جاء اغتيال أبوبكر بلقايد كمؤشر سيء الى الانتخابات الرئاسية التي تجتهد السلطة في الاعداد لها بتصميم مثالي وتحاول الجماعات المسلحة تعطيلها بالتصميم نفسه. فالراحل شخصية سياسية من الطراز الأول، كان يقف في طليعة المتصدين للتيارات الاسلامية بل الوطنية أيضاً. وغداة اغتيال الرئيس بوضياف في 29 حزيران يونيو 1992 فقد بلقايد منصبه كوزير للاتصال والثقافة، وفي أواخر عهد المجلس الأعلى للدولة قبل سنتين تقريباً، أظهر ميلاً واضحاً الى ترشيح شخصية سياسية مدنية لخلافة المجلس. وفي هذا السياق سعى مع اللواء المتقاعد العربي بالخير، الرجل القوي في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، لمصلحة السيد عبدالعزيز بوتفليقة وزير الخارجية السابق وذلك بدوافع سياسية ومحلية في الوقت نفسه كلاهما من تلمسان. وكادت جهوده تكلل بالنجاح في ندوة "الوفاق الوطني" المنعقدة في اواخر كانون الثاني يناير 1994 التي كان الجميع ينتظر ان تزكي بوتفليقة لرئاسة الدولة خلال مرحلة انتقالية جديدة، لكن بوتفليقة تراجع في اللحظة الاخيرة لأن "جواب الجيش على طلباته وشروطه لم يكن واضحاً". وبعد اعلان الرئيس زروال قرار تنظيم الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، واصل بلقايد مساعيه مع صديقه وحليفه علي هارون - عضو المجلس الأعلى للدولة سابقاً - في اتجاه البحث عن شخصية مدنية تحظى بتزكية المؤسسة العسكرية... وهكذا وجد نفسه في صف الكتلة التي حاولت منذ نيسان ابريل الماضي اقناع الرئيس زروال بعدم ترشيح نفسه مفضلة عليه السيد رضا مالك رئيس الحكومة السابق. وقبيل اعلان الرئيس زروال عن ترشيح نفسه في 19 الشهر الماضي، حاول الثنائي بلقايد - هارون اقناع المجلس الوطني لمنظمة المجاهدين - برئاسة الرئيس علي كافي بعدم ترشيح زروال، لكن المحاولة باءت بالفشل، على رغم تجاوب بعض اعضاء المجلس من قدماء اتحادية جبهة التحرير، في فرنسا خصوصاً، الذين هددوا بعقد مؤتمر يعلنون فيه تمردهم على "منظمة مجاهدين منحازة لزروال". وتشاء الصدف ان يغتال بلقايد وهو خارج من اجتماع لقدماء اتحادية الجبهة في فرنسا، وقيل انه كان "محرجاً لترشيح زروال"... وأكثر من ذلك انه كان يدعو في جلساته الخاصة الى انسحاب المرشحين الديموقراطيين، خصوصاً سليم سعيد سعدي ورضا مالك، فور انهاء عملية جمع التوقيعات" في الثاني من الشهر الجاري. واعتبر أحد رفاق بلقايد ان اغتياله يشكل "عملاً موجهاً ضد اتحادية فرنسا لما لها من نفوذ كبير"، بفضل علاقاتها بكبار الضباط وفي مقدمتهم الفريق محمد العماري قائد أركان الجيش واللواء محمد التواتي حامل لواء العلمانية في المؤسسة العسكرية. أما حركة "التحالف الوطني الجمهوري" التي يرأسها رضا مالك مرشح "قيادة الظل" فرأت في هذا الاغتيال "تحذيراً جدياً لكل المناضلين من اجل التقدم والديموقراطية". والجدير بالذكر في هذا الصدد ان بلقايد هو الذي منح الترخيص "للجبهة الاسلامية للانقاذ" في صيف 1989، بصفته وزيراً للداخلية في حكومة قصدي مرباح. وقد برر ذلك بقوله: "ان المسؤولين آنذاك كانوا يفضلون تسيير حركة اسلامية منظمة علانية على تركها تعمل في السرية مثلما كانت سابقاً"... لكن بعد ظهور هذه الحركة بحجم غير منتظر، وتعاظم شأنها بعد فوزها الساحق في الانتخابات اصبح في طليعة الداعين الى "اعلان حرب شاملة عليها". في مثل هذا الوضع لفائدة من اغتيال بلقايد؟ قد يكون اغتياله من فعل الجماعات الاسلامية التي يهمها خليط الاوراق لتعطيل الانتخابات، كما قد يكون من فعل عناصر يهمها تغذية الحرب الأهلية المستعرة باللعب على العواطف والنعرات الجهوية. وأخيراً قد يكون من فعل كتل منافسة داخل السلطة لأسباب سلطوية أو سياسية. ومهما يكن الفاعل فأن رحيل بلقايد يشكل خسارة كبيرة للكتلة الاستئصالية، التي قد لا تتأخر في الثأر له بطريقة أو بأخرى. فقد فقدت فيه سياسياً محنكاً ومحاوراً مقنعاً ومناضلاً لا يعرف الملل.