عاطف الطيب، المخرج المصري الذي فقدته السينما العربية وهو في شرخ شبابه، الصيف الفائت، كرم قبل أيام تكريماً جيداً يليق به، لكن التكريم لم يكن في القاهرة، ولم يكن في أي عاصمة عربية اخرى، ولا حتى في معهد العالم العربي في باريس، الذي اكتفى أخيراً على سبيل التكريم بعرض أربعة من أفلامه، بل كان في مكان آخر، في مدينة فرنسية جنوبية متوسطية، وجدت خلال مهرجانها السينمائي ان أفضل ما تفعله للتعبير عن تقديرها لعاطف الطيب ولفنه السينمائي، هو اقامة تظاهرة تكريمية له تأتي موازية لفعاليات المهرجان وتتواكب مع ندوة حول سينما عاطف الطيب. المدينة هي مونبلييه التي اشتهرت بجمالها وبجامعاتها وكذلك بمهرجانها السينمائي المتوسطي، الذي كانت دورته لهذا العام واحدة من أفضل دوراته، اضافة الى انها كانت بالنسبة الينا نحن العرب دورة شبه عربية، في كثافة العروض وفي كثافة الحضور، كما في النتائج النهائية للمهرجان حيث كان فيلم طويل من الجزائر وفيلم قصير من لبنان، صاحبي الحظ بالفوز بالجائزتين الأوليين. من كافة البلدان غير ان هذا لا يعني ان العرب كانوا وحدهم، او ان التكريمات اقتصرت على العرب، بل على العكس من ذلك، جاء المهرجان بأفلامه، في المسابقة وخارجها، من أكثر من عشرين بلداً، تنتمي جميعاً الى المنطقة المتوسطية، من ايطاليا الى اليونان ومن فرنسا الى المغرب والجزائر وتركيا وقبرص ولبنان، وكان الافتتاح من نصيب الايطالي ايتوري سكولا الذي عرض فيلمه الجديد "حكاية شاب بائس"، كما كان التكريم الأساسي لامير كوستوريتزا حيث عرض فيلمه الأول "هل تذكر دولي بل؟". وايتوري سكولا كان رئيس اللجنة التحكيمية، التي أعطت جائزة الفيلم الروائي للجزائري بلقاسم حجاج الذي عرض هنا أول فيلم جزائري باللهجة البربرية، وكان واضحاً ان هذا الأمر ساهم مساهمة أساسية في تعاطف اللجنة مع فيلم تدور أحداثه في مناطق القبائل، وموضوعه حول شاب يؤويه أب فيغرم بابنته وتحمل منه، وعندما يكتشف الأب حمل ابنته يسعى لينتقم من الشاب الغريب الذي دنس عرضه، وفي غيابه يكون هذا عاد من تلقائه ليتولى شؤون الأسرة في غياب الأب. هذا الفيلم الذي لا يخلو من جمال تشكيلي فضلته لجنة التحكيم على أفلام أخرى عدة في المسابقة اتت من فرنسا واسبانيا وبلغاريا واليونان وايطاليا، اضافة الى اسرائيل التي كان حضورها في كافة التظاهرات كثيفاً ولافتاً، ورومانيا وتونس وتركيا. أما بالنسبة الى الأفلام القصيرة فقد اختارت لجنة التحكيم للفوز واحداً من فيلمين لبنانيين كل منهما هو العمل الأول لمخرجة شابة درست السينما في فرنسا. الأول، الفائز، هو "رسالة من نبيل" لشيلا بركات، وهو فيلم روائي تسجيلي متوسط الطول، يعيش متفرجه في اجواء آخر أيام الحرب الأهلية اللبنانية من خلال أسرة تتعرض للقصف والرعب بينما تتلقى ابنتها رسالة مطمئنة تأتيها من صديقها في باريس، عن طريق أديب يلعب دوره برهان علوية يحمل للفتاة الرسالة من الأهل مع تطلع جديد الى الحياة. فيلم شيلا بركات هادئ عذب عرفت فيه المخرجة على حداثة عهدها بالسينما كيف تسيطر على موضوعها وتترك مكاناً جيداً للتفاصيل، وكيف تتعامل خاصة مع ممثليها وكلهم من الهواة، تعاملاً حرفياً. الفيلم اللبناني الثاني المشارك والذي لم يفز بأي جائزة كان "عبرهّن" لرلى راغاب، ويتحدث عبر دقائقه القليلة عن ثلاثة أجيال من النساء يعشن معاً، ثم تواجههن ذات يوم مشكلة رغبة الصغرى في الرحيل. نواقيس الخطر العرب، أيضاً، كانوا حاضرين في المهرجان عن طريق مصر حيث عرضت أفلام مصرية عدة، منها أفلام تكريمية مشاركة في تظاهرة معهد العالم العربي حول تاريخ السينما المصرية، ومنها أفلام جديدة لرأفت الميهي، تجاورت مع أفلام طويلة من لبنان "كان يا مكان… بيروت" لجوسلين صعب وتونس "السنونات لا تموت في القدس" لرضا الباهي. التكريمات الأساسية في المهرجان طالت الممثل الايطالي الكبير البرتو سوردي، عبر عرض العديد من أفلامه التي كشفت قوة هذا الذي كان يعتبر - قبل ان يغيب في النسيان منذ سنوات - أحد كبار الممثلين الهزليين في ايطاليا والعالم. وشملت التكريمات نفسها السينما الاسبانية من الديكتاتورية الى الديموقراطية، ومرحلة لويس يونيال في المكسيك، وهي مرحلته الأكثر خصوبة وغموضاً في الوقت نفسه. ومن خارج المنطقة المتوسطية أقام مهرجان مونبلييه تكريماً لأسرة شاتفالايا من جيورجيا بعرض أفلام أخرجها أو مثلها بعض ابناء تلك الأسرة الشهيرة في انتمائها الى السينما السوفياتية. أما بالنسبة الى عاطف الطيب، فقد عرض المهرجان ستة من أبرز أفلامه لقيت اقبالاً جيداً من الجمهور العربي والفرنسي، وهي "الحب فوق هضبة الهرم" و"البريء" و"قلب الليل" و"الهروب" و"ضد الحكومة" وأخيراً "ليلة ساخنة" وهو الفيلم قبل الأخير الذي حققه الطيب قبل رحيله وهو من تمثيل لبلبة ونور الشريف اللذين حضرا المهرجان ولقيا ترحيباً كبيراً من الجمهور، كما شاركا الناقد الزميل ابراهيم العريس والباحث الفرنسي تييري لونوفال، في طاولة مستديرة عقدت من حول سينما عاطف الطيب، وهي المناسبة التي جعلت البحث والأسئلة تدور من حول تلك السينما التي كانت من أبرز ما عرفته الحياة السينمائية في مصر منذ أواسط السبعينات، حيث أسهم الطيب اسهاماً كبيراً في بعث ما سمي انطلاقاً من فيلمه الثاني "سواق الاوتوبيس" بالواقعية الجديدة في السينما المصرية. والحال ان الجمهور العديد الذي تابع افلام عاطف الطيب كما عرضت في مونبلييه، وتابع جزء لا بأس به من، الطاولة المستديرة، طرح العديد من الأسئلة ليس فقط حول سينما عاطف الطيب التي قدم ابراهيم العريس وتييري لونوفال عرضاً متكاملاً لدلالاتها وأبرز محطاتها وموقعها في تاريخ السينما العربية، كما تحدث نور الشريف عن علاقته بها، حديث أثار اعجاب الجمهور وتقديرهم لهذا الممثل الذي يعتبر حالة نادرة في السينما العربية والمصرية من حيث قدرته على فهم وتحليل الأفلام التي يعمل فيها، بل كذلك حول السينما المصرية والعربية ككل، من منطلق يتعاطف مع هذه السينما لكنه يرى ان ثمة من العلامات ما يقول ان السينما المصرية - خصوصاً - والعربية بشكل عام، تعيش نوعاً من التأزم الحقيقي. كان مهرجان مونبلييه مناسبة، اذاً، لتكريم هذه السينما، لكنه كان في الوقت نفسه مناسبة لطرح الأسئلة الخطيرة عنها ولدق كل أنواع نواقيس الخطر.