في ترسيخ ثقة معها ودفعتها الى دعم الثورة الفلسطينية، خصوصاً "القيادة العامة" بالأسلحة والمال. نفى جبريل أي علاقة لتنظيمه بانفجار لوكربي وتحدى الأجهزة الغربية تقديم أدلة واعترف بأن "القيادة العامة" تملك مختبرات علمية تنتج أجهزة تفجير. وكشف ان عناصر من تنظيمه حاولت، من دون أوامر قيادية، مهاجمة قطار في المانيا كان ينقل اميركيين. وأكد ان "القيادة العامة" قاتلت الى جانب ليبيا في تشاد ومعارك أخرى. كما كشف جبريل ان جبهته نجحت في تهريب أسلحة الى الأراضي المحتلة عن طريق اخفائها في سيارات المانية شحنت من المانيا الى ميناءي حيفا واشدود. وقال جبريل ان كارلوس زاره وعرض عليه التعاون لكنه شرح له اختلاف برنامج "القيادة العامة" عن برامجه. ونفى أي علاقة له بمسألة احتجاز الرهائن الغربيين في بيروت، مشيراً الى ان عناصر الجبهة كانت احتجزت في السبعينات عقيداً في ال"سي.آي.اي". والدكتور عبدالسلام المجالي رئيس الوزراء الأردني لاحقاً. وقصة جبريل مع الألغام قديمة. وها هو يروي كيف كان يتسلل الى الأراضي المحتلة. يوم كان ضابطاً في الجيش السوري، وكيف كانت الألغام التي يزرعها تنفجر وتتسبب في اتهامات وأزمات. وهنا نص الحلقة الثانية: هل كانت لكم علاقة باحتجاز اجانب على الأرض اللبنانية؟ - أبداً لم يكن لدينا برنامج يتعلق بهذا الموضوع. هناك حادثة واحدة في لبنان، إذ اعتقلنا مصادفة شخصاً أميركياً أسود برتبة عقيد خلال حرب السنتين 1975 - 1976، ولم يكن أحد يدري بهذا الموضوع، وعاملناه معاملة حسنة، وناقشناه في موضوع التمييز العنصري في أميركا والعالم، وتجاوب على رغم اعترافه بأنه عضو في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي.آي.أي"، وطالبنا في مقابل الافراج عنه، بمساعدة منطقة الأكراد، أي الكرنتينا الفقيرة ومنطقة عرب المسلخ. مورست ضغوط ودارت شكوك حولنا. وقالوا ان الأسير في حوزتنا. وحاول زهير محسن القدوم والتدخل، الا اننا رفضنا وطالبنا في مقابل اطلاق الأسير الأميركي أن تأتي 200 شاحنة محملة بكميات من الرز والسكر والطحين والسمنة وتوزع على أهالي الكرنتينا وعرب المسلخ. ونُفذ هذا الشرط ووصلت السيارات فعلاً وأطلقنا سراحه. لم نطلب شيئاً آخر سوى اعانة هؤلاء المعدمين. ألم تكن لكم علاقة بموضوع الرهائن الغربيين، حتى ولو مساعدة محدودة؟ - لا، لم نفكر في هذا الموضوع أبداً. في أيلول سبتمبر 1970 عندما كنا في مواجهة مع الأردن خطف رفاقنا في بيروت الدكتور عبدالسلام المجالي رئيس الوزراء الأردني السابق الذي وقع لاحقاً الاتفاق مع اسرائيل وهو متزوج من أميركية. وعندما علمنا بذلك، كلفنا أبو فراس فضل شرورو، كما اعتقد، بالذهاب الى بيروت حيث تسلمه ثم سلمه الى السفارة الأردنية على رغم اننا كنا نخوض معركة وقتذاك. كان التصرف فردياً وهذا هو المجالي حي يرزق. وكانوا أخذوه وهو حافي القدمين وبثياب النوم لكنه عاد فيما بعد مرتدياً ثيابه كاملة. وأحياناً نتندر وثمة من يقول انه لو تمت تصفيته لما كان وقع الاتفاق لكننا نقول أيضاً ان النظام الأردني كان سيعثر على مئة ألف عبدالسلام المجالي لكننا لا نريد أن يسجل علينا مثل هذا الأمر. نحن مقاتلون من أجل الحرية، هذا الموضوع ليس لنا. نحن حين نقاتل لا نتردد في القول أننا قاتلنا. كارلوس عرض التعاون وماذا عن صبرا وشاتيلا؟ - صبرا وشاتيلا مجزرة ارتكبها الإسرائيليون بغطاء من "القوات اللبنانية". انا ما زلت أقاطع ايلي حبيقة ولا كلام بيني وبينه حتى الآن من اجل هذا الموضوع، على رغم انني صادفته مرات عدة رفضت ان أسلّم عليه. لقد أنكر في مقابلة اجرتها معه جريدة "السفير" ان يكون رتّب هذا الموضوع صبرا وشاتيلا أو أن يكون قريباً منه. أنا لا أعرف هل هو صادق ام لا، لكنها كانت مجزرة بشعة. التقيت كارلوس قبل اعوام وعلى مدى ساعتين ماذا كان الغرض وماذا اقترح عليكم؟ - أراد ان يتعرف علينا، وهذا قبل سنوات. ولكن ليست بيننا اي صلة تعاون. وأنا قلت له برنامجكم مختلف عن برنامجنا. نحن لا ننقص برنامجكم ولا ندينه لكننا لا نحبذه. نحن لنا طريقتنا منذ 35 عاماً. وقد تستغرب اذا قلت لك انني كنت خلال السنوات الأولى أتجنب حتى في اوامر القتال ضرب الإسرائيليين المدنيين، على رغم انني كنت اعرف صعوبة التمييز بين المدني والعسكري فيهم. لأنهم جميعاً نساء ورجالاً جنود احتياطيون. وفي الأعوام 1966 و1967 و1968 كنا نحاول دوماً ضرب الجنود الإسرائيليين. وكان الأمر صعباً، لأن الأسلحة المضادة للدروع كانت محدودة لدينا، وهم يتنقلون في عربات مدرعة. مع ذلك كنا نبتكر موضوع الألغام. حين بدأ طيرانهم يقصف المدنيين اعتبرنا ان الموضوع عادي. انتم كقيادة عامة ألم تنفذوا عمليات خارج مسرح القتال في المنطقة... في اوروبا او اميركا مثلاً؟ - لا ولذلك لدى إثارة قضية "لوكربي" وفي مرات كثيرة كنت اقول صراحة فلتتفضل اجهزة الاستخبارات الفرنسية والبريطانية، وهي دولتين كبيرتين ومسرحين من المسارح الكبيرة... فلتتفضل ولتقل ان لنا اي نشاط او اي عمل على ارضيهما لكن لنا عملاً على المسرح الأوروبي بما يخدم قتالنا في داخل فلسطين. فمثلاً كنا نرسل سلاحاً وعتاداً الى الأرض المحتلة بواسطة السيارات التي تستورد من ألمانيا، ذلك في السفن المتجهة الى ميناء حيفا او ميناء اشدود. ماذا عن قصة المقهى في ألمانيا؟ - لا علاقة لنا بها. بعد ضرب ليبيا في 1986، وضرب المدنيين، حاول بعض مجموعاتنا ان يتصرف تصرفات بعيدة من الأوامر المركزية. امسكنا هذه المجموعات. كانت هناك محاولة لنسف قطار ينقل جنوداً اميركيين في ألمانيا. هل اعتقل المخططون؟ - لا، وقلنا لهم: ممنوع ان تتصرفوا من دون اوامر قيادية. كانوا متحمسين لأن الطائرات الأميركية كانت تقتل نساء وأطفالاً في ليبيا. لوكربي والأجهزة ذُكر انكم اصحاب جهاز تفجير استعمل في حادثة لوكربي، وأنكم تصنعون اجهزة كهذه؟ - لدينا اجهزة، ولدينا مختبرات علمية تنتج يومياً اجهزة كهذه. لكن هذه الأجهزة - كما يعرف الخبراء - تستعمل لهذه الغاية وتلك. هذا سلاح يمكن استعماله للدفاع او للهجوم، ويمكنك استخدامه في اغتيالات وغيرها. هذا ابتكار علمي يمكنك استعماله لغايات شتى ضد السفن او الطائرات او ضد سيارات الأرض المحتلة. مثلاً سيارة في ميناء حيفا ارتفاعها صفر عن سطح البحر، فإذا ارتفعت مئة متر يبدأ هذا الجهاز عمله. مواضيع علمية مختلفة، والخبراء يعرفونها. هل تؤكد ان لا علاقة لكم بقضية لوكربي؟ - نعم لا علاقة لنا بها. والأميركيون يعرفون ذلك، وإن ابدوا شكوكاً. يقولون انه حتى ولو كان هناك ليبيون بين المنفذين فإن القيادة العامة هي التي درّبتهم. اعتقد ان موضوع لوكربي سياسي اكثر منه قضية إجرامية، وإلا لماذا سكت الأميركيون عن مئة ألف قصة شبيهة بقصة لوكربي؟ لماذا لم يقفوا من تلك القضايا موقفاً مشابهاً؟ الطائرة الكورية التي اسقطها الروس، والطائرة الليبية التي اسقطها الإسرائيليون في قناة السويس بحجة خشيتهم من وجود متفجرات فيها. وطائرة الايرباص الإيرانية اسقطت ايضاً. لماذا لا تثار قضايا مماثلة حول هذه الطائرات ايضاً؟ محاولة اغتيال متى كدت تقتل في محاولة اغتيال؟ - الأعمار بيد الله. هناك محاولات عدة. هل كدت تختطف مثلاً في احد الأيام؟ - لا، الخطف لم يحدث. وأنا لست عصفوراً كي يخطفوني. المرة الوحيدة كانت حادثة الطائرة الليبية التي كان متوقعاً ان أستقلها الى سورية، وقد اجبرتها طائرات اسرائيلية على الهبوط في مطار قريب من حيفا. هذه المحاولة كانت الوحيدة. وهم يعرفون ان الطائرة لم تكن لتهبط في المطار لو كنت على متنها بل كانت ستسقط في البحر. نحن لا نقبل بأن نرفع ايدينا. لا نرفع نحن ايدينا إلا امام خالقنا. اعتقلتم ذات يوم الملحق العسكري الأميركي ومساعده، اين حصل ذلك؟ - قرب احد المعسكرات في سورية على بعد مئات الأمتار، كانا يحملان ادوات تصوير وأوقفناهما من 15 الى 20 ساعة. في اي مرحلة؟ - في مراحل ماضية، اي قبل سنوات وصورهما واضحة. استغل الإسرائيليون مراراً ديبلوماسيين اجانب، وقبضنا في مرات عدة على اشخاص كانوا يصورون بيوتنا او سياراتنا. هناك صراع مستمر، والإسرائيليون ارسلوا مراراً طروداً متفجرة. وهل انفجرت؟ - نعم بترت يد احد شبابنا وفقد عينيه بسبب ذلك. نحن نتنباه حتى الآن. وهو ساعي بريد ندفع له راتباً شهرياً بعدما فقد يديه. وكان الطرد الذي حرمه يديه موجهاً إليّ على ان ينقل الى بيتي. وفي عملية تخريبية اتى الإسرائيليون الى بيت في طبقة فوق الطبقة التي اسكنها، بقصد انتظاري على الدرج هنا في دمشق. كانت هناك مدرسة وبناية خالية قربها، تسللوا الى المدرسة وفتحوا الباب ومكثوا ينتظرونني الى ان عدت في الساعة الأولى بعد منتصف الليل. هل اعتقلوا؟ - لا. لم يُقبض عليهم. ولعبت الظروف دوراً كبيراً. كان لدينا باب حديد في الخارج اجتازه الى بيتي الذي كان عبارة عن قبو تحت الأرض. كان العملاء في انتظاري على السلم، فيما عناصر الحرس في الخارج. جربوا ان يضربوا ويهربوا من حيث أتوا. أتوا بواسطة طائرة مروحية؟ - لا. عملاء لهم. وكان الحادث قبل ثماني سنوات. يلعب الحظ دوراً في بعض الأحيان. ترجلت من السيارة امام الباب، وأراد المرافقون لي نقل اسلحة من مكان الى آخر وكان الإسرائيليون يرصدون الموقف من مطبخ المدرسة الذي يشرف على الشارع. اي حين أترجل سيكونون قبالتي بمجرد ان يفتحوا الباب وينزلوا ثلاث درجات. ركض المرافقون في اتجاه مخفر الحراسة، فخاف الإسرائيليون، وربما ظنوا ان امرهم قد انكشف وأننا نحاول تطويقهم وفي الحقيقة لم يكن لدينا علم بوجودهم، وبالصدفة ركض احد المرافقين ليلحق بإحدى سياراتنا ونقل سلاحاً من مكان الى آخر. في هذه الأثناء، ارتبك اولئك الذين كانوا ينتظرون. وعندما فتحت باب الحديد ونزلت الدرج الى البيت ظلوا في الدور العلوي. ويبدو ان السيارات تحركت في ما بعد. وكان الوقت حوالى منتصف الليل، وكانت والدتي وزوجتي مستيقظتين. دخلت كي اخلع ثيابي. بعد نحو 30 دقيقة كنت أقرأ العناوين الرئيسية في الصحف التي لا يسمح لي وقتي بالاطلاع عليها اثناء النهار. قرع جرس الباب الداخلي. هناك باب حديد لا يفتح إلا بواسطة انترفون، ما يوفر مزيداً من الحماية بالطبع. قرع جرس الباب الداخلي للقبو. نحن حذرون في البيت. وقفت والدتي خلف الباب وسألت: من؟ كنت انا في الحقيقة داخل الحمام، وسمعت صوت والدتي فتساءلت: ما الذي يجري؟ يجب ان يفتح الباب الحديد الخارجي قبل ان يقرع هذا الجرس، وللباب الحديد جرس آخر بصوت مختلف. لكنهم طبعاً اتوا من الطابق العلوي على الدرج وتجاوزوا الباب الحديد. لم يرد الطارق على والدتي التي تتسم بالحذر، فرفضت ان تفتح الباب. حين خرجت بعد قليل من الحمام سألتها من قرع الباب، فقالت انه لم يُجب. ثم اتصلت والدتي بمخفر الحرس الخارجي الذي يصلنا به خط هاتفي، وسألت هل قرع احدكم الجرس الداخلي، فقال رئيس الحرس: لا. و... فتحت الباب ولم اجد احداً. فتحت الباب وأنت مسلح طبعاً؟ - فتحته ولم أجد احداً. زوجتي ووالدتي سمعتا الصوت. بحثت في حديقة البيت فلم اجد احداً ايضاً ثم طلبت من رئيس الحرس التحقق هل كان الباب الذي يقع فوق المرأب مفتوحاً، فعاد ليقول: نعم كان مفتوحاً. ثم فتح الباب وهبط الى الدرج الرئيسي إلينا. وكانت البناية مقر مدرسة للبنات، طالباتها محجبات لا يدخنّ ابداً. وفي المطبخ وجدنا اعقاب السجائر التي تدل على انهم كانوا ينتظرون هناك بضعة ايام. حصلت الحادثة في 1987. أتوا ورتبوا الموضوع بطريقة تمكنهم من استغلال نقطة الضعف التي عرفوها. احياناً يلعب الحظ دوراً اساسياً، وبعيداً عن الشطارة الفردية. لو اقتحموا البيت لكانوا...؟ - كانوا طبعاً يتوقعون ان افتح الباب فيطلقون النار مستخدمين كواتم الصوت، ويهربون. وهذا بعدما فشلوا في مقابلتي على الدرج. قصف الإسرائيليون بالطبع مواقع كنت فيها مرات كثيرة، وكان القصف شديداً احياناً. يبدو انهم كانوا على علم بوجودي، لكن ذلك لم يؤد الى النتيجة التي يبغون. الرصاصة الأولى متى أطلقت الرصاصة الأولى؟ - في العام 1965. كان ذلك في عملية في الأراضي المحتلة؟ - طبعاً، نفذت عمليات في الأرض المحتلة وليس عملية واحدة. كلها كانت في العمق. كنا ندخل من الجولان ونجتاز سهل الحولة متجهين الى مستعمرات مستوطنات في الجليل الأعلى. كنتم تشتبكون مع الإسرائيليين داخل الأراضي المحتلة؟ - حدث ذلك مرات عدة. وكنا، احياناً كثيرة، نفقد الأمل ونتوقع الموت في اي لحظة. وفي اي سنة ولد احمد جبريل وأين؟ - العام 1937 في قرية قريبة من يافا في فلسطين اسمها يازور وتبعد 3 كلم من يافا. ومتى تركت فلسطين؟ - نزحنا في 1948، وأنا في العاشرة من عمري. وأين ذهبت؟ - الى سورية. ودرست هنا؟ - بخلاف اللاجئين اتيت بالطائرة، لأن حالتنا المادية كانت جيدة. أتينا من مطار اللد الى مطار بيروت الذي كان قبالة المدينة الرياضية في 1948، ثم من بيروت الى دمشق ترانزيت، لأن والدتي سورية وأقرباء والدتي جميعهم من الأغنياء والعائلات البورجوازية. كان جدي لوالدتي طبيباً جراحاً بارزاً. ومن اخوالنا صبري العسلي. وماذا درست؟ - انهيت المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية ثم التحقت بالأكاديميات العسكرية في مصر. درست في الأكاديمية العسكرية في مصر؟ - نعم، وكان ذلك قبل الوحدة في 1956 - 1957، وفي الكلية الحربية في القاهرة. وكان محمد فوزي، الوزير السابق، استاذنا. ثم درست الهندسة في مصر، وكان اختصاصي هندسة مدنية عسكرية. ثم اصبحت ضابطاً في الجيش السوري؟ - صرت ضابطاً في الجيش المصري لوقت قصير ثم التحقت بالجيش السوري. حين درست في الأكاديمية المصرية هل كنت موفداً من قبل الجيش السوري؟ - نعم، كانت بعثة من الجيش السوري؟ لماذا خدمت في الجيش المصري إذاً؟ - لأن الوحدة كانت تمت. وكم سنة خدمت في الجيش السوري لاحقاً؟ - حتى اواخر العام 1963، وسُرحت بعدما تسلم البعثيون السلطة في سورية وقامت ثورة البعث. وكان هناك خوف من العنصر الفلسطيني عموماً على اساس انه مؤيد لعبدالناصر. بأي رتبة كنت؟ - برتبة نقيب. وماذا فعلت بعد تسريحك؟ - كنت قدمت استقالتي من الجيش، وسجنت مرات عدة قبل ذلك وأنا ضابط بسبب نشاطي السياسي. كنت احاول تنظيم الناس وأتعرض لملاحقة اجهزة الأمن والمخابرات في المخيمات. وكنت آخذ من المستودعات بعض السلاح والعتاد والمتفجرات وكُشفت اكثر من مرة وسُجنت. عندما التحقت بالجيش لم يكن طموحي في الحقيقة البقاء فيه وأن أترقى الى رتبة عالية... كنت أبغي ان أحصل على قدر من الثقافة العسكرية والخبرة. هل تابعت دورات في بلدان اوروبا الشرقية؟ - لا، لا ابداً. زارع الألغام كيف حصلت على هذه المعرفة بالألغام؟ - انا اولاً اختصاصي. النقطة الثانية هي اني خدمت في الجبهة بمواجهة اليهود حين التحقت بالجيش. خدمت في جسر بنات يعقوب على نهر الأردن، واسم المنطقة العليقة. وخدمت حوالى سنتين في هذه المناطق، كأحد ضباط الجيش السوري. وكان همي الوحيد ان أدخل اسبوعياً في دورية وأزرع ألغاماً. كان ذلك في العام 1959. وكنت أصنع الألغام وأضع فيها اخشاباً لئلا تنكشف ولئلا يعرف مصدرها. سألتني عن مصدر خبرتي الهندسية. كنت احياناً أنزع ألغاماً من الحقول السورية على نهر الأردن وأدخل وأزرعها في الداخل. واصطحبت في مرات عدة معاونين اثق بهم. وهذا سبب مشاكل كثيرة بين سورية والكيان الصهيوني في 1959، ووقعت اشتباكات لأن الألغام كانت تنفجر بدوريات وجرارات إسرائيلية ما دفع الإسرائيليين الى تقديم شكوى ضد سورية الى لجنة المراقبين. وكان يتبين لدى فحص الألغام انها ليست من الألغام الكلاسيكية الروسية والتشيكية الموجودة لدى الجيش السوري. وفقد الإسرائيليون صوابهم مرات كثيرة خصوصاً عندما كنا نزرع ألغاماً وتحتها كمية من المتفجرات. ومادة "تي ان تي". كانت الآلية تنفجر ويقتل ركابها فيظنون ان عدواناً حصل. وشهدت تلك المرحلة سنتان او ثلاث مجموعة عمليات. انا كنت ضابطاً في الجيش وقمت بها من دون علم احد في الجيش حتى ان صديقاً لي كان مسؤولاً في المخابرات شك في امري في النهاية وقال لي اخشى عليك ان تصادف في طريق عودتك من فلسطين احد كمائننا، فتُتهم بأنك تتعاون مع اليهود. وستستغرب حين اقول لك انني كنت لوحدي في البداية... كان الضباط يذهبون في اجازاتهم الى دمشق لزيارة الأهل فيما كنت اقضي اجازاتي وأنا أنزل المنحدرات الحادة على نهر الأردن باتجاه مستعمرة مشمار هايردن وبستان الخوري ومناطق كعوش وغيرها. رفضت اولاً نصيحة صديقي ثم قلت لنفسي قد يكون على حق والأفضل ان يكون برفقتي دوماً شاهد. وكنت احاول ان أكتشف من هو المتحمس في السرية التي اقودها وذلك من خلال طرح قضايا سياسية. لم اكن ضابطاً عادياً أحلم بأن أراكم على أكتافي رتباً مرصعة بالنجوم، بل كنت احاول باستمرار التبشير في وحدتي بموضوع المواجهة مع العدو الإسرائيلي وكيفية الصراع. وحين أكتشف ان احد ضباط الصف أو أحد الضباط من ذوي الرتب الصغيرة متحمس وجريء وأثبت نفسه في التدريبات كنت اتحدث إليه على انفراد عن الموضوع بعد ان اطلب منه ان يقسم اليمين، وأسأله إن كان مستعداً للانضمام إلي أو أن يكتم هذه الحقيقة عن الجميع إذا لم يكن مستعداً. صرت اذاً آخذ معي اشخاصاً آخرين، كي لا اضبط لوحدي في طريق العودة وأُتهم بالتورط في شيء مخالف للقانون. فوجود الشاهد معي يمكن ان يثبت براءتي من تهمة محتملة وكان النظام الأمني ايامها شديداً للغاية في سورية، فقد كان عبدالحميد السراج مسؤولاً عن المخابرات. والواقع ان الواحد منا كان يقول اريد ان اموت شهيداً، ومنذ تلك الفترة وأنا أود ان اموت شهيداً مع اني الابن الوحيد لأهلي في بيتي. لا أشقاء لك أو شقيقات؟ - لي خمس شقيقات. وأولادك؟ - عوضنا عما فات ما شاء الله. رزقت أربعة صبيان وأربع بنات. اثنان من اولادي تخرجا من اكاديميات عسكرية وأصبحا مقاتلين يشتركان في الأعمال العسكرية. وكاد الإسرائيليون ان يقتلوا احدهما في غارة جوية في الناعمة وحين دخل في النفق ظلوا من الساعة 30،12 حتى الخامسة يقصفون النفق. الولدان يشتركان في دوريات منذ سن ال14 ويعرفان كل شيء في الجبهة. كم يبلغ عمرهما حالياً؟ - 25 و26 سنة. تعودا المشاركة منذ كانا في الرابعة عشرة وفور بدء العطلة الصيفية المدرسية. وكانت امنيتهم دوماً هي النزول الى قواعد عسكرية. العلاقة مع ليبيا كيف كانت بداية العلاقة مع ليبيا ومع العقيد القذافي تحديداً؟ - نحن منذ نشوئنا كتنظيم في 1959 باسم "جبهة التحرير الفلسطينية" ... هل كانت لهذا التنظيم اي علاقة بحركة القوميين العرب؟ - لا، ابداً. كثيرون يخطئون حين يظنون اننا كنا مع جورج حبش. في الحقيقة هو من مدرسة ونحن من مدرسة اخرى متباينة تماماً مع مدرسته. على العكس كانت هناك خلافات شديدة بين رفاقنا وحركة القوميين العرب في الجامعات. وكان الخلاف ان جورج حبش يعتبر الوحدة طريقاً للعودة، بينما قلنا نحن ان الوحدة والعودة مترابطتان ترابطاً جدلياً، اي اذا عملت في سبيل القضية الفلسطينية فأنت بذلك تعجل في الوحدة العربية، وحين تناضل لتحقيق الوحدة العربية فإنك تعجل في الوقت نفسه في تحرير فلسطين اي لا لزوم لهذا الفصل الميكانيكي. جورج حبش في حركة القوميين العرب كان يتحدث عن الوحدة طريقاً للعودة... هل كنت تعرف جورج حبش يومها؟ - معرفة محدودة من بعيد لبعيد. وليست معرفة شخصية. ومتى التقيته للمرة الأولى؟ - عام 1967 بعد الهزيمة بشهر او شهرين التقينا هنا في دمشق. وهل التقيت عرفات في تلك المرحلة ايضاً؟ - انا اعرف عرفات ويعرفني منذ زمن طويل، في 1965 او 1964 كانت لنا رؤية سياسية فحواها عدم امكان بناء علاقات سياسية مع انظمة محافظة. اذا اردنا اقامة علاقات فيجب ان تكون مع انظمة وطنية تقدمية قومية ثورية. وفي الحقيقة حين قامت ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا وأخذت تطرح طروحاتها، وكانت كلمة السر الخاصة بها في الانقلاب "القدس" شدتنا طروحات هؤلاء الشباب الجدد، وقررنا الاتصال بهم بواسطة شخصيتين: الاول آدم الحواز وزير الدفاع بعد الثورة مباشرة، وهو ضابط وزميل سابق لي في مصر. وقد اقيل بعد اشهر، ولم يكن من قيادة الثورة. والثاني مجاهد جزائري شاب لعب دوراً في اقامة علاقة بيننا وبين ليبيا. سافرت الى ليبيا واجتمعت مع قيادة الثورة طوال ايام عدة. وكنا نقضي اكثر الليل معاً. وطرحت بحضور جميع اعضاء القيادة، المشاكل التي نواجهها نحن الفلسطينيين في قتالنا مع العدو الاسرائىلي، ومن الحاجز الالكتروني والتحصينات على طول الحدود الفلسطينية لعزل الفلسطينيين في الداخل عن الفلسطينيين في الخارج، خصوصاً في الاردن. واستخدم الاسرائيليون على هذا الحاجز كل التقنية الاميركية المستعملة في فيتنام وتجارب اميركا الحربية بحيث اصبح هذا الحاجز عائقاً حقيقياً يحول دون وصولنا الى الضفة الغربية او قطاع غزة. وكان همنا ليس فقط تثوير الفلسطينيين في مخيمات سورية والاردنولبنان بل ايضاً كيف نستفيد من فلسطينيي الداخل وننقل لهم السلاح والعتاد والخبرة والثقافة العسكرية والقتالية وأساليب قتال حرب الشعب، لأن الفلسطينيين في الضفة كانوا محرومين منذ 1948 وحتى الاحتلال في عام 1967 من الاطلاع وتحصيل الثقافة العسكرية وكانوا يجهلون كيفية استعمال المسدس او البندقية، ولم يكونوا يرونها الا في ايدي الجنود الاسرائىليين فقط، لذا كان همنا كيفية ايصال السلاح والعتاد والمدربين والخبراء. الاسرائيليون كما قلت استطاعوا ان يغلقوا هذه الحدود خلال اشهر بعد احتلال 1967 لأنهم سخّروا لذلك امكانات هائلة. وقبل ان يغلقوها ارسلنا مجموعات ومدربين وأسلحة لكن بعدما استطاع العدو الاسرائىلي ان يقيم هذا الحاجز من الألغام والاجهزة الالكترونية والاسلاك الشائكة، صارت هناك صعوبة كبيرة جداً في اختراقه، ولا ابالغ اذا قلت ان الآلاف وليس المئات فحسب من الفدائيين قتلوا على هذا الحاجز الممتد من بحيرة طبريا في الشمال حتى البحر الميت وجنوبه الى العقبة. ثم اكمل العدو هذا الحاجز حتى اوصله الى رأس الناقورة مروراً بالجولان. كان حديثي مع قادة الثورة الليبية الفتية الصغار يرمي الى معرفة ما اذا كان باستطاعتهم مساعدتنا للتغلب على هذا الحاجز شرحت لهم الوضع وكان معي مجموعة من الخرائط، وفي نهاية الايام الثلاثة اقتنعوا، وقالوا: ما المطلوب منا؟ قلت ان تشتروا لنا على الاقل 4 او 5 طائرات هليكوبتر عمودية صغيرة نستطيع بواسطتها ان ننطلق من جبال الاردن التي نسيطر عليها، جبال اربد وعجلون وجرش والسلط والكرك فنصل في غضون دقائق الى اهلنا في رام الله او نابلس او الخليل. قالوا: ليس لدينا مثل هذه الطائرات الصغيرة، لكن بوسعنا ان نرصد مبلغاً لكم كي تشتروا به هذه الطائرات من ايطاليا ثم تدربون عناصركم كما تريدون. وفي الحقيقة انجزوا خلال عشرة ايام عملية تحويل 3 ملايين دولار لمثل هذا المشروع من طريق البنك العربي في عمان. وبدأنا نبحث عن طرق لشراء هذه الطائرات. وكانوا افادونا بأن لا مانع من وصول هذه الطائرات الى ليبيا ومن ثم شحنها الينا عبر سورية او اي بلد عربي آخر. وأثناء بحثنا عن كيفية شراء الطائرات وتدريب مجموعة من الفنيين على قيادتها فوجئنا بأن نبأ وصول مثل هذا المبلغ الينا من طريق البنك العربي تسرب الى عرفات. ذهب عرفات الى مصر، وطلب من محمد حسنين هيكل، رئىس تحرير "الاهرام" في ذلك الوقت، ان يسافر الى ليبيا للتوسط معهم لوقف هذا الدعم المالي، بحجة ان ذلك قد يؤدي الى تمزيق الثورة الفلسطينية. وحاولوا تشويه سمعتي انا شخصياً، وقالوا لهيكل ان احمد جبريل تاجر اسلحة وليس مناضلاً. وبالفعل، وكما روى لي العقيد القذافي، فإن محمد حسنين هيكل زاره وأبلغه ان الأمر خطير، لأن هذا المال لن يذهب الى الثورة وانما سيتم استثماره في تجارة الاسلحة. وعندها وصلني الخبر وكيف ان بعض اعضاء القيادة الليبية اصيب بخيبة امل لأن شخصاً استطاع ان يخدعهم ويأخذ منهم المال. وعندما تأكدت من هذا الامر قمت باعادة هذا المبلغ من جديد الى ليبيا والى العقيد القذافي، على رغم اننا كنا في تلك الفترة احوج ما يكون الى 10 دولارات او 100 دولار وليس الى مئات الألوف او الملايين. قد يلومنا البعض ويقول هذا تصرف رومانسي او مثالي، ولكن كنت اقول اننا لن نستطيع كمناضلين شرفاء ان نقيم علاقات مع الآخرين لا تستند الى الثقة المطلقة. وفي الحقيقة، بعد تحويل المبلغ الى ليبيا فوجئ العقيد القذافي فأرسل من طريق سفيره في عمان يطلب مني الحضور الى ليبيا لكنني رفضت. وأتى 1 أيلول 1970 وطردنا من الاردن. وعلى رغم المحاولات والدعوات المتكررة لزيارة ليبيا، كنت ارفض باستمرار، لأنني اعتبرت ان العقيد القذافي قبل مثل هذه التهمة ضدنا من المغرضين. وفي نهاية 1970 او بداية 1971 نشرت صحيفة "النهار" اللبنانية مقابلة مع العقيد القذافي اجراها احد صحافييها فؤاد مطر. في المقابلة سأل الصحافي العقيد عن علاقته بالفلسطينيين وهل يعرف القيادات الفلسطينية؟ عندها تحدث العقيد القذافي عن علاقته بالفلسطينيين، وعرّج على صلته بي وقال كلاماً طيباً كشف في نهايته انه اعطاني مبلغاً كبيراً لشراء السلاح ولما لم استطع شراءه اعدت له المبلغ كاملاً. علاقة وثيقة عندها، شعرت انه اعطانا حقنا الاخلاقي كاملاً كجبهة وكشخص. حينذاك ذهبت الى ليبيا وحكى لي العقيد الرواية التي ذكرتها آنفاً. بعدها توثقت العلاقات بيننا وبين الاخوة في ليبيا واستمرت متينة جداً في المجال السياسي وحتى على المستوى الشخصي. كان العقيد يصر دوماً على دعوتي الى منزله لتناول الطعام... اعرف عائلته فرداً فرداً، كما يعرف هو افراد عائلتي جميعاً. وكثيراً ما كان يسألني عندما نلتقي عن اولادي واحداً واحداً، ويصر دوماً ان يأخذ صوراً تذكارية نظهر فيها نحن والاولاد. كنا نشعر دوماً ان الاخوة في ثورة الفاتح مخلصون لقضية فلسطين، ونعرف ان هذه القضية بمثابة الدماء التي تجري في عروقهم، وهذا ما جعلنا نعشقهم. واستمرت هذه العلاقة، فقدموا لنا الكثير من السلاح والعتاد، قبل الاجتياح الاسرائىلي في 1982 وبعده. والآن مستودعاتنا هي من السلاح الليبي، حتى اننا كنا نقدم بعض هذا العتاد والسلاح الى فصائل لبنانية وفلسطينية عدة، منها حركة المقاومة الناشطة حالياً في جنوبلبنان. وهذا السلاح الليبي جاءنا في سنوات ماضية ونحافظ عليه حالياً ونعتبره كالقطع النادرة. وهل قدموا لكم أموالاً؟ - نعم. قدموا لنا أموالاً. واستمرت هذه الحالة، وفي المقابل قاتلنا دفاعاً عن ثورة الفاتح في المناسبات كلها. حين حاول الرئىس أنور السادات ان يغزو ليبيا ذهبنا وقاتلنا مع الليبيين في المواجهة، وشاركنا في العمليات العسكرية. هل كنت هناك شخصياً؟ - بالتأكيد. ايضاً قاتلنا الى جانبهم دفاعاً عن ليبيا، عندما بدأت اميركا وفرنسا باستثمار التشاديين لانهاك ليبيا واضعافها. اي انكم قاتلتم ضد التشاديين؟ - نعم. وأين؟ - في مناطق اوزو. ألفان من شبابنا قاتلوا هناك. هل صحيح ان تنظيمات لبنانية قاتلت في اوزو ايضاً؟ - نعم. الحزب التقدمي الاشتراكي مثلاً، والشيوعيون بعدد محدود. لكن كنا نحن الثقل الاساسي والفاعل وبقينا حوالى سنتين حتى توقفت الحرب التشادية، اي بين 1985 و1987. وهل وقعت خسائر في صفوفكم؟ - طبعاً. تكبدنا خسائر. وهل تكبد الاشتراكيون ايضاً بعض الخسائر؟ - انا اعرف عن الخسائر التي وقعت في صفوفنا. لقد شعر الليبيون اننا قمنا بعمل رائع بدفاعنا عن ثورة الفاتح على حدود تشاد، لأننا لم نقاتل كجنود مرتزقة وانما كأشخاص مؤمنين بأن الدفاع عن ليبيا وعن ثورة الفاتح في وجه الضغوط الاميركية والاوروبية هو شيء مهم. بعد الغارة الاميركية على ليبيا هل قمتم بأعمال ثأرية؟ - لا. ولكن كما قلت كان هناك شعور بالغضب انتاب كل فلسطيني او عربي ازاء هذه الهمجية التي استهدفت النساء والأطفال. تباين في المواقف تقصد حادثة القطار في المانيا؟ - مثل هذه التصرفات. وبعدما توقف القتال في تشاد وتزايدت الضغوط الاميركية والاوروبية على ثورة الفاتح، اخذ عرفات يقترب من ليبيا ويعرض خدماته باعتباره قادراً على تحقيق تقارب بين ليبيا ومصر وان بوسعه ان يكون جسراً لتخفيف الضغوط الاميركية والاوروبية على ليبيا. وحاول العقيد في تلك الفترة ان يشرح لنا الظروف الصعبة التي تمر فيها ليبيا، وانه مضطر الى الخدمات التي يمكن ان يقدمها ياسر عرفات. هنا بدأ يحصل تباين في وجهات النظر، وكان ذلك في 1989. وتركز هذا التباين على حقيقة ان مثل هذا الدور الذي يقوم به عرفات سيسيء الى ثورة الفاتح وليبيا ويهدف في النهاية الى التآمر عليهما. والحقيقة ان عرفات كان يحاول ان يسوق برنامجه التسووي مع الاسرائيليين من خلال سكوت ليبيا عنه. فمثلاً، كان يذهب ويمر عبر ليبيا في طريقه الى لقاء مع الاسرائيليين كي يوحي ان هذا الامر تم بموافقة من التفاهم. والحقيقة انتاب البرود علاقاتنا مع الاخوة في الجماهيرية بعد عملية التقارب بين عرفات وثورة الفاتح. حاول عرفات بوسائله المعروفة الالتفاف على معمر القذافي عن طريق العمل على عقد المجلس الوطني في الجزائر بمباركة ليبية، وحاول العقيد القذافي الضغط علينا لنوافق على وثيقة طرابلس المشهورة يومها، ولنذهب ونحضر اجتماعات المجلس الوطني الذي كنا نعرف سلفاً ان عرفات سيمرر فيه بعض القرارات السياسية التفريطية بحق القضية الفلسطينية. كثيرون من الليبيين والعرب نصحوا العقيد بأن يعتدل في المجال الفلسطيني، وكانوا يقولون له ان اعتداله في هذا المجال سينعكس ايجاباً على علاقاته الدولية. والاعتدال الفلسطيني في رأي هؤلاء كان يبدأ باعادة العلاقات الجيدة مع عرفات على حساب المنظمات الراديكالية او الرافضة. وهكذا كان، اذ قدم العقيد القذافي مبالغ مالية كبيرة لعرفات اثناء مرحلة الفتور التي عاشتها علاقاتنا معه. وهناك ارقام خيالية للمبالغ التي اخذها عرفات من القذافي، تقدر على الاقل ب150 مليون دولار خلال سنة 1990. لقد ابتزوا العقيد القذافي في مرحلة الضغط الكبير والهائل، خصوصاً في الفترة التي وجهت اتهامات الى ليبيا بالتورط في قضية لوكربي. وكي اكون دقيقاً جداً، لم يكن عرفات هو الوحيد الذي حاول ان يبتز ليبيا في تلك المرحلة، بل شاركت ايضاً دول عدة. كل هذه الانظمة حاولت ان تبتز ليبيا وتستفيد من امكاناتها في مقابل اعطائها وعوداً بأن هذه الدول ستحسن العلاقات بين ليبيا وأوروبا، وستحاول احتواء مشكلة لوكربي. وفي اوج الفتور بيننا وبين الاخ العقيد وثورة الفاتح جاءت محاولة ... استقبال بعض اليهود الليبيين الاصل، وارسال الحجيج الى القدس. من كان وراء ذلك؟ - رجل اعمال عربي ومستشار فلسطيني. وكل تلك التصرفات كانت تتم تحت ستار ان هذا السلوك يمكن ان يؤدي الى فك الحصار الاوروبي او الاميركي عن ليبيا. وأنا شخصياً، كنت اعتقد في داخلي بأن هذه التصرفات لا تتم بقناعة العقيد معمر قائد ثورة الفاتح او اخوانه. وكنت دائماً احاول ان ادفاع بيني وبين نفسي في مواجهة هذه التصرفات التي كان بعضها يحرمني من النوم ليال عدة متواصلة. ونشكر الله ان العقيد معمر اقتنع اخيراً بأن عرفات كاذب وحاول خلال مرحلة معينة ان يتكئ عليه لتغطية مشاريعه التصفوية، كما ادرك العقيد الآن ان كثيراً من الانظمة استغلته استغلالاً سيئاً. ونحن الآن، وأنا شخصياً، في منتهى الرضى لعودة الخطاب السياسي للعقيد معمر القذافي الى ما كان عليه حين يتحدث عن القضية الفلسطينية والعربية بشكل عام. صحيح ان الفرصة لم تسمح لي ان التقي العقيد القذافي منذ اكثر من اربع سنوات على رغم انه دعاني مراراً بشكل سري وعلني غير ان صعوبة الوصول اليه الآن حالت دون مثل هذا اللقاء، ولكن هذا لا يعني اننا لا نتصل ببعضنا البعض بوسائل مختلفة.