بعدما استوضحت "الوسط" احوال السينما العربية بدءاً من باريس ومروراً بالدار البيضاء والجزائر وتونس، تستعرض في هذه الحلقة الرابعة الحالة السينمائية في لبنان في زمن شهد رحيل مارون بغدادي، وينتظر فيه برهان علوية فرصة لتحقيق مشروعه المقبل عن جبران خليل جبران. ربما كان من مساوئ الجغرافيا انها لا تعبر عن هذا الأمر بما يكفي من الدقة، فتونس هي احد البلدان العربية الاكثر بعداً عن لبنان. وللوهلة الاولى قد يصعب العثور على ما يقرّب بين هذين البلدين. ومع هذا لو تأملنا الامور عن قرب وقرأنا العلاقة بين البلد الاكثر تحرراً في افريقيا الشمالية، والبلد الأكثر تقدماً في المشرق العربي لعثرنا على العديد من القواسم المشتركة، في اخلاق المواطنين كما في إبداع المبدعين، في التطلعات والمخاوف السياسية كما في الآفاق الاقتصادية، ناهيك عن تشابه الموقع الجغرافي بالنسبة الى علاقة كل من البلدين بالبحر الابيض المتوسط. في مثل هذا الاطار لا يعود من الغريب ان يشعر التوانسة واللبنانيون، معاً، بكثير من الحنين حين يتحدثون، مثلاً، عن ذلك القاسم المشترك التاريخي الجامع بينهما: قرطاج التي كانت في الاصل مستوطنة فينيقية. غير اننا اليوم لسنا بحاجة للتوغل زمنياً في مثل هذا البعد للحديث عن التقارب، فاذا نحن اخذنا السينما مثلاً سنكتشف ان عالم السينما العربية انما اكتشف السينما اللبنانية الجديدة للمرة الاولى في قرطاج حين فاز فيلم برهان علوية "كفرقاسم" بالجائزة الاولى معلناً امام العالم كله ولادة ذلك التيار الذي سيظل برهان علوية الى جانب مارون بغدادي وجان شمعون وغيرهم، اعلامه الكبار لفترة من الزمن طويلة. اليوم قد يبدو فوز برهان علوية ذاك، بعيداً جداً في التاريخ. فالحال ان مياهاً كثيرة جرت تحت الجسور منذ ذلك الحين والشيب ملأ شعر برهان علوية فيما أدى حادث مؤلم وغامض الى وفاة مارون بغدادي، ولبنان كله دُمّر. ومع هذا، ظلت ايام قرطاج وفية للبنان وسينماه، وفاء الجمهور التونسي لأغنيات فيروز ومارسيل خليفة وماجدة الرومي وجوليا ضو. لبنان، يمثل على الدوام مركز استقطاب لمحبة اهل تونس. وهو أمر برهنت عليه ايام قرطاج الاخيرة، التي شاءها مدير المهرجان احمد بهاء الدين عطية ومعاونوه، اياماً مطبوعة بطابع لبناني واضح.. فكان ان أتت تلك الايام، قبل شهور من الآن، عيداً حقيقياً للسينما اللبنانية. ولئن كان الغائب الاكبر في تلك المناسبة هو برهان علوية، فان الحاضر الاكبر كان مارون بغدادي الذي نظم المهرجان تحية لذكراه، عروضاً للعديد من افلامه الاساسية في حضور زوجته ثريا، بطلة "حروب صغيرة" وفي حضور العديد من اصدقائه. وكان ذلك التكريم مناسبة دفعت الكثيرين للتساؤل حول ظروف رحيل ذاك الذي كان كثير الوعود، والاكثر انطلاقاً صوب العالم، من بين كافة السينمائيين العرب. انتهت الحرب.. حقاً؟ ولعل ما أثار الشجن اكثر من غيره، ان الكثيرين ادركوا ان مارون بغدادي قد رحل فيما كان يحاول عودة سينمائية الى لبنان بعد غياب. مهما يكن فان هذه "العودة" كانت هي ما لفتت نظر جمهور قرطاج اكثر من غيره، حتى ولو كان الكثيرون يتوقعون عودة ما، لمخرج من طينة برهان علوية. ف "العودة" هي السمة التي غلبت على معظم الافلام اللبنانية التي عرضت خلال مهرجان قرطاج، وكان عددها سبعة افلام، مما جعل السينما اللبنانية - حتى خارج اطار تكريم مارون بغدادي - تحوز على الحضور الاكثر لفتاً للنظر في تونس. ولو لم يكن سرور التوانسة بذلك ليقل عن سرور اللبنانيين. وسواء أتت السينمائية ليلى عساف من السويد، او ديما الجندي من بروكسل او أتى جان كلود قدسي وأولغا نقاش وسمير حبشي من بيروت، او اتى جان شمعون من لندن، وأتت جوسلين صعب من مكان ما في بداوتها بين بيروتوفرنسا، خصوصاً من قلب الذاكرة السينمائية لبيروت، فان افلام هؤلاء جميعاً بدت عابقة بفكرة العودة تماماً على غرار ما هجس به فيلم مارون بغدادي الذي لم يتحقق "زوايا". بالنسبة الى السينمائيين اللبنانيين انتهت الحرب. ويمكن لسينماهم اليوم ان تعبّر عن ذلك الانتهاء. والتعبير عن مثل هذا الامر يحتاج الى جيل جديد، يشعر انه منعتق تماماً من كل ما شكل ذاكرة الحرب، وما هجست به افلام الجيل الذي شكل برهان علوية ومارون بغدادي وجان شمعون وحتى جوسلين صعب علاماته الاساسية. والحال ان عروض قرطاج الاخيرة اكدت على ان هذا الجيل بات موجوداً حتى ولو غاب بعض رموزه من اولئك الشبان الذين لا يزال الواحد منهم يسعى الى تحقيق فيلمه الاول، والذين من المؤكد ان السنوات المقبلة سوف تكشف لنا عن اسمائهم وعن الجديد الذين سيحاولون ادخاله في الحياة السينمائية اللبنانية، وربما العربية ايضاً. والمدهش في هذا كله ان لبنان، رغم كل شيء، لا يزال قادراً على انتاج الاجيال المتتالية من السينمائيين، الاجيال التي تأتي من كل مكان، وربما تذهب الى اي مكان، لكنها في طريقها وفي عبورها تنتج تلك السينما التي تفاجئ. وسينما الجيل اللبناني الجديد، سينما تفاجئ. وتفاجئ اولاً بسبب قدرتها على تجاوز ذاتها وخوض لعبة التعبير حتى ولو باللجوء الى ابسط الوسائل الممكنة. فبوسائل الحدّ الادنى تمكنت اولغا نقاش، الآتية الى الاخراج من الانتاج، من تحقيق فيلمها الاول "لبنان قطعة قطعة" الذي تمكنت فيه من ان تقول لبنان ما بعد سكوت المدافع، من خلال التقائها اعني التقاء عين كاميرتها هي "العائدة" الى لبنان بعد غياب، بعدد من رفيقاتها وسؤالهن عن احوالهن. عودة اولغا الى لبنان، والتقاؤها بالذين لم يرحلوا اتاح لنا ان نطلع على رحلة شيقة يقوم بها الفيلم في العديد من الذهنيات، في اسلوب يبدو للوهلة الاولى محايداً، حيث يخيل الينا ان اولغا نقاش في توجهها "المينيمالي" انما اكتفت بتركيز الكاميرا على وجوه تقول الوقائع اللبنانية الراهنة، من بشارة الرافض للعروبة الى محمد المدافع عنها الى وفاء الباحثة عن افق الى اميرة المتيقنة من انسداد هذا الافق الى فتاة الشرقية التي لن تتزوج مسلماً مهما كلّفها ذلك، الى استاذة المدرسة الرائعة التي تحمل جزءاً كبيراً من الفيلم عن كاهليها وتقول لنا آلام جيل بأسره وخيباته وغضبه دون ان يغيب عن بالها انها ليست قادرة الا على الصراخ في البرية، وصولاً الى تلك الصورة. الممزقة، التي اكتشفت ذات يوم اطفال المسلمين فراحت تسائل تاريخها البسيط بغضب. خيالات بيروت الذاكرة فيلم اولغا نقاش ذو بساطة خادعة، وهو من الصعب ايراده في خانة السينما المسماة تسجيلية، لأن مخرجته عرفت كيف تتعامل مع شخصياتها وكأنهم ممثلون يعيدون امام الكاميرا تمثيل دورهم الحقيقي في الحياة. وفي هذا اشارة لا تخطئ الى ان اولغا نقاش لو شاءت الخوض في السينما الروائية سيمكنها ذلك حتى ولو واصلت اسلوبها "المينيمالي" اي اسلوب التقشف والحدّ الأدنى. "لبنان قطعة قطعة" هو فيلم اولغا نقاش الاول. وهو واحد من خمسة افلام "اولى" عرضها قرطاجللبنانيين ولبنانيات. مما يؤكد مرة اخرى ان الجيل البديل بات جاهزاً. ومن ابناء هذا الجيل ديما الجندي التي حاولت في فيلم "بيني وبينك بيروت" ان ترسم هي الاخرى مسيرة عودة ولقاء. واللقاء هنا هو بين اختين: ديما نفسها التي توجهت منذ بداية الحرب لدراسة السينما في بروكسل، وريم التي بقيت في بيروت لتصبح رسامة معروفة. من خلال اللقاء والتصادم بين الاختين، كما من خلال بعض التفاصيل الاخرى حكاية صبية حوّلتها الحرب والفقر الى زعيمة عصابة وهي بعد في اوائل سنوات المراهقة، حكاية الصبي حسين الذي يسرح في وسط المدينة المهدّم وكأنه مملكته الأبدية، وحكاية المقاتل الذي لا يكف عن ابداء حنينه لسنوات الحرب …الخ، من خلال هذا كله تنقل الينا ديما الجندي نظرة جيل بأسره الى لبنان الحرب وما بعد الحرب، على مدى ساعة حميمة ثاقبة وواعدة في الوقت نفسه. ليلى عساف قد تبدو مخضرمة اكثر من غيرها، وقد تبدو نظرتها الى لبنان اكثر ابتعاداً، هي التي تعيش في السويد منذ اواسط الستينات، ويبدو انها منخرطة هناك في عمل سينمائي وتلفزيوني احترافي، وان اهتمامها بتصوير فيلم عن لبنان جاء عرضاً، ومن دون ان تكون لديها معلومات كافية عما يحدث. هي اختارت حكاية "الشيخة" اي زعيمة العصابة الطفلة نفسها التي نراها في فيلم ديمة الجندي، لتحولها الى فيلم نصف - روائي /نصف - تسجيلي لم يلفت الانظار بما فيه الكفاية، الا من ناحية انتمائه الى سينما المرأة و4 من الافلام اللبنانية كانت افلام نساء، وكونه يعكس تلك البداوة الدائمة التي تعيشها السينما اللبنانية. المرأة الرابعة هي جوسلين صعب، بعد ان حققت جوسلين العديد من الافلام التسجيلية على مدى سنوات الحرب اللبنانية، وبعد ان حققت قبل سنوات فيلماً روائياً طويلاً عابقاً بالطموح "غزل البنات" تقدم هنا على مغامرة في منتهى الطرافة، من المؤسف انها لم تتمكن من استكمالها اسلوبياً، فيلم جوسلين صعب هو فيلم عن ذاكرة بيروت، وتحديداً عن ذاكرتها السينمائية. فيه يختلط الخيال بالواقع والسينما بالحياة، عبر حكاية فتاتين تلتقيان عارض افلام فتتبادلان معه عروض ما يملكونه جميعاً من مشاهد افلام صُوّرت في بيروت على مدى العديد من العقود. عروض هذه المشاهد كشفت عن ثراء الكنز الذي تملكه جوسلين وتستعين به: عشرات المشاهد المعبّرة والطريفة المصوّر معظمها في بيروت مما يقودنا، ويقود فناني الفيلم ميشال تيان وميرنا معكرون في رحلة عبر ذاكرة مدينة لم تعد موجودة الا في صورتها، وفي صورتها الأكثر ابتذالاً افلاك الكيتش المصرية والايطالية التي صورت في تلك الأحايين. مشكلة الفيلم ان مخرجته لم تعرف، الا في بعض اللحظات الجميلة، كيف تستفيد حقاً من الكنز الذين بين يديها وكيف تربط بشكل خلاّق بين صورة بيروت وذاكرتها فأتى الفيلم مفككاً بطيئاً، مما أساء حتى لبعض اكثر لحظاته جمالاً وخيالاً: الفتاتان في بيروت الثلاثينات، التمازج في فيلم من طراز جيمس بوند بين مشاهد الفيلم وتداخل الفتاتان فيه على طريقة غودار. مثل هذه المشاهد قالت لنا ان جوسلين صعب كان بإمكانها ان تحقق فيلماً متميزاً واكثر اقناعاً في "تخريفه" لو انها اشتغلت عليه بشكل افضل ولم تكتف بالثراء الغاص للمشاهد التي عثرت عليها. طفل في داخل كل منا هذه التخمة في فيلم جوسلين صعب الضائع بين التخييل والتسجيل وهو ضياع لا يمكن اعتباره مأخذاً على الفيلم على اي حال، تقابلها صرامة في اسلوب جان شمعون في فيلمه الجديد "رهائن الانتظار". في هذا الفيلم، الذي يمكن اعتباره من افضل ما حققه شمعون حتى اليوم، يخطو صاحب "احلام معلّقة" و"زهرة القندول" خطوة اساسية على طريق تحقيق حلمه القديم: حلم السينما الروائية. فليس سراً ان شمعون علم بفيلمه الروائي الاول منذ عقدين من السنين، دون ان تمكنه نجاحاته المتتالية من تحقيق ذلك الحلم. لماذا؟ لا يجد جان شمعون جواباً، يعرف فقط انه كان عليه ان يبادر منذ زمن بعيد "فأنا" يقول جان شمعون "انتمي الى ذلك الجيل الذي بدأ حتى من قبل اندلاع الحرب اللبنانية، ترسيخ اساليب سينمائية جديدة تتناقض كلياً مع ما كان سائداً من سينما لبنانية، لكن سنوات الحرب والواقع الذي عشناه، وتبدى لي دائماً، وكأنه يفوق الخيال عمقاً وتعبيراً، قادني على الدوام الى سينما تستشف ذلك الواقع وتحاول ان تسجله على الشريط. اليوم يبدو لي ان ثمة مرحلة في حياتي قد انتهت وان عليّ اخيراً ان اعود الى داخلي والى مخيلتي". يفكر جان شمعون اليوم بفيلم عن طفل يعيش قبل الحرب وعلى مشارفها، وربما كان هذا الطفل هو جان نفسه، الذي يبتسم ويقول: "على اي حال ثمة في داخل كل منا طفل بحاجة لأن يقفز ذات لحظة الى الشاشة لعل تصادفنا مع صورته يوصلنا اخيراً الى مرحلة البلوغ". في انتصار تلك القفزة يحلّق جان شمعون في "رهينة الانتظار" عالياً بالنسبة الى ما كان يمكن لنا ان نتوقعه في فيلم تسجيلي. فهو هنا يأتي بطبيبة شابة تعكس في حدّ ذاتها حالة براءة لبنانية متكاملة، ويأخذها معها الى الجنوب، والى مخيمات الفلسطينيين في الجنوب ويتساءل شمعون: هل لا يزال ثمة من يتذكرهم في خضم ما نعيش؟، والى السجالات المحتدمة ليقول لنا: ولكن من قال ان الحرب انتهت؟ فالامور منظور اليها من بيروت او من اوروبا، هي - بالتأكيد - غيرها منظوراً اليها من الجنوب، او من داخل مخيم فلسطيني، او من بيت يطلّ على مواقع عسكرية صهيونية، او نقاش حاد بين شقيق اسلامي، وشقيقته العلمانية. بيد ان اهمية هذا الفيلم لا تنبع فقط مما يقوله، بل من الكيفية التي يتبدى فيها قوله هذا: جان شمعون يتعامل مع شخصياته تعامل مخرج الافلام التخييلية وكاميراه لا تسجل فقط، بل تختار بدقة زوايا النظر في "ميزانين" متميز ومدروس بعناية، يقول لنا الكيفية التي ستكون عليها سينما جان شمعون الروائية، بعد عشرين عاماً من بدايات تبدت على الدوام مترددة وواعدة في الوقت نفسه. اعصار يقود البريء الى القتل جان كلود قدسي، بدوره، انتظر عشرين سنة قبل ان يقدم لنا فيلمه الروائي الاول "آن الأوان". هذا الفيلم هو، الى فيلم سمير حبشي "الاعصار" الوحيد الروائي بكل صراحة. اما القاسم المشترك بينه وبين الافلام الاخرى، فهو مسألة العودة، فهنا مرة اخرى لدينا عودة الى الوطن، بعد انقضاء الحرب، وهي عودة مزدوجة: موسيقي شاب غاب لفترة طويلة عن بيروت في باريس، وسيدة مجتمع تعود هي الاخرى بعد غيبة للبحث عن ابنها الذي تعتقده مخطوفاً. بشكل حتمي يلتقي هذان العائدان في طريق العودة، ويعيشان مغامرة يتخللها صلح مع الوطن، لكن كذلك انكشاف كافة ضروب العجز: فالشاب عاجز عن التكيّف مع الوطن وأهله، وعن تحقيق المشروع الموسيقي الذي عاد مُكلفاً به، وهي عاجزة عن استعادة ماضيها، خصوصاً وان الواقع يكشف لها ان ابنها الذي كانت تعتقده مخطوفاً لم يكن مخطوفاً، غير ان عودة الاثنين تتيح لهما نوعاً من استعادة الوطن واستعادة الماضي، حين تسأل جان - كلود قدسي عما اذا كان من شأنها ان توصلهما الى مكان يجيبك ببساطته المعهودة "ليست رغبتي هنا ان اصل بهما الى مكان خارج عودتهما. المهم بالنسبة اليّ هي هذه المجابهة مع الوطن بعد فراق. والمجابهة مع الوطن هي مجابهة المرء مع تاريخه. فيلمي هو اشبه بتعويذة ذاتية تتساءل عن امكانية العودة من دون المجازفة بتلقي المزيد من الجراح". جان - كلود قدسي، الذي كان من الجيل المؤسس للتيار الجديد في السينما اللبنانية، ورغم انه انتظر عشرين عاماً قبل ان يحقق فيلمه الاول، لا يحمل اوهاماً كبيرة حول الامكانات المتاحة للسينما اللبنانية ويقول "سيظل علينا، خارج امكانات وجود اسواق حقيقية لسينما لبنانية حقيقية، ان نعتمد على شتى انواع الانتاج المشترك من دون ان تتوقع لأي من افلامنا ان يكون صفقة رابحة في نهاية الامر". الانتاج المشترك هو، على اي حال، ما أتاح لسمير حبشي ان يحقق فيلمه الاول "الاعصار" وهو، في كل المقاييس، افضل ما حققه سينمائي لبناني ينتمي الى الجيل الجديد. فحبشي الذي درس السينما في موسكو، والذي يتحدث فيلمه، هو الآخر، عن عودة ما الى لبنان، يتبدى منذ فيلمه الاول هذا، ناضجاً متمكناً من فنه وقادراً - وان بحدود - على ادارة ممثليه، وعلى السير بموضوعه حتى نهايته المنطقية، مع غمزات اسلوبية ناحية سينما جورجية يبدو ان حبشي متأثر بها. فيلم "الاعصار" فيلم روائي عن طالب مسالم يعود من موسكو الى لبنان في خضم الحرب والقتل، ليجد نفسه وقد انخرط بدوره في لعبة العنف بشكل تدريجي انما متسارع. في "الاعصار" كليشيهات طبعاً، ولكن فيه لحظات في غاية القوة والتعبير ومنها مثلاً دقائقه الاخيرة حيث يطلق الطالب العائد رصاصاته في اتجاه الفضاء، ومنها مشهد الكنيسة وقد دخل المسيح المتخيّل في ملابس رجل ميليشيا، ومنها مشاهد المجازر الجماعية والجنازة الراقصة مشهد يليق ببارادجنوف حقاً. "الاعصار" الذي اثار سخط الرقيب اللبناني فأعمل مقصه في عدد من اجمل مشاهده، أثار اعجاب النقاد والمشاهدين في كافة المهرجانات التي عُرض فيها، خصوصاً في قرطاج. ولكن لئن كان هناك من أدهشه هذا الاجماع حول الفيلم، فإن هذا الشخص هو سمير حبشي نفسه الذي يقول مبتسماً بتواضع "… لكني كنت اعتقد انني انما اتمرن من اجل تحقيق فيلمي المقبل". لمن تصنع سينما؟ سمير حبشي منهمك الآن في التحضير لأكثر من مشروع، ومن بينها مشروع حياة الزعيم كمال جنبلاط. هل سيقيض له ان يحقق مشروعه هذا؟ بالنسبة الى "الاعصار" كان حبشي متطوعاً ويتوجه بناظريه ناحية اخرى… ناحية فرنسا مثلاً. "فرنسا مستعدة دائماً لمساعدة المشاريع اللبنانية الجديدة" يقول لك المنتج احمد عطية، مدير مهرجان قرطاج، الذي يبدي حماساً دائماً لكل ما هو جديد في السينما اللبنانية "ولكن المشكلة، يضيف، هي ان كل المشاريع التي قدمت للفرنسيين حتى الآن، مشاريع تتحدث عن عودة ما الى لبنان… ترى ألم تستكف العودة ما حقق عنها حتى الآن؟" في رأي احمد عطية يتعين على اللبنانيين ان يبحثوا عن مواضيع اخرى. ومن ذلك مشروع برهان علوية الجديد عن "جبران خليل جبران" هذا المشروع الذي لا يزال يتعثر حتى الآن على رغم كل وعوده وآفاقه. لماذا؟ يجيب برهان علوية الذي لا يخفي حماسته الشديدة لكل ما يحققه ابناء الجيل الجديد من السينمائيين اللبنانيين "بكل بساطة، لأن الطموحات التي يحملها السينمائي اللبناني، تفوق امكاناته". ولعل أشد ما يحزن برهان علوية في هذا كله ويثير قلقه، هو عدم وجود اي اهتمام حقيقي بالسينما في لبنان. تصوّر، يقول ملاحظاً، هناك في لبنان اكثر من خمسين محطة تلفزيون، اكثرها يعيش على عرض الافلام السينمائية القديمة المقرصنة في غالبيتها، لكن اياً منها لا يبدي ادنى استعداد للمساهمة، ولو الضئيلة، في انتاج اي فيلم". ومع هذا تتابع الاجيال، وثمة في قاعة الانتظار اليوم عدد كبير من شبان في العشرينات والثلاثينات من عمرهم يحمل كل واحد منهم مشاريعه وطموحاته. ويبقى السؤال حائراً: … ولكن لمن يصنع اللبنانيون افلامهم؟ في قرطاج العابقة برائحة حضور لبناني مزدوج: فينيقي قديم وسينمائي حديث، يأتي الجواب بسيطاً وعفوياً: للناس، لهذا الجمهور الذي يقدم على مشاهدة فيلم لبناني كما يقدم على سماع اسطوانة لفيروز او حضور حفلة لمارسيل خليفة. فهل يكفي تعاطف من هذا النوع للسير بسينما طموحة مثل السينما اللبنانية الى غاياتها المثلى؟ سؤال من الصعب العثور على جواب عنه. الحلقة المقبلة: من دمشق الى غزة