في وقت يتصاعد الحديث عن "التهديد الاصولي" للغرب و"حلف شمال الاطلسي" يبدو العالم الاسلامي مخترقاً بصراعات مذهبية خطيرة. في ايام معدود تعرض "قوس الازمات" الشهير الى "فتنة جوّالة" انتقلت هذه المرة، الى تركيا البلد الذي يريد التسلّح بعلمانيته للانضمام الى الاتحاد الاوروبي. تحول "التنوع المذهبي" في باكستان الى "قتال شوارع" بين مجموعات سنية وشيعية، وهو قتال لا يعكس توترات سابقة بقدر ما يعلن دخولها في تصعيد جديد يصعب تقدير مداه. وفي افغانستان ضغط الاختراق الذي احدثه "الطالبان" على العلاقات الهشّة بين فصائل المجاهدين وتحول، في وجه منه، الى مواجهات مذهبية. وفي حين ارادت ايران التحذير من اي تعرّض للمجموعات الشيعية الموالية لها جرى تذكيرها بما شهدته بعض مدنها قبل فترة من اعتداءات طاولت السنّة، واماكن تجمعهم وعبادتهم. وفجأت سقطت الحصانة التركية ليتبين ان نار الفتنة قادرة على التمدد. أدى الهجوم الذي شنه مسلحون مجهولون على أحد المقاهي التي يرتادها ابناء الطائفة العلوية في مدينة اسطنبول قبل عشرة ايام الى اندلاع اضطرابات عنيفة على نطاق واسع في المدينة والى اشتباكات بين ابناء الطائفة ورجال الشرطة خلّفت وراءها اكثر من عشرين قتيلاً وحوالي مائة وعشرين جريحاً. وكانت الاضطرابات بدأت الاحد في الثاني عشر من آذار مارس في حيّ غازي العلوي في المدينة فور انتشار نبأ الهجوم على المقهى الذي أودى بحياة اربعة اشخاص. وإثر ذلك اتسع نطاق الاضطرابات لتشمل المدن التركية الاخرى بما فيها العاصمة أنقرة. ومع ان العلويين يقولون ان عدد القتلى في اسطنبول وحدها بلغ ستة وعشرين فان المسؤولين يقولون ان عدد القتلى كان خمسة عشر شخصاً. لكن المراسلين يشيرون ايضاً الى ان اكثر من ثمانين شخصاً آخرين لا يزالون في عداد المفقودين. ومهما يكن الأمر، ومهما كانت الارقام فان هذه الاحداث تثير اسئلة خطيرة حول مستقبل استقرار تركيا وطبيعة العلاقة بين ابناء الأقلية الشيعية العلوية التي يزيد عدد افرادها على عشرين مليون نسمة وبين الاغلبية السنيّة والحكومة التركية. استخدام القوة وبينما يتهم العلويون قوات الشرطة بالإفراط في استخدام القوة ضد المتظاهرين يقول مسؤولو الامن انهم لم يلجأوا الى استخدام القوة الا بعد ان تعرضت قوات الامن لهجمات منتظمة من المتظاهرين. وهم يشيرون الى الصور التي بثها التلفزيون التركي لتلك الاشتباكات واليافطات التي حملها المتظاهرون مثل: "الموت للفاشية" و"رجال الشرطة قتلة ومجرمون"، والى لجوء المتظاهرين الى استخدام الحجارة والعصي والقنابل الحارقة ضد سيارات الشرطة. كذلك ذهب وزير الداخلية ناهد مانْتَشي الى حدّ اتهام "قوى خارجية بتنظيم تلك المظاهرات والحوادث". ولكن برغم اعلان احدى المجموعات الاسلامية المتشددة مسؤوليتها عن الهجوم على المقهى في اسطنبول، وهو الشرارة التي أدت الى اندلاع موجة العنف الحالية، فان العلويين، لا سيما الحركيين والنشطين منهم، يشكّون في ذلك ويصرّون على ان الشرطة هي المسؤولة. والاحداث الاخيرة هي اخطر اضطرابات تشهدها تركيا منذ حادث احراق الفندق الذي كان يجتمع فيه مئات من المثقفين والصحافيين ورجال الفكر العلويين في مدينة شيثاس عام 1992 مما أدى آنذاك الى مقتل 37 منهم. ومع ان السلطات سارعت بعد احراق الفندق الى لوم الاسلاميين المتشددين فان العلويين يلومون المسؤولين على التقاعس الذي أظهروه في محاكمة المسؤولين عن الحريق. الخوف من مضاعفات ويشعر خبراء الامن الآن ان احداث هذا الشهر ستؤدي الى مضاعفات خطيرة، كما ان السلطات التركية تخشى من انتشار الهجمات الانتقامية لتشمل العواصم الاوروبية حيث يعيش آلاف العلويين. ومما يثير قلق الحكومة ايضاً ان الازمة الراهنة ربما تخرج عن زمام السيطرة لتزيد من الانتقادات التي تواجهها من حكومات الاتحاد الاوروبي وبالتالي من المصاعب التي تعترض المساعي التركية للانضمام الى الاتحاد. ويؤلف العلويون الاتراك ثلث سكان البلاد. لكنهم يقولون، مثلما يقول الاكراد الذين يزيد عددهم على 12 مليون نسمة، انهم لا يتمتعون بحقوق مساوية لتلك التي يتمتع بها ابناء الأغلبية السنيّة. اذ ان اكثر من اربعة عشر ألفاً قتلوا خلال السنوات العشر الاخيرة في جنوب شرق تركيا حيث تخوض القوات التركية حرباً لا هوادة فيها ضد المقاتلين الاكراد. وفي بداية العام الحالي اتهم العلويون قوات الحكومة بإجلاء السكان عن اكثر من 35 قرية علوية في محافظة تونشيلّلي. وانطلاقاً من احساس العلويين بالظلم بدأوا خلال العقد الماضي في تصعيد حملتهم الرامية الى تثبيت هويتهم التاريخية. فهم يقولون انهم يتوقون الى التعبير عن انفسهم بحرية كاملة والحصول على ما يصفونه ب "الحقوق الكاملة التي يتمتع بها السنّة". وهم يدّعون انهم محرومون من حقوقهم الدينية الاساسية ويتعرضون الى "حملة اضطهاد خفية" من اجل دمجهم في هوية الاغلبية. وخلال السنوات الثلاث الماضية عقدوا مئات من المؤتمرات والاجتماعات لمناقشة "ما هي العلوية الحقيقية"، هل هي ثقافة أم طائفة أم مذهب، وما هو الدور الذي ينبغي عليها ان تقوم به في آسيا الصغرى، كما انهم بدأوا يناقشون افضل السبل لتمثيلهم في المؤسستين التركيتين: السياسية والدينية. ومن هذا المنطلق اخذ العلويون خلال السنوات القليلة الماضية يلحّون على الحصول على عدد من المطالب التي تكشف عن طبيعة المشكلات التي يواجهونها مما سلّط الاضواء على الازمة التي ستواجه البلاد وتعرض استقرارها للخطر اذا لم تستجب السلطات لتلك المطالب. لائحة مطالب ومن اهم هذه المطالب ما يتصل بمديرية الشؤون الدينية التي تديرها الحكومة. اذ ان العلويين يعترضون بشدة على اشراف "الدولة العلمانية" على هذه المديرية وعلى تخصيص ميزانية ضخمة لها مع انه ليس للعلويين اي تمثيل فيها برغم عددهم الكبير. وهم يحاججون بأنهم لا يريدون تمويل هذه المديرية كدافعي ضرائب لأنها مقصورة على ابناء الاغلبية التي يدّعون انها تسعى الى صهرهم فيها. كذلك يطالب العلويون بإلغاء دروس الثقافة الدينية الاجبارية في المدارس، ويعترضون على تعيين أئمة وخطباء سنيين في مساجدهم. وهناك مشكلة اساسية اخرى تواجه العلويين في تركيا وهي الطريقة التي تصنفهم بها الغالبية سياسياً. فخلافاً لايران حيث يتجه الشيعة نحو المبادئ الاصولية للاسلام نجد ان العلويين في تركيا يعربون عن توجهاتهم الاشتراكية ونزعاتهم المناوئة للمؤسستين السياسية والدينية. ولهذا فان الاتراك السنّة يصنفون العلويين بشكل عام على اساس انهم "ليبراليون" او "يساريون" كما ان الغالبية تهاجم العلويين بسبب "اباحيتهم وانفتاحهم الجنسي". وحتى هذه الايام هناك الكثير من العائلات المنتمية الى الاكثرية ترفض السماح لأبنائها وبناتها بالزواج من العلويين. ويتهم العلويون الدولة بأنها تريد انهاء مذهبهم ويقول نجاة بيردوغان الباحث العلوي الذي نشر عدة كتب عن العلوية في الاناضول "ان العلويين يتعرضون للاضطهاد باستمرار. ولهذا السبب نرى انهم اما ان يقاوموا الضغوط التي تمارسها السلطة عليهم، او ان يلتفوا حول الذين يقاومون تلك الضغوط. وفي هذا ما يبيّن لماذا كان العلويون يؤلفون الغالبية العظمى من الناس الذين قاوموا الضغوط الحكومية المختلفة في عهد ما قبل الانقلاب العسكري عام 1980". ويشير بيردوغان ايضاً الى ان الطائفة العلوية كانت خارجة على النهج الديني المألوف طوال عصور التاريخ وانها كانت "تتمرد دائماً على سلطات الدولة السنيّة". وهكذا فان الاضطرابات الاخيرة، برغم عنفها وضحاياها، ليست تطوراً جديداً في تركيا. اذ سبق لتركيا ان عانت الكثير من هذه التحاملات. ففي عام 1979 وصلت البلاد الى شفا هاوية الحرب الاهلية بين السنّة والعلويين عقب الاشتباكات التي وقعت بين الطرفين في مدينة خرامانْماراش ما أدى آنذاك الى مقتل 117 شخصاً. وفي عام 1980 قتل 63 شخصاً في مدينة قوروم بأواسط تركيا عندما هاجم السنّة بعض الاهداف العلوية. وفي العام نفسه قتل عشرون شخصاً في مدينتي مالاطيا وشيقاس العلويتين. ولم تنته الازمة الا بوقوع الانقلاب. لقد أثارت الاحداث الاخيرة مشاعر القلق بين المسؤولين الاتراك الى درجة انهم سارعوا الى ارسال قوات الجيش الى شوارع اسطنبول وغيرها من المدن التركية لاحتواء الازمة وتفادي اتساع نطاق الاشتباكات. وهناك في تركيا الآن من يقولون ان عناصر معينة تحرض على إثارة هذه الفتنة التي تهدف في رأيهم الى وأد الديموقراطية التركية الفتيّة، وهم يقارنون بين الاجواء التي تسود البلاد الآن وتلك التي عاشتها تركيا قبل حدوث الانقلاب العسكري في اواخر السبعينات.