في مصر آلاف الاطباء ومئات الصيدليات تبيع الدواء، ومحلات العطارة التي فيها من الاعشاب الطبية دواء لكل داء، وعلى رغم ذلك هناك كثيرون يهجرون الطب والاطباء والعطارين، ويذهبون الى الخرافات والاساطير بحثاً عن العلاج. وثمة من يعتقد ان دقة الزار تطرد الارواح الشريرة من الجسد العليل، أو ان التبرك بأولياء الله الصالحين يشفي المريض، وقد اوضح كبار علماء الاسلام غير مرة ان الله وضع في الطب اسباب العلاج، وحذر الشيخ محمد متولي الشعراوي المواطنين من ظاهرة "التبرك بالأولياء"، مؤكداً "ان الله قريب الى عباده لا يحتاج الى وسطاء"، ومع ذلك فان ظاهرة العلاج بالاساطير ما زالت مستمرة. غاطس الشيخ مليك وتعتبر الاساطير التي تُروى حول غاطس الشيخ مليك هي الأشهر والاكثر جذباً لبسطاء وأميين يبحثون عن العلاج بعيداً عن الطب والأطباء، ويتوافد عشرات المواطنين، رجالاً ونساء كل يوم جمعة الى حي "المرج" في القاهرة، حيث يقع ضريح الشيخ مليك والى جواره بركة من الماء الآسن لكي يغطس فيها المرضى، وقد أشيعت حول مياه البركة اساطير في شفاء امراض الشلل والروماتيزم ولين العظام والامراض الجلدية. ويرجع هذا الاعتقاد الى العام 804 هجرية عندما هبط الى هذا الحي - كما يقولون - نعش طائر وفي داخله شيخ كبير مكفن بكفن اخضر، وتنبعث منه رائحة جميلة، حيث أقيم الضريح حالياً، ولم يستطع احد ان يحركه، وما ان انتهى الناس من بناء قبر فوق الجثمان حتى فوجئوا - كما يقولون أيضاً - ببئر ماء دافق يتلون الى سبعة ألوان زاهية، فهو في الصباح أبيض بلون اللبن، ووقت الظهيرة اخضر، وفي المساء تتماوج فيه أربعة ألوان، بالمصادفة وقع فيه مريض بالشلل، احتار اطباء ذلك الزمان في علاجه لسنوات، وما أن غمرته مياه البئر حتى شفي المريض، فذاع صيت البئر وأطلق الناس على مياهه وصف "الماء الشافي". والزائر الى البئر او الغاطس كما يسمونه يصاب بالدهشة لتلك الروايات التي يرويها الزائرون والمرضى، والتي تؤكد جميعها ان مياه البئر التي لا تتعدى مساحته متراً مربعاً، فيها معجزات خارقة في شفاء المرضى، لكننا لاحظنا ان الماء غير ملون بل هو ملوث، فسألنا الحاج ابراهيم البعلي الذي يقطن الى جوار البئر حول لون مياه البئر فقال: ان البئر تعرض للردم اكثر من مرة، واضطررنا الى جلب عمال البناء لاقامة حوض اسمنتي، غير انهم ما ان ألقوا الخرسانات حول البئر، حتى اختفى لون المياه، وصار طبيعياً. وعند اسماعيل عبدالغفار الذي يقطن ايضاً الى جوار البئر رواية اخرى يقول: ضاع لون ماء البئر منذ حوالي أربعة اعوام، لأن بعض الشباب هاجم المرضى، وحاول ردم البئر بدعوى انه من الخرافات التي لا تتفق مع معطيات هذا العصر. وبعد أيام من هذا الهجوم لاحظنا ان ماء البئر تحول الى اللون الطبيعي، وفقد ألوانه السبعة التي كانت تميزه في السابق. وتقول عنايات أبو الخير التي جاءت من اسيوط لعلاج ابنها المصاب بالشلل: لقد سمعت ان في مياه البئر علاجاً للمرضى، فحضرت الى القاهرة ومعي الصبي، وأتردد منذ مدة على البئر لأنه غير مسموح استعمال مياه البئر الا يوم الجمعة. لماذا؟ - مش عارفة، لكنني سمعت ان البركة تحلّ في المياه كل يوم جمعة، وعدا ذلك فان مياه البئر تكون عادية. ويزدحم المعتقدون بپ"الماء الشافي" بطريقة لافتة للنظر حول البئر، فيما ينظم عملية النزول الى الغاطس اربعة رجال اقوياء، يحصلون من كل مريض على بعض المال، ويقول احدهم "عبدالعال سيد احمد": ان اهل المريض يهبون لي بعض المال كنوع من الهدية او الهبة لكنني لا ألزم احداً او اجبره على دفع شيء، ونحن لا نسترزق من البئر لانني اعمل في مصلحة السكك الحديد، وأستغل يوم الجمعة الذي هو يوم اجازتي لكي انظم عملية النزول الى الغاطس حتى لا يغرق الاطفال، كما انني اساعد كبار السن في النزول والصعود. مراغة أبو العضام ما يجري في "المرج" لا يختلف كثيراً عن ما يحدث في محافظة القليوبية اذ تعد "مراغة أبو العضام" من اشهر المراغات حيث يأتيها المرضى من أقصى البلاد الى ادناها ليتمرغوا في تراب ضريح "سيدي ابو العضام" الذي يعتقد الجاهلون انه هو الآخر هبط الى هذه المنطقة طائراً بكفنه، وهبط على ترابها، وظل يتمرغ عليها، وجاء احد الاشخاص عام 1040 هجرية، ودفن الجثمان، وأقام له قبراً "ضريحاً" وعلم الناس بتلك القصة، فذهبوا - بدافع الفضول - الى القبر ليشاهدوه، فشعر المرضى منهم بدافع غير ارادي بالتمرغ في التراب دقائق عدة، لكنهم عادوا بعدها اصحاء، ومنذ ذلك الحين وحتى وقتنا هذا، فان المرضى يجيئون من كل مكان الى المراغة طلباً للعلاج. ويتفق عدد من المواطنين على ان في مراغة ابو العضام علاجاً للامراض النفسانية الاكتئاب - التوتر - القلق - التوجس كما فيها علاج للامراض البدنية، لا سيما الامراض الجلدية، ويقول سعيد رمضان وهو مهندس ميكانيكي: "لقد اصبت بمرض جلدي - الارتكاريا - منذ سنوات عدة، وكنت أقضي ليلي ونهاري في حالة سيئة وزرت اطباء كثيرين لكنني لم اجد العلاج الشافي سوى في مراغة أبو العضام حيث أتمرغ يوم الجمعة تحت أشعة الشمس، وأقوم مبللاً من العرق، فأجد نفسي اكثر ارتياحاً. وكم مرة جئت الى هنا؟ - احضر من قرية في محافظة البحيرة مرة كل اسبوع، وداومت على الحضور حتى الآن لمدة عامين. ولماذا لم تتوقف اذا كنت شفيت؟ - انني أرتاح لمدة أسبوع من الجمعة الى الجمعة وبعدها اجد نفسي في الطريق الى المراغة خشية ان يصيبني المرض مرة اخرى. ومن الذي دلك الى المراغة؟ - احد اقربائي دلني عليها عندما لاحظ ان حالتي الصحية تتدهور، وكنت أعود طبيباً في القاهرة عندما أشار عليّ قريبي بالذهاب الى المراغة، وعارضته في البداية على أساس انني متعلم ولا أعتقد في الخرافات، لكنه نصحني بخوض التجربة، وقد شعرت براحة جسدية عندما تمرغت في التراب. هل لديك تفسير علمي لهذه الراحة؟ - ليس لدي تفسير، المهم انني ارتحت ووجدت الدواء الذي لم اجده عند الاطباء. وإذا كان انتقال البركة - كما يعتقد الجاهلون - الى التراب او الماء الذي يحيط بالقبر يقتصر على عدد من الأولياء، الا ان انتقال البركة الى كسوة الضريح هو امر شائع بين عدد كبير من المصريين، الذين لجأوا الى نوع غريب من العلاج وصفوه بپ"الرقية". والعلاج ب "الرقية" التي هي قطعة من كسوة الضريح منتهى آمال المرضى الذين يعتقدون في الشفاء بهذه السبل. وفي يوم المولد من كل عام تستبدل كسوة عدد كبير من الاضرحة بأخرى جديدة، وفي هذا اليوم يكون الصراع محموماً بين تجار الكسوة الذين هم في الغالب خَدَمة الضريح، الجشعين، وبين المرضى المتلهفين، ويُفتح المزاد بعد تقطيع الكسوة الى اجزاء صغيرة، لا يتعدى الجزء الواحد منها حجم المنديل، وقد يصل سعرها الى عشرات الجنيهات، ومن اجلها يسافر المحتاج اميالاً طويلة، وعندما يفوز بها يحافظ عليها من البلل والعرق حتى لا تذهب عنه رائحة الولي وبركته، والطريف ان القطعة الصغيرة من كسوة الضريح تكون - احياناً - مصدر رزق لمن يفوز بها لأن المرضى في القرية، والقرى المجاورة يذهبون الى الشخص الذي يمتلكها ليمسحوا رؤوسهم وأجسادهم بها اعتقاداً منهم ان بركة الولي تنتقل من قطعة القماش البالية اليهم تشفيهم من امراضهم، وتفرج كربهم، ويظل هذا الاعتقاد عاماً كاملاً حيث ان البركة تذهب عنها بحلول موعد المولد الجديد. وصحيح ان وزارة الاوقاف منعت تغيير كسوة اضرحة المساجد الكبرى في القاهرة، مثل مسجد الحسين، والسيدة زينب، والسيدة عائشة، والسيدة نفيسة، ومسجد الامام الشافعي، الا تحت اشراف لجنة من الوزارة، لعدم الاتجار في كسوة الضريح، الا ان اضرحة المساجد المنتشرة في عدد كبير من القرى والمدن الصغيرة ما زالت تشهد هذه الظاهرة. وفي مولد "الشيخ سعدون" الذي يعقد سنوياً في مدينة بلبيس، ويتوافد عليه زوار من كل القرى المتاخمة، تجري مزادات سرية على قطع صغيرة من كسوة ضريح الشيخ، ويصل سعر القطعة الصغيرة احياناً الى الف جنيه مصري، وعلى رغم ان الشرطة تطارد هؤلاء المتاجرين والمدعين، الا انهم يتفننون في سبل التهرب لممارسة نشاطهم وسط إقبال متزايد من الأميين والمحبطين من الطب والاطباء. ولأن الحسد يقع في مساحة مهمة من الوجدان الشعبي العربي، فان له في اوساط الاميين ايضاً علاجاً، وإذا اصيب احد بمصيبة كبيرة او صغيرة، فقد يرجعها الى "عين أصابته" فالعين في المعتقد الشعبي "فلَقَت الحجر"، لذا "الرقية" هي الابداع الشعبي لعلاج المصابين بالحسد، وقد تخصصت في هذا الفرع من العلاج نسوة مسنات، ولا سيما الأرامل، بشرط ان تكون حافظة لنصوص الرقية الشعبية وهي طويلة وتحتاج الى صفحات. وللرقية طقوس لا بد من ادائها، فمثلاً تؤمر احدى الفتيات بجمع سبعة اعواد قش من أمام سبعة بيوت تحيط بمنزل المحسود قبل مغيب الشمس، ويجب ان لا تكلم جامعة القش احداً اثناء ذهابها وعودتها وإلا فسدت الرقية. ثم تأتي "الراقية" بالبخور وملح الطعام وقطعة من الشبّة وقصاصة من الورق، وتشكلها على هيئة عروس ثم تأتي بإبرة وتخز تلك العروس في رأسها وعينها ثم تطلق البخور، وتمرر العروس الرقية على جسد المحسود وهي تردد نصوص الحسد. الدجالون والطب ويفسر الدكتور حلمي شلتوت اخصائي الامراض الباطنة هذا النوع من العلاج بالأساطير والخرافات الى انتشار الامية والتخلف، غير انه يشير الى مجموعة حقائق ويقول: - "ان الطب موقع مفضل لممارسة الدجل، حيث تضيع القناعة - احياناً - في الاطباء لخطأ وقع من احدهم، او لقصور في الدواء عن تلبية ما يسعى اليه المريض من شفاء عاجل لمرض يحتاج الى علاج طويل المدى، والدجالون اغلبهم يحتالون باسم الدين ليس في البلاد العربية وحدها، وانما في اميركا وأوروبا ايضاً. ففي دراسة عسكرية اجازتها لجنة شؤون الدفاع في الكونغرس الاميركي نشرت في العام 1968 ورد ان السحر والعرافة والموروثات الشعبية هي ترسانة كاملة من السلاح يمكن الافادة منها في الحروب النفسية، وقد انتشرت هذه الأساليب حتى في بلد مثل انكلترا حيث يوصي الدجال مرضاه بحمل حبة بطاطس خضراء في جيبه تقيه من عذاب الروماتيزم". ويضيف الدكتور شلتوت: "ان بعض المرضى يقع في الايحاء النفسي، فيعتقد ان زيارة الى مراغة ابو العضام او بئر الشيخ مليك يمكن ان تشفي امراضه، لكنه في الواقع يصاب بأمراض اخرى نتيجة التلوث، فالبئر قذرة، ومياهها آسنة، ومع ذلك يغطسون فيها، ما يعرضهم لأوبئة وجراثيم، لكن من الصعب اقناع هؤلاء الناس بخطورة هذه الاماكن، لذا انصح بإغلاقها ولو استدعى الأمر تدخل الجهات المختصة". ويرى الشيخ محمد متولي الشعراوي "ان الذين يستغلون الدين، موهمين الناس بقدرات خارقة اجراها الله سبحانه وتعالى على ايديهم أو على ايدي غيرهم، واختصهم بها دون غيرهم انما هم يكذبون، وهم في هذا المقام لا حاجة بهم الى تعليل او تبرير، فإرادة الله لا نقاش فيها ولا سؤال ولا جدال، فهي فوق كل ارادة، هذا هو الحق الذي أريد به باطل، ففي مثل هؤلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تطبب ولم يُعلم عنه طب فهو ضامن" رواه أبو داود.