أربع سنوات مرت على احداث تشرين الأول اكتوبر 1988 في الجزائر - التي اتخذت شكل اضطرابات شعبية كبرى واسعة النطاق شملت اهم المدن الجزائرية احتجاجاً على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد - ولا يزال الرأي العام الجزائري، وكذلك الكثيرون في الخارج، يتساءلون: من يقف فعلاً وراء هذه الاحداث التي أدت الى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في الصدامات مع قوى الامن والشرطة بعد اعلان حال الحصار اعترفت السلطات الجزائرية رسمياً بسقوط 150 قتيلاً وأكثر من 500 جريح وأحدثت اضراراً مادية واسعة؟ ومن استفاد من هذه الاحداث فعلاً؟ آنذاك، كان الشاذلي بن جديد هو رئيس الجزائر وعبدالحميد الابراهيمي هو رئيس الحكومة. المراقب الذي اتيحت له متابعة ما يجري على الساحة الجزائرية منذ تشرين الأول اكتوبر 1988 وحتى اليوم يستطيع ان يتبين خيوطاً مهمة، ساهمت بوضوح في نسج حبكة هذه الاحداث التي كادت في حينها ان تدفع بالجزائر الى دوامة من العنف لا يمكن التنبؤ بتطوراتها ومضاعفاتها. ويعتبر المراقبون في هذا السياق ان "احداث اكتوبر" كانت تتويجاً لانقلاب زاحف على المرحلة البومدينية. وفي هذا الصدد تبدو الفترة الممتدة من المؤتمر الرابع لجبهة التحرير الوطني في اواخر كانون الثاني يناير 1979، الى المؤتمر الاستثنائي في حزيران يونيو 1980 والتي برز خلالها انصار "الوفاء والاستمرارية" شعار المؤتمر الرابع، تبدو هذه الفترة كمجرد مناورة للتمويه والتضليل لتغطية الأهداف الحقيقية للرئيس الشاذلي بن جديد ومجموعته. وخلاصة هذه الأهداف هي ازالة آثار الرئيس الراحل هواري بومدين كلياً عن آخرها! وقد طال هذا "العمل الاصلاحي" "التخريبي" في نظر أنصار بومدين أهم منجزات الرئيس بومدين في: الفلاحة، بادخال اراضي "الثورة الزراعية" في دوامة من "التنظيم واعادة التنظيم". انتهت بارجاعها الى اصحابها خلال السنوات الثلاث الماضية! الصناعة، بتفكيك الشركات الكبرى مثل "سوناكوم" وسوناطراك و"مؤسسة الحديد والصلب"... الخ بدعوى انها اصبحت تشكل "دولة داخل دولة"، ومن ثمة هناك ضرورة "لاعادة هيكلتها" في اطار محاربة "مراكز القوى" الموروثة عن فترة بومدين. المؤسسة العسكرية التي كانت أهم منجزات بومدين الذي يعتبر بحق مؤسس "الجيش الوطني الشعبي". وقد ضربت المؤسسة العسكرية في الصميم من خلال جهاز المخابرات الذي ساهم مساهمة فعّالة في صنع هيبة الدولة الجزائرية، واستتباب الأمن والاستقرار طوال المرحلة البومدينية. فهذا الجهاز المشهور بفعاليته عبر العالم تعرض بدوره الى "اعصار" "اعادة الهيكلة" منذ 1981 فأضحى بدوره في عداد "المؤسسات المنكوبة"! بيد ان هذا "العمل الاصلاحي" التخريبي في نظر انصار بومدين، لم يكن كافياً، وكان ينبغي ان يمتد الى المستوى السياسي بمراجعة جبهة التحرير الوطني ومواثيقها! وفعلاً بادر الشاذلي بن جديد الى طرح موضوع مراجعة "الميثاق الوطني" لسنة 1976 على بساط البحث والمراجعة، عكس ما كانت تنتظر قاعدة جبهة التحرير بصفة عامة! غير ان محاولة تغيير اتجاه نظام الحكم انطلاقاً من تغيير مواثيقه باءت بالفشل الذريع، اذ جاء ميثاق 1986 نسخة طبق الأصل تقريباً عن ميثاق بومدين، مؤكداً في الوقت نفسه ان قاعدة جبهة التحرير ظلت على شعار "الوفاء والاستمرارية" الصادر عن المؤتمر الرابع. وهنا تبدو احداث "اكتوبر 1988" كمحاولة "تغيير على الساخن" لما عجز النظام عن تغييره بأساليب اخرى، على مدى عشر سنوات تقريباً على رغم تكرار المحاولات. الثنائي القوي والآن بعد مضي أربع سنوات أصبح شبه مؤكد - وفقاً لمصادر وثيقة الاطلاع في الجزائر - ان احداث اكتوبر 1988 كانت من صنع تيار في جهاز الحكم تتمثل قوته الضاربة في الشخصيات الآتية: 1 - العميد العربي بلخير بحكم موقعه المهم في رئاسة الجمهورية وعلاقته الشخصية بالرئيس الشاذلي بن جديد. فقد لازم بلخير المؤسسة الرئاسية اكثر من عشر سنوات، احتل خلالها منصب مدير ديوان الرئيس مرتين والامانة العامة للرئاسة مرة واحدة. وهذ الموقع المهم جعل من بلخير عملياً نائباً للرئيس، بل احياناً رئيساً فعلياً! 2 - أبو بكر بلقايد الواجهة السياسية لهذا الجناح، بفضل علاقاته الوطيدة والمتشعبة بالنخبة الفرنكوفونية انصار فرنسا المهيمنة، ممثلة بصفة خاصة في الحزب الشيوعي و"التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" ومختلف جمعيات ومنابر "المجتمع المدني". وكان يشغل منصب وزير التعليم العالي في حكومة الابراهيمي. وتستمد هذه النخبة قوتها من تحكمها في وسائل الاعلام والثقافة ومن مواقعها المهمة في الجهاز الاداري والمالي. هذا الثنائي بلخير - بلقايد استعان موقتاً بعناصر امثال الهادي لخضيري وزير الداخلية والمدير السابق للأمن الوطني، وقاصدي مرباح وزير الصحة والمدير السابق للأمن العسكري، ومولود حمروش الامين العام لرئاسة الجمهورية. وقد تبين فيما بعد ان الثنائي بلخير - بلقايد الذي يحظى "بتعاطف كبير" من جانب فرنسا، كان يعمل لمصلحته في الخفاء ويتظاهر بالعمل لمصلحة بن جديد. وهذا ما يفسر حملة الاعلام الفرنسي في خضم احداث اكتوبر 1988 على بن جديد "السفاح"، من باب التأكد بأن الرجل انتهى والاطمئنان الى من سيخلفه، عسكرياً كان او مدنياً! لكن بن جديد استطاع ان يناور بنجاح لانقاذ مركزه: فقد ألقى خطاباً مساء 10 تشرين الأول اكتوبر 1988 استعطف فيه المواطنين ووعد باصلاحات سياسية جذرية. وأكثر من ذلك اوحى بأنه لا ينوي اعادة ترشيح نفسه لولاية ثالثة خلال المؤتمر السادس لجبهة التحرير الذي كان مقرراً قبل نهاية السنة. وأمام هذا النجاح المفاجئ اضطر جناح بلخير - بلقايد الى مراجعة حساباته واعادة "تصويب مدافعه" باتجاه تصفية حساباته المتراكمة مع الجهاز السياسي للنظام: جبهة التحرير الوطني. في اليوم الثاني من الاضطرابات التي عمت اهم احياء العاصمة الجزائرية صبيحة الأربعاء 5 تشرين الأول اكتوبر 1988 صدر بيان "مشبوه" من قسم التنظيم في جبهة التحرير، يدعو اعضاءها الى الالتحاق بأقسامهم، وكان هذا البيان بمثابة اشارة واضحة الى الشباب "الثائر" بمهاجمة مقرات "الحزب الحاكم"! وكان ذلك ذريعة لحملة اعلامية مركزة، حمّلت جبهة التحرير مسؤولية الازمة الخانقة التي ابتليت بها الجزائر، وكل ما نتج عنها من احباطات ومصائب، مع ان الجهاز التنفيذي هو المسؤول الأول عن هذه الازمة المتشعبة. نسف الوحدة مع ليبيا ويعود هذا الهجوم على جبهة التحرير الى أسباب متعددة، اهمها: أولاً: ضرب افراد المجموعة البومدينية الذين كشفت مناقشات ميثاق 1986 انهم تجمعوا بقوة في صفوف الجبهة وأخذوا يقاومون سياسة الانفتاح باستماتة ملحوظة. وقد شجع ذلك السيد محمد الشريف مساعدية مسؤول الامانة الدائمة للجبهة على تجاوز دوره التقليدي "كمحافظ سياسي" للمؤسسة العسكرية - كما يقول هو شخصياًًًًً عن نفسه! - ومحاولة الاضطلاع بأدوار أهم من ذلك! ثانياً: نسف أية محاولة لتمرد الجهاز السياسي على الرئيس الشاذلي او اعتراضه على ترشيحه باسم الجبهة لولاية ثالثة، لا سيما ان المؤتمر السادس كان منتظراً قبل نهاية السنة. وكانت "حاشية" بن جديد - وفي مقدمتها العميد بلخير - قد اوهمته بأن مساعدية وجماعته يسعون لمنع ترشيحه وأوغروا صدره على جهاز الجبهة لهذا السبب بالذات. ثالثاً: نسف مشروع الوحدة مع ليبيا التي تم اعداد ميثاقها في البلدين، وكان محازبو جبهة التحرير يتأهبون لمناقشته، قبل عرضه على الاستفتاء الشعبي الذي كان يريده الرئيس بن جديد شخصيا! وكان مساعدية من المتحمسين لهذا المشروع على رغم اطلاعه على موقف الجناح المنافس من هذا الموضوع. وشملت التصفيات شخصيات بارزة في المرحلة الشاذلية الأولى، منهم: - محمد الشريف مساعدية مسؤول الامانة الدائمة الذي احتل مكانة "الشخصية الثانية" ظاهرياً على الأقل فترة طويلة. - عبدالحميد الابراهيمي رئيس الوزراء. - أحمد طالب الابراهيمي وزير الخارجية لأنه لم يجار الثنائي بلخير - بلقايد في قضية الصحراء الغربية، فاعتبر من "الساعين لاستمرار سياسة بومدين" في هذه القضية! - العميد الأكحل عيّاط مسؤول الأمن العسكري الذي تم ابعاده بسبب "الصحراء الغربية" ايضاً! ومن الطبيعي ان يخرج الثنائي بلخير - بلقايد منتصراً من "احداث اكتوبر 1988" لسببين: الأول لأنه تمكن من تعزيز ثقة الشاذلي بن جديد به، لأنه تظاهر بمناصرته على "خصومه" الذين "نصحوه" بالاستقالة لأن المواطنين طالبوا بذلك! ومن هؤلاء رئيس الوزراء عبدالحميد الابراهيمي، والعميد بن يلس وكيل وزارة الدفاع سابقاً وعضو المكتب السياسي لجبهة التحرير. الثاني، لأن بلقايد اصبح وزيراً للداخلية في حكومة قاصدي مرباح وتم تكليفه الاشراف على عملية التعددية السياسية التي هي من بنات افكاره! والغريب في الامر ان المؤتمر السادس لجبهة التحرير الذي انعقد في اواخر كانون الأول ديسمبر 1988 عارض التعددية بكل صراحة، واقترح بديلاً "سياسة المنابر" داخل جبهة التحرير الوطني، اي مرحلة وسط، على غرار ما حدث مع "الاتحاد الاشتراكي" في عهد الرئيس انور السادات. وكان التقرير الذي تلاه الرئيس الشاذلي بن جديد امام المؤتمرين بصفته اميناً عاماً للجبهة في الاتجاه نفسه، أي المعارضة الصريحة لفكرة التعددية. لكن بمجرد اعادة انتخابه في مطلع 1989 وقع بن جديد تحت تأثير الثنائي بلخير - بلقايد الذي اقنعه بأن التعددية هي المخرج الوحيد! بروز جبهة الانقاذ وتمثلت خطة هذا الثنائي في ذلك الحين بضرب الوطنيين بالاسلاميين لتمكين "قوة ثالثة" من البروز قوامها الشيوعيون وأنصار فرنسا، لكن حسابات "الديموقراطيين" بقيادة بلقايد كانت بعيدة كل البعد عن الواقع، وجاءت اول تجربة انتخابية في ظل التعددية لتبدد اوهام "الديموقراطيين" وتبخر احلامهم! لقد كشفت الانتخابات المحلية في 12 حزيران يونيو 1990 عن حقائق مذهلة فاجأت بلخير وبلقايد ومن هذه الحقائق: ظهور حزب اسلامي كبير هو الجبهة الاسلامية للانقاذ. استمرارية جبهة التحرير الوطني التي احتلت المرتبة الثانية على رغم حملة جناح بلخير - بلقايد عليهما. ضآلة "الديموقراطيين"، فقد كشفت الانتخابات عن الطابع الجهوي القبائلي لحزب التجمع بقيادة سعيد السعدي، والوجود الرمزي جداً للشيوعيين الذين لم يفوزوا ببلدية واحدة. وكان مجموع ما حصل عليه "الديموقراطيون" لا يزيد عن 150 الف صوت من مجموع 13 مليون ناخب! وتوالت النكسات على نظام بن جديد، بدءاً من نكسة انتخابات حزيران يونيو 1990 الى نكسة الانتخابات النيابية التي جرت في 26 كانون الأول ديسمبر 1991 وفازت فيها جبهة الانقاذ بعدد كبير من المقاعد النيابية. ويمكن القول ان الجزائر لا تزال تدفع الى اليوم ثمن ذيول احداث اكتوبر 1988، اذ نشهد حالياً تزايداً في اعمال العنف والارهاب والتخريب مما يشكل تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار. لكن الثنائي بلخير - بلقايد دفع الثمن - اذا جاز القول - فتم اقصاؤهما عن مواقعهما اثر اغتيال الرئيس محمد بوضياف. وذهب الامر الى حد تحميل بلخير، الذي كان وزيراً للداخلية حين اغتيل بوضياف، بعض المسؤولية في "التقصير" في حماية الرئيس الجزائري.