لم يكن المشهد مخيفاً في باحة القصر الجمهوري في السودان مساء اليوم الأول من نيسان ابريل الماضي على رغم ان المجتمعين يحملون اسماء تبرر الى الخوف الحقيقي أو المصطنع، في أوساط غربية واسعة. اجتمعوا حول مائدة ضخمة مستطيلة الشكل ومثلثة الصنوف، في ضلعها الغربي جلس كبير المضيفين الدكتور حسن الترابي الذي أمسى في تلك اللحظات "ضيفاً" عند الجنرال عمر البشير، ومعه نخبة من الحضور. كانوا كلهم هناك مع استثناءات قليلة. جاؤوا من الجزائر ولبنان وغزة ومصر والأردن وسورية ومن الشيشان وكوسوفو وألبانيا والبوسنة وكوريا وافغانستان وبورما وتشاد والسنغال والسويد والولاياتالمتحدةوبريطانيا ونيجيريا وموريتانيا... الخ. جاؤوا من 85 بلداً وتوزعوا حول تلك المائدة المستطيلة في ذلك المساء بعد يوم عاصف حملوا فيه على الامبريالية والصهيونية والغرب ما وسعت حناجرهم، تماماً كعادتهم في الأيام الثلاثة الماضية. كان ذلك المساء رائعاً بمناخه اللطيف. أما النهار فكان قائظاً بحرارته الشديدة ولهيب الخطب الثورية في قاعة الصداقة حيث عقدت جلسات "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" في دورته الطارئة الثالثة 30 آذار/ مارس - 2 نيسان/ ابريل. نسيم لطيف يبعث على الفرح، يتسلل في المكان حاملاً روائح شجر "النيم" ذات العطر الشبيه برائحة الياسمين. ويبدو أن هذا الشجر يتنهّد مساء في بعض شوارع الخرطوم فيعوّض المدينة وزوارها معاناة يوم آخر من شمس استوائية تنزل على الرؤوس بقوة ويعمل الناس هنا على مكافحتها عبثاً بكل أنواع المكيفات. كان من السهل تمييز الوجوه في ذلك المساء. صحافيون أوروبيون احمرّت بشرتهم بسرعة من لفحات تلك الشمس الرهيبة، يبحث بعضهم عن أنور هدام الجزائري وعن سبق صحافي مع ضيف مفترض يمثل "الجماعة الاسلامية المسلحة". كانوا يقولون ان لم يأتٍ أحد من هؤلاء فالخيبة تنتظرنا هناك في بلداننا. في المكان غابة من الوجوه السودانية التي تظهر بوضوح من الثياب البيضاء. انها ثياب الجمعة والمناسبات وأيام العطل والأعياد في هذا البلد. وتتوسط هذه "الغابة السودانية" عمائم ووجوه تنتمي الى أعراق تكاد تمثل كل الجنس البشري... وحول المائدة كنت تسمع شذرات من جمل تُمثِّلُ عشرات اللغات العالمية المعروفة وغير المعروفة فيما بدا أنه لقاء أممية حقيقي. كان ذلك المساء ملفتاً بهندسة الأضواء التي أنارت باحة القصر الجمهوري حيث كان يستقر فيما مضى المقيم البريطاني. يقع القصر على ضفة النيل الأزرق ويتم الدخول اليه من الشارع العام مباشرة، لكن واجهته الغربية تنفتح على حديقة معتدلة الاتساع تحيط بها بعض الأشجار القرنية والنخيل النيلي العملاق. على احدى درجات ذلك القصر ذي الهندسة الكولونيالية، قتل طعناً المقيم البريطاني "جوردان". كان الثوار العقلاء في حينه، يرغبون بأسره لمبادلته بالزعيم المصري السجين عرابي، لكن أحدهم فضل اغتياله انتقاماً من حكومة صاحبة الجلالة. أولئك الثوار لم يتخيلوا أن "ثواراً اسلاميين" سيجتمعون في هذه الباحة ذات يوم. كنا نظن ان المائدة العملاقة المبسوطة على أعشاب الحديقة الخضراء التي تكافح يومياً وبصورة غير متكافئة "ظلم" حرارة قاتلة، كنا نظن أن المائدة والتمتع بمرطب "الكركديه" المحلي وعصير "الفاكهة" الاستوائية والأطباق المحلية أو المستوطنة هي برنامج السهرة الحقيقي وأن الضيوف والمضيفين عبروا بما فيه الكفاية عن هموم عوالمهم من خلال منبر المؤتمر لكن المنبر كان رفيقنا هنا أيضاً... وعليه كان لا بد من خطبة ولو عابرة. مرت الخطبة بسلام. وبعدها انصرف الجميع الى الطعام وككل الموائد الاحتفالية الضخمة كان لا بد من الموسيقى التي تليق، طبعاً، بالمناسبة وبالحاضرين. هنا انطلق المغني الشعبي السوداني عثمان اليمني ينشد ببهجة لا لبس في صدقها "... ثورة الانقاذ لما جاءت طلّ الدين على العابدين. نلمّ ترابنا ونجتمع شمال ويمين ويظهر في العرب مليون صلاح الدين وبدل الصاع يكون صاعين" ويتابع "اليمني" على إيقاع قيثارة محلية افريقية اللحن، مخاطباً الغرب "... نحن يا زول لما كنا كانت الدنيا تخشى أمطارنا. ننصر افريقيا والعالم الثلث. وحدة عربية يا زول رغم أنف التكنولوجيا اللي فيها عالمكم"... رافق "الزول" المغني عثمان اليمني الحاضرين حتى فرغوا من تناول القهوة ثم نهضوا جميعاً خلف الجنرال عمر البشير والدكتور حسن الترابي اللذين كان كل واحد منهما يرفع عصا سودانية ترمز الى التحدي والفخر... وانصرف الضيوف 400 بلمح البصر ونقلتهم سيارات وحافلات كثرت بينها المرسيدس الضخمة و"صالونات ليلى علوي" على حد تعبير ضيفٍ يمني قادم من صنعاء. في صبيحة ذلك اليوم كان "الزول" الغربي، أي الشخص أو الرجل بالمعنى السوداني، قد عبّر صراحة عن موقفه من "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" في تعليق بثته الاذاعة البريطانية حيث قال: يمكن للعالم ان يرتاح خلال ثلاثة أيام ذلك ان "الارهابيين" كلهم مجتمعون الآن في الخرطوم... ما يعني أن "الزول" الغربي يردّ على المؤتمرين بلغتهم ويحمل خطوتهم على محمل الجد وأن الأمر ليس مجرد "كذبة نيسان". الهاتف والارهاب في فندق "هيلتون" الذي ينتمي الى اسرة فندقية غربية ودولية كان يقيم معظم "ثوار" ما بعد انهيار الحرب الباردة. وبما ان "الثوار" طبقات وفئات متخاصمة ومتنافسة فكان لا بد من توزيعهم. أفغان رباني ومسعود في الهيلتون وافغان حكمتيار في الفندق الكبير. الأردنيون والمصريون واللبنانيون والأتراك في الأول... والنيجيريون والأفارقة الآخرون في الثاني يوحد بين الطرفين هم يومي مشترك هو الهاتف الدولي الذي لا يعمل الا بشق النفس في كلا الفندقين. في بهو الهيلتون الذي يتميز بكل مواصفات الواحة، كانت البعثات الوافدة تعبّر بدهشة عن وصف المؤتمر ب "الارهابي". كانوا مهتمين بصورة جدية للغاية بدفع تهمة الارهاب عن أنفسهم وكانت حججهم تتوالى كالسيل: الشيشان بنظر الروس جماعة من "الهولينغز" والقتلة على الرغم من مقاومتهم المتواصلة منذ قرون للسيطرة القيصرية والشيوعية واليلتسينية وتعرضهم الدوري لما يشبه الفناء. اللبنانيون بنظر اسرائيل جماعات ارهابية موالية لايران في حين انهم يقاتلون احتلالاً حقيقياً مستمراً لأراضيهم في جنوب هذا البلد. البوسنيون، اصوليون، بنظر الصرب ينتمون الى ماضي السيطرة التركية على البلقان وتصفيتهم هي تصفية حساب صربي مع هذا الماضي. الفلسطينيون من الجهاد الاسلامي وحماس ارهابيون بنظر الدولة العبرية التي جردتهم من أراضيهم وحصرتهم في طنجرة ضاغطة في غزة ثم تريد من هؤلاء البؤساء ان يرشقوها بالورود بدلاً من الحجارة والصواريخ. "الانقاذيون الجزائريون" ارهابيون بنظر حكومتهم التي جردتهم من نتائج انتخابات نظمتها هي. وسيظلون ارهابيين بالرغم من ادانتهم قتل المدنيين واختطاف الطائرة الفرنسية وتوقيع اتفاق روما. الاريتريون ارهابيون بنظر رفاق الأمس الذين يحكمون في أسمرة والذين يرفضون استرداد أكثر من نصف مليون لاجئ اريتري يعيشون في الأراضي السودانية الخ كان هذا خط القياس للقضايا التي تجمعت في الخرطوم. تندرج هذه الحجج في اطار جدل واسع حول عدالة القضايا المطروحة بين المدافعين عنها من جهة والغرب من جهة أخرى. فالدول الغربية وإن كانت غير قابلة لأن تحشر في يافطة واحدة، تكاد تجمع على اعلان الحرب على الأصولية الاسلامية لكنها في الوقت نفسه تختار ما يناسب مصالحها من أهداف لهذه الحرب. هكذا تقف الولاياتالمتحدة ضد الأصوليين اللبنانيين، وتتسامح نسبياً مع الأصوليين الجزائريين، وتقف فرنسا بشدة ضد الاسلاميين الجزائريين، لكنها تتفاهم مع السودان وايران حول قضايا عدلية وأمنية. واذا ما احتاج الحلف الأطلسي لعدو خلال فترة ما بعد الحرب الباردة فالتيارات الاسلامية هي الطرف المؤهل لاحتلال هذه المرتبة. كل ذلك يعني أن المواجهة بين الطرفين ستظل مفتوحة حتى إشعار آخر... "زول إسلامي" يناهض "زول غربي". الأصولية والغرب "الغرب يُعربد في الهواء الطلق" بحسب الدكتور حسن الترابي الأمين العام "للمؤتمر الشعبي العربي والاسلامي" فهل يرغب الاسلاميون الأعضاء في هذا المؤتمر بوضع حد للعربدة الغربية؟ هل ينوون انشاء اطار عالمي دائم للدفاع عن قضاياهم؟ وهل يمكن وصف لقاء الخرطوم الثالث ب "الأممية الاسلامية" التي تزداد ترسخاً منذ العام 1991 تاريخ انعقاد المؤتمر الاسلامي؟ وهل تنوي هذه الأممية وراثة الأممية الشيوعية المنهارة؟ وأخيراً ما هي الرهانات؟ قاعة مجلس الصداقة الضخمة الواسعة الأرجاء بناها الصينيون يوم كانوا يرغبون في تعميم نموذجهم العالمي. ضخامتها تشي بطموحات عملاقة لشعب ملياري. كان القادة الصينيون يعرفون ان خصومهم السوفيات، و"اعداءهم" الرأسماليين اكثر قدرة على منح المساعدات وعقد الصلات الواسعة ففضلوا هم بامكانياتهم المتواضعة تشييد أبنية كبيرة وفتح طرقات وشوارع لا يمكن للعامة الا ان تتذكرها على مدار اليوم. في هذه القاعة عقدت جلسات "الأممية الاسلامية" في العام 1991 وفيها عقدت الجلسات اللاحقة.. لعل الصينيين كانوا يتمنون ذات يوم ان تضم القاعة اممية من نوع آخر. في قاعة مجلس الصداقة بادر الدكتور حسن الترابي الى الاجابة عن هذه الاسئلة في مؤتمر صحافي ختامي حاول خلاله ان يعكس "روح المؤتمر" وليس منطق الأغلبية والاكثرية فيه. قيل للدكتور الترابي ان عدوه الغربي المباشر، اي الأمين العام للحلف الاطلسي، اكد ان الاسلام هو الخصم الابرز بعد انهيار الشيوعية فقال باستعلاء كبير "هذا الشخص لا يستحق ان نرد عليه. نحن نرد على الغرب كله ولا نرد على طرف محدد وقد جاء هذا الرد في التوصيات الختامية للمؤتمر" ودائماً حسب الدكتور الترابي. في القاعة السفلية، حيث عقدت الجلسات، قرأ الامين العام توصيات المؤتمر من فوق منصة الرئاسة التي بدت وكأنها معلقة في الهواء فوق المؤتمرين فتضمنت رداً على الغرب اقل ما يقال فيه انه لا يتناسب مع حرارة وعنف الخطب التي القيت على المنصة. وملامح هذا الرد نجدها في التوصيات التالية: 1 - "يراقب المؤتمر ببالغ من القلق اشتداد هجوم الغرب على الاسلام والمسلمين مستخدماً في ذلك آلته الاعلامية.. متجاهلاً المبادئ الانسانية المشتركة بين الحضارات والثقافات العالمية المعلية كرامة الانسان وحريته ويوصي المؤتمر: توخي التوجهات التي تنفتح على الحوار مع الاسلام... ويقدر كل اللقاءات التي تثري التفاعل الايجابي مع الغرب. 2 - يعلن المؤتمر ادانته الانحياز الغربي والاميركي لاسرائيل والعداء السافر لكل جماعة أو دولة تلتزم بالاسلام منهجاً. 3 - يوصي المؤتمر بتنظيم حملة عالمية مع شعوب العالم الثالث لاصلاح الأممالمتحدة وقلب نظامها لتقوم على المساواة والتمثيل الصادق وتعديل نظام عضوية مجلس الامن والغاء حق النقض فيه واقامة نظام قضائي عالمي ضابط عليه. لم يرد في التوصيات ما يسمح مباشرة بتعيين الغرب وتشخيصه بأطرافه المباشرين. فالغرب وصف عام لا يتسع ليشمل كل دول أوروبا الغربية والولاياتالمتحدة وكندا واستراليا وغيرها وهي دول تشترك في مبادئ عامة ترشد حياتها السياسية ونماذجها الحضارية لكن الخلافات فيما بينها والتناقض بين سياستها يصل احياناً الى حدود تفوق تصور مؤتمري الخرطوم الذين لم تشغلهم مسألة من هذا النوع كما لم يشغلهم سؤال من نوع هل اليابان تصنف في الغرب ام في الشرق. لم يرد مؤتمرو الخرطوم على مؤسسة الصدام الغربية المادية الأبرز اي الحلف الاطلسي ما يعني انهم ينطلقون في توصياتهم الختامية من احتمالين: 1 - توسيع اطار الخصم وحصره بعالم كبير ومسيطر تحت تسمية الغرب بحيث يجد كل طرف ما يناسبه في معنى الخصومة، ويجد المخارج المناسبة لتفسير انضمامه الى التوصيات المتصلة بالغرب وبذلك يتم الحافظ على الاطار العام للمجتمعين في وجه خصم عام وغير محدد بصورة مباشرة. 2 - الرد بطريقة سياسية تكتيكية على خصم مبدئي عام قابل للادانة قابليته للحوار و"التفاعل الايجابي" وفي كل الحالات الغرب الذي اشارت اليه التوصيات ليس نفس "الغرب الذي يُعربد في الهواء الطلق" على ما ذكر الدكتور الترابي في حديث صحافي عشية المؤتمر. يضاف الى ذلك ان الولاياتالمتحدة الاميركية المصنفة في طليعة الدول الغربية لم تذكر الا بطريقة مخففة للغاية في التوصيات ولعلها وردت بالاسم مرة واحدة وكان مقرراً في التوصيات الأولى ذكر اسم فرنسا بصورة ايجابية بوصفها دولة داعمة لموقف الحصار على العراق لكن خصوم باريس الكثر حالوا دون ذلك. واضح ان واشنطن لم تكن تخشى من توصيات نارية ضدها عندما سمحت لرئيس هيئة البرلمانيين الجزائريين "انور هدام" بفيزا خروج للمشاركة في هذا المؤتمر وكذا الأمر بالنسبة للمستشار الشخصي لرئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر الذي شارك في المؤتمر على رأس وفد تركي دون ان يحرجه او يحرج المؤتمرين كون تركيا عضواً في الحلف الاطلسي الذي عين الاسلام عدواً له لفترة ما بعد الحرب الباردة. اذا كان النهوض لمواجهة الغرب واحداً من بين اسباب كثيرة للقاء الخرطوم فان هذا اللقاء اجتهد في تجنب تنصيب الغرب عدواً وتحاشى الرد على الأمين العام للحلف الاطلسي بطريقة "بدل الصاع يكون صاعين". وإذا كان المؤتمرون يظنون ان الدول الغربية ستأخذ علماً بتوصياتهم المعتدلة فانهم يرتكبون خطأ اكيداً ذلك ان القضايا الساخنة التي اجتمعت في الخرطوم ستضاعف من عداء هذه الدول للمجتمعين وسيتوسع اعلامها في قراءة مبادرتهم بوصفها راديكالية وإرهابية وما شابه ذلك من الاوصاف. عندما تنظر الى ردود فعل السودانيين تجاه ما يحيط بهم ينتابك شعور انهم أبعد ما يكون عن الهيجان الثوري الذي يميز شعوباً اخرى. الناس هنا يتحدثون ببطء ويلفظون جملاً عربية بلهجة محلية. جملهم قصيرة وبعيدة عن التكرار. كان على هؤلاء السودانيين ان يستقبلوا المبادرة الاسلامية الاممية الأولى من نوعها على الصعيد الشعبي. اممية الخرطوم تتميز بمواصفات معينة شبيهة بالامميات الشيوعية العالمية ومن بين هذه المواصفات: أ - دعوة وفود تمثل 85 دولة اي ما يوازي تقريباً نصف الدول المنتمية الى الأممالمتحدة مع فارق قياسي في مستوى وحجم ونوع التمثيل. فبعثة اليونان تضم مثلاً يونانية متزوجة من سوداني وتقيم في الخرطوم وممثل بريطانيا داوود زنك ينوب عن حزب هامشي صغير في حين حضر الأتراك بكثافة ومثلهم فعل الاردنيون والمصريون والافغان. ب - يجمع بين الوفود المشاركة تمثيلها للاسلام السني مع استثناء وحيد هو حضور بعثة كبيرة من حزب الله الشيعي اللبناني وممثل ايراني. ج - ضمت الوفود المشاركة كل الاعراق والألوان المعروفة. وطرحت كل القضايا الاسلامية الكبيرة والصغيرة التي تعني هؤلاء في قارات كاملة. وحرص المنظمون على ان تكون الجلسة الافتتاحية مزدانة بمنصة تمثل هذه القارات بصورة رمزية. وقد جاءت التوصيات الختامية لتعكس كل القضايا المطروحة بدون استثناء فبدت وكأنها بياناً اممياً حقيقياً شبيهاً ببيانات الامميات الشيوعية المعروفة. د - يتوفر لهذه الاممية المفترضة مرجعها الديني وتتكفل لغة الغرب الانجليزية بتوفير التواصل بينها علماً ان بعثات عديدة تتحدث اللغة العربية. ج - لا يعدم الامين العام للمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي الاشارة الى هذه المواصفات الاممية في احاديثه وبالتالي المقارنة مع الاممية الشيوعية ويقول الترابي "كانت حركة التاريخ هي حركة الشعوب ولم تكن حركة لينين وانغلز وحدهما خاصة بهما" أو قوله "... نحن القوة الوحيدة المدافعة عن الله في هذا العصر". ما يعني ان تنظيماً عالمياً أو هيئة دولية يجب ان تقوم بهذه المهمة وتكون حركة الشعوب عمادها على ان يلهمها رمز او منظر اختاره المؤتمرون منذ الاجتماع التأسيسي وجددوا له. والراجح ان الدكتور الترابي الذي قرأ الماركسية وخاصم الامميين وتلقى تأهيلاً علمياً حديثاً في بعض الدول الغربية ومارس وظائف سياسية في الدولة السودانية، ووضع مؤلفات نظرية وشارك في تنظيمات اسلامية دولية ليس بعيداً عن فكرة التنظيم الاممي المفترض في الخرطوم فهذه الاممية تنطبق تماماً على نمط تفكيره. مشكلة الاممية الجديدة لكن مشكلة اممية الخرطوم انها تقوم على مرتكزات تفتقر الى الثبات والاستقرار - ويمكن حصرها في العناصر التالية: 1 - كانت الأممية الشيوعية تستند الى دولة قطبية واسعة الارجاء كانت حتى الأمس القريب امبراطورية تملك وسائل سيطرة وتحكم وجيوش وتقنيات وموارد اقتصادية هائلة. وكانت روسيا القيصرية مهيئة طبيعياً للعب دور عالمي من خلال دول وأحزاب شيوعية عالمية تدور في فلك السياسة الروسية. من الصعب ان تلعب الخرطوم مثل هذا الدور. فالسودان وان كان يحتل مساحة جغرافية هائلة فهو بلد يعاني من انتشار الأمية بنسبة تفوق الپ80 في المئة واقتصاده يعيش حالة إعادة تأسيس وسط ما يشبه الحصار الدولي، ويتحرك قادة البلاد تحت وطأة دين خارجي هو الأكبر في افريقيا، ويجد صعوبة أكيدة في توحيد جنوبه المتمرد، ويكاد أن ينوء بتكاليف المدعوين واقامتهم وهو يفتقر إلى الوسائل التقنية والمالية وغيرها وهذه الوسائل ليست تفاصيل تافهة في مواكبة عمل ذي خصائص أممية. 2- ما زالت لقاءات الخرطومالأممية حتى الآن، قائمة على "فعل الايمان" الذي يحمل البعثات الإسلامية المختلفة على الحضور إلى العاصمة السودانية والادلاء بمواقف وآراء مختلفة ولعل ذلك لم يثبت قدرة هذه الأممية على التأثير على مجريات أمور يشهدها العالم الاسلامي الواسع الأرجاء. فالمؤتمر لم يحالفه الحظ في التدخل الفعال لانهاء حالة الصراع في أفغانستان أو الصومال أو الجزائر، ولم يتمكن من بلورة دور عملي في البوسنة أو الشيشان، ولم يتمكن حتى الآن من القيام بمبادرة سياسية واحدة ومواكبتها بسبب افتقاره إلى الوسائل التنظيمية والأدوات الضرورية في العمل السياسي وربما لأن ذلك يتطلب امكانات هائلة لا تعوضها تبرعات المؤتمرين بآلاف قليلة من الدولارات أو التدخل المحدود من القطاع الخاص السوداني لهذا الغرض، كل ذلك يجعل من هذه الأممية اطاراً عاماً غير ملزم ويقتصر على التشاور واللقاء والتعارف. غياب مؤسسين 3- لم يبق من مؤسسي المؤتمر الأول 1991 إلا قلة من الاعضاء. كان أبرزهم ياسر عرفات الذي أصبح في وادٍ سياسي آخر وتعرض لهجوم لاذع من الوفود بما فيها الفلسطينية، وقد وردت توصية ختامية صريحة بإدانة اتفاق اوسلو ومفاعيله، وكان قلب الدين حكمتيار عضواً مؤسساً غاب عن المؤتمر الأخير ليمثله شاب طاجيكي من اعضاء حزبه فيما انتقل التمثلي الأساسي لصالح جماعة رباني. وكان راشد الغنوشي مؤسساً ثالثاً لكن استجابة السودان للضغط العربي والدولي حالت دون حضوره، وكان جورج حبش ونايف حواتمة من المؤسسين الأوائل الذين غابوا عن هذا المؤتمر بسبب الغلبة الكاسحة على حضوره لبعثات مسلمة غير عربية وتراجع التمثيل العربي فيه. الأمر الذي انعكس في هذه الدورة بمطالبة المؤتمرين بتغيير الاسم ونزع كلمة "العربي" منه ليصبح "المؤتمر الشعبي الاسلامي". هذه الحركة الغريبة في التمثيل لا توحي باستقرار الاطار العام وتجعله بمثابة المحطة التي ينزل فيها ويخرج منها مسافرون وقت الحاجة لا فرق في ذلك ان كانوا من جنسيات متعددة أو من جنسية واحدة. 4- لا يملك المؤتمر وسائل الزام كتلك التي كانت تملكها الأممية الشيوعية فوسيلة الالزام الوحيدة فيه هي إرادة الاعضاء واختيارهم وإذا كانت الدورة الأخيرة قد قررت انشاء تنظيمات تبشيرية وأخرى متصلة بحقوق الانسان والمرأة وفروع له في عدد من الدول، فإن وقتاً طويلاً يجب أن يمر لمعرفة مصير هذه التنظيمات وكيفية تمويلها وتحريكها ومدى فعاليتها. في ضوء ذلك كله تبدو أممية الخرطوم مستقرة فقط في ما يتصل بانتظام عقد دوراتها ومواصلتها استقبال بعثات ووفود من مختلف انحاء العالم وذلك لا يكفي لدخولها التاريخ بوصفها أممية وارثة للأممية الشيوعية المنهارة فهي ما زالت تقف على الرصيف بانتظار قطار قد يأتي وقد لا يأتي في الموعد المضروب. مكاسب للسودان والترابي إن لم تصبح تنظيماً أممياً حقيقياً، فإن لقاءات الخرطوم تظل مناسبة لانعقاد رهانات كثيرة سودانية وغير سودانية، وهي على الأرجح كعيد "الاومانيتة" الشيوعي الفرنسي. تأتيه وفود من كل انحاء العالم فتوزع منشوراتها وتدلي بتصريحات وتستفيد من التغطية الاعلامية المكثفة لغرض قضاياها لكن الحزب الشيوعي الفرنسي يبقى النافذ الأول في هذا العيد ولعل السودان هو النافذ الأول في "عيد الخرطوم العالمي". في الدورة الطارئة الثالثة للمؤتمر الشعبي العربي الاسلامي التقى، كما في الدورات السابقة، ممثلون لمنظمات وهيئات اسلامية تعاني العزلة الشديدة في بلدانها أو أنها مستهدفة بطريقة دائمة من وسائل الاعلام الدولية وتلتقي الوفود المشاركة في السودان الذي يعاني اصلاً من عزلة خارجية سببها اختياره نظاماً سياسياً إسلامياً، فأي براعة تلك التي تفوق براعة جمع فرقاء معزولين واتاحة منبر واسع لهم للخروج من عزلتهم. من يستمع الآن باصغاء إلى الصوت الليبي أو الصوت العراقي وحتى الإيراني، ومن يصغي بانتباه إلى مظالم ابناء كوسوفو أو مسلمي البانيا أو الجماعات الاسلامية التركية في أوروبا أو إلى الصوت السوداني نفسه. لقد اجتمع كل هؤلاء في الخرطوم وقالوا لوسائل الاعلام الدولية نحن هنا، ولا يعدّل ذلك كثيراً من مصير قضاياهم لكنه يخرجها لبرهة من الصمت المطبق. بالمقابل يوفر اللقاء فرصة ذهبية لحكومة الخرطوم يمكنها الافادة منها في مجالات متعددة من بينها: 1- خروج السودان من تحت العباءة التقليدية واستعادته تقليداً محلياً معروفاً قضى في السابق بانتشار الحركات الدينية والصوفية. 2- مساعدته في مواجهة حركة التمرد في الجنوب ولعل توصيات المؤتمر لم تشر إلى هذه القضية بسبب تزامن انعقاده مع مبادرة جيمي كارتر لاعلان وقف النار في الجنوب والضغط على جون قرنق للقبول بها، والتمهيد للقاء مع الدكتور الترابي أواخر الشهر المقبل بحسب الأنباء التي انتشرت في الخرطوم. 3- لقد استطاع الترابي من خلال المؤتمر أن يهمش خصومه التقليديين في الأمة والاتحادي خصوصاً ان الأول كان على الدوام سوداني النزعة ومحلياً والثاني ينزع دائماً نحو الارتكاز على العلاقة مع مصر، فإذا بالترابي يصل بصوته إلى أبعد من حدود السودان وبالتالي ليساهم في كسر طوق العزلة عن الدولة السودانية. 4- يسعى الترابي من خلال المؤتمر إلى لعب دور اقليمي أكيد في جوار سوداني تتآكله الحروب وعدم الاستقرار. ولعله ليس من باب الصدفة المحضة أن يعلن في الخرطوم عن فرز أصوات الناخبين في محافظة حلايب المتنازع عليها مع مصر في اليوم الأول لافتتاح المؤتمر. 5- مهّد الدكتور الترابي لانعقاد المؤتمر باعلان السودان خطوات انفراجية أكيدة مع بعض الدول الأجنبية القابلة للتعاطي معه. فكيف يمكن اتهامه بالارهاب وهو الذي سلم كارلوس إلى الحكومة الفرنسية. وكيف يمكن اتهامه بالارهاب وهو الذي استدعى وسائل اعلام دولية لحضور المؤتمر وتصوير المؤتمرين وبينهم من لا تكف وسائل الاعلام نفسها عن وصفهم ليل نهار بغلاة الارهابيين. الأمن الصارم في سعيهم لتوفير حماية ضيوفهم ومن بينهم من يتصدرون طلائع مجابهات عسكرية حاسمة، كان رجال الأمن يحصون أنفاس المدينة ويسهرون ليل نهار كي لا يقع حادث واحد يطيح بهذه المناسبة الثمينة بالنسبة للخرطوم وللأمين العام للمؤتمر. وعندما غامر رجل كهل في إحدى قاعات المؤتمر برفع نسخة للقرآن واطلق الصيحة المعروفة "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود" وكررها ثلاثاً أمام عدسات التلفزيونات الفرنسية، تدخل المنظمون بسرعة وبهدوء انسحب الرجل. كان كل شيء يسير بانتظام كعقارب الساعة في الخرطوم خلال الفترة التي انعقدت فيها جلسات المؤتمر الشعبي العربي - الاسلامي، هذه الورقة في التنظيم والأمن تعكس شيئاً هو الأبرز نعني بذلك طبيعة السلطة القائمة ومدى قدرتها وقوتها وأهليتها على استيعاب ممثلين عن 85 بلداً دون وقوع حادثة صغيرة واحدة... ما يعني ان على الذين كانوا يتوقعون من أن يكون الحكم السوداني الحالي طارئاً أن يعيدوا تقويم الحسابات. فالترابي يمسك بمفاتيح الخرطوم وأبوابها وليس هناك في الافق ما يحمله على تسليمها لأية جهة أخرى.