لا جديد ولا مفاجآت في المشهد الثقافي المغربي سوى الغياب. فلعبة الموت بلغت عام 1995 حدودها القصوى لتجعل منه، بكل المقاييس، عاماً "كارثياً" حين خطفت بتواطؤ مع الصمت والمرض ثلاثة من الأسماء المبدعة: الشاعر أحمد الجوماري، الشاعر الناقد أحمد المجاطي والشاعر الروائي محمد خيرالدين. ربما كان الجوماري الدار البيضاء - 1939 أقل الثلاثة شهرة خارج الحدود، مع انه بدأ النشر منذ 1960 وأصدر ديواني "اشعار في الحب والموت" و "أوراق الليل"، بينما تمكن ابن مدينته ومجايله المجاطي 1936 على الرغم من كونه مقلاً لم يخلف الا ديوانه الوحيد "الفروسية"، من الانتشار لا سيما في المشرق العربي، حيث درس في كلية الآداب في دمشق. كما حصل المجاطي على الاعتراف بعد فوزه بجائزة ابن زيدون للشعر التي يمنحها المعهد الاسباني العربي للثقافة في مدريد، وبجائزة المغرب الكبرى للآداب والفنون. أما محمد خيرالدين تافراوت - 1941 فكان الأكثر حضوراً، لكن في فرنسا وبين قراء اللغة الفرنسية التي اختارها منفى لأجمل نصوصه بدءاً برواية "أغادير" 1967 مروراً ب "الجسد السالب" 1968، "أنا الحامض" 1970، "النباش" 1973، "حياة حلم، وشعب في تسكع دائم" 1978 وصولاً الى رواية "أسطورة وحياة أكونشيش" 1984. عمل خيرالدين في بداياته الثقافية مع مجموعة مجلة "أنفاس"، الى جانب الشاعر عبداللطيف اللعبي، المصطفى نيسابوري، الطاهر بن جلون... قبل ان ينسحب الى باريس ويقضي فيها سنوات الستينات والسبعينات، وهناك اقام صداقات عميقة مع كبار الأدباء الفرنسيين أمثال سارتر وسيمون دوبوفوار وجان جينيه. أزمة اسمها النشر اللافت ان أعمال خيرالدين لم تترجم الى اللغة العربية، باستثناء بعض الفصول والقصائد المتفرقة في صحف مغربية وعربية. ووراء ذلك اسباب كثيرة لعل في مقدمها ازمة النشر التي تزداد تعقيداً مع نمو الانتاج الابداعي في المغرب. فإذا كانت القصيدة والقصة القصيرة تجدان مجالهما في الصحف والمجلات الثقافية، على قلتها وعدم انتظام صدورها، فإن أنماطاً اخرى كالروية مثلاً ترتبط بالكتاب. ومن هنا ندرة الاعمال الروائية المطبوعة. بل ان عام 1995 كان بالنسبة الى الرواية عاماً شحيحاً، اذ خلا تماماً من أي عمل روائي مغربي جديد. كما لو ان الجفاف الذي ضرب المغرب وجفف الزرع والضرع، أصاب ينابيع الابداع ايضاً. فالاصدارات الأدبية اقتصرت على بضع مجموعات شعرية وقصصية، وعدد قليل من الدراسات النقدية المترجمة في أغلبها. وبهذا الصدد، يمكن الاشارة الى مجموعتين قصصيتين هما "غريان" و "منزل اليمام". الأولى لمبارك الدريبي، وقد سجلت عودته بقوة الى الساحة الثقافية بعد قطيعة طويلة. فهو هجرها حين هجر مدينة القنيطرة، واختار العزلة والعمل اليدوي الشاق في قرية صغيرة نائية من دون ان يتخلى عن الكتابة التي تميز فيها من قبل. أما المجموعة الثانية فهي لمحمد عزالدين التازي الذي عرف بغزارة انتاجه، إذ أصدر حتى الآن مجموعتين قصصيتين وخمس روايات. عهد المسرح في مجال الترجمة ثمة نص يستحق التنويه، لما له من نكهة خاصة بين ما كتب عن المغرب من نصوص تخييلية، وهو "مراكشالمدينة" رواية الكاتب الفرنسي كلود أوليي التي ترجمها الناقد فريد الزاهي، وقدّم لها عبدالكبير الخطيبي بدراسة عنوانها "الكتابة على آثار الرجة". أما مجال النقد ف "احتكر" الناقد المسرحي حسن المنيعي الحصة الكبرى منه بكتابيه: "المسرح والسيميولوجيا" و "دراسات في النقد الحديث" ليدعم بذلك الحضور المتميز للمسرح المغربي. هل هي عودة الثقة بالمسرح المغربي؟ إن الاعمال الجديدة دليل على بداية عهد مسرحي واعد، مقابل تراجع ملحوظ في حركة الفن التشكيلي واقتصارها على عدد قليل من الاسماء الفاعلة بينها: محمد القاسمي، عبدالحي الديوري، عبدالله صدوق. والأمر نفسه يكاد ينطبق على السينما التي تشكو كالكثير من نظيراتها العربية ضعف البنى الانتاجية. وقد انحصر جديدها في ستة افلام قصيرة لفريدة بليزيد، مصطفى الدرقاوي، عمر الشرايبي، جيلالي فرحاتي، عبدالقادر لقطع وحكيم نوري. والقاسم المشترك بين هذه الافلام هو الاحتفال بمئوية السينما وهي المناسبة التي أعلن فيها عن افتتاح اول سينما مغربية. في العام 1995، تبارى الجميع ومن مختلف الاجيال، فقدم الطيب الصديقي وفرقته "مسرح الناس" مسرحية موليير، "حباً في الانسانية" التي أحرز على كتابتها "جائزة الاطلس". وأنجز الفنان المسرحي أحمد الطيب العلج بالتعاون مع الممثل حميدو بن مسعود العائد لتوه من مغتربه الفرنسي "الواسطة"، وذهب بها الأخير الى قرطاج لكنه لم يتمكن من عرضها هناك. كما أنجز عبدالحق الزروالي فنان المسرح الفردي "المحاكمة" التي تعتمد صيغة الحلقة التقليدية، واختار مدريد مكاناً لعرضها الاول. فيما قدمت فرقة "مسرح اليوم" مسرحية "عباس تيمورلنك" باداء ثريا جبران واخراج عبدالواحد عوزي. وفي هذا النطاق، نُظمت الدورة 13 ل "مهرجان أغادير المسرحي"، و "المهرجان الدولي الثامن للمسرح الجامعي" في الدار البيضاء، و "المهرجان الدولي الأول للفنون الدرامية" الذي نظمته الجامعة المغربية لمسرح الهواة في مدينة الجديدة الجنوبية وكرمت خلاله كلاً من فنان المسرح المغربي احمد الطيب العلج وعميد المسرح العراقي الفنان يوسف العاني. انتفاضة الطرب الموسيقيون وفنانو الاغنية المغربية فرضوا أخبارهم فرضاً. فالانشقاق الذي عرفته نقابتهم "اليسارية" الناشئة، ليس بالحدث العابر في مناخ تتجاذبه الاحزاب والايديولوجيات. وقد أعلن "المنشقون" عن انحيازهم لليبرالية، واختاروا المطرب المعروف عبدالوهاب الدوكالي نقيباً لهم. فيما تداعى "اليساريون" الى إعادة ترتيب أوضاعهم فوضعوا نقيبهم الشاعر احمد صبري في الصف الثاني مقدمين عليه الباحث الموسيقي أحمد عيدون الذي انتزع احد ألحانه الجائزة الثانية في "مهرجان القاهرة الدولي الأول للأغنية العربية" في أيلول سبتمبر الماضي. قلنا لا جديد ولا مفاجآت في مشهد 1995، ولم نكن نبالغ او نستبق النتيجة. فالوضع الثقافي يستمد حركته وقدرته على التفاعل، انطلاقاً من دينامية تفرزها أرض الواقع باشكالياتها وجذورها وثوابتها. وهذه الاشكاليات عبرت عن نفسها بضآلة الامكانات المادية المتاحة، وبالتالي ندرة اللقاءات والندوات المنفتحة على مختلف الفنون وليس على الاشكال الأدبية المعروفة. ولسنا بحاجة الى ضرب أمثلة كثيرة، إذ تكفي الاشارة الى ان الخطوة غير العادية التي دشن بها "اتحاد كتاب المغرب" عام 1995 باستضافته "المؤتمر التاسع عشر للكتاب والأدباء العرب"، و "المهرجان العشرين للشعر العربي"، والتي بعثت نسمة من التفاؤل بامكان الانفلات من هذا الوضع توقفت، بالسرعة نفسها التي اندفعت بها.