"الدهام" و"فيريرا" يكملان قائمة تحدي الخيالة الدولي بكأس السعودية 2025    القاتل الثرثار!    وفاة ناصر الصالح    هل تنجح قرارات ترمب الحالية رغم المعارضات    العنزي يحصل على درجة الدكتوراة    منتدى مستقبل العقار    قوة التأثير    اقتناص الفرص    الغامدي ينضم الى صفوف نيوم على سبيل الاعارة    الخليج يعلن التعاقد مع النمساوي توماس مورغ    النصر يبدع في القصيم    دمبلينغ ينتصر على دا كريزي في "Power Slap" ويهيمن على الوزن الثقيل جداً    نيوم يعير آل سعد الى دانكيرك الفرنسي    مواعيد إقلاع الطائرات.. «سافر .. ما سافر» !    قوة صناعية ومنصة عالمية    «الأونروا» لا تزال تعمل في غزة والضفة الغربية رغم الحظر الإسرائيلي    لماذا صعد اليمين المتطرف بكل العالم..!    السفراء وتعزيز علاقات الشعوب    مقومات الانتصار والهزيمة    حوكمة لوائح اختيار رؤساء الأندية    المطوع ل «عكاظ»: لن أترك «هوساوي» للنصر    نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    «الروبوتات» والأرحام الاصطناعية.. بين الواقع والخطر!    خاصرة عين زبيدة    التراث الذي يحكمنا    إحباط تهريب 2.9 كجم "حشيش" و1945 قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي في تبوك    «الأونروا» تعلن نقل موظفيها خارج القدس المحتلة بسبب قرارات إسرائيل    مصحف «تبيان للصم» وسامي المغلوث يفوزان بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    شراكات جديدة بين هيئة العلا ومؤسسات إيطالية رائدة    تتيح لهم حضور الجلسات القضائية بالصوت والصورة.. «العدل» تُطلق مبادرة خدمات السجناء    استشاري طب نفسي: 10% من مشاهر شبكات التواصل مصابين بالانفصام    تجمع القصيم الصحي يفوز بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    "مفوض الإفتاء بمنطقة حائل":يلقي عدة محاضرات ولقاءات لمنسوبي وزارة الدفاع    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم مبادرة " تمكين المرض"    وزارة الشؤون الإسلامية تقيم يومًا مفتوحًا للمستضافين في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة    الديوان الملكي: وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    الأرصاد: سحب رعدية ممطرة على مرتفعات مكة والجنوب وأمطار خفيفة بالرياض والشرقية    المفتي للطلاب: احذروا الخوض في منصات التواصل وتسلحوا بالعلم    سيراً على الأقدام .. المستكشفة «موريسون» تصل العلا    لأول مرة.. إطلاق التقويم المدرسي برياض الأطفال والطفولة المبكرة والتربية الخاصة    «بينالي الفنون» يُثري زواره بكنوز الحضارة الإسلامية    البهكلي والغامدي يزفان "مصعب" لعش الزوجية    عشر سنبلات خضر زاهيات    تعزيز العلاقات البرلمانية مع اليابان    مدن ومجتمعات صديقة للبيئة    في إجتماع "المؤتمر الدولي" .. وزير الموارد البشرية: المملكة تسعى لتصبح مركزا رئيسياً لاستشراف مستقبل أسواق العمل    وسط حضور فنانين وإعلاميين .. الصيرفي يحتفل بزواج نجله عبدالعزيز    مختبر تاريخنا الوطني    أمير حائل يناقش خطط القيادات الأمنية    خطورة الاستهانة بالقليل    الإرجاف فِكْر بغيض    «السياحة الثقافية».. عندما تصبح الفنون جواز السفر    حسام بن سعود يستعرض مشروعات المندق    شخصية الصرصور    الشيخوخة إرث وحكمة    انطلاق مؤتمر السكري والسمنة في جدة «5 فبراير»    أهالي الشرقية ينعون الأمير محمد بن فهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الشاعر لا يطل على التاريخ الا من بعيد" . محمود درويش ل "الوسط" : يمكننا ان نطبع كل شيء ولكن لا مساومة على الماضي والتاريخ 2 من 2
نشر في الحياة يوم 02 - 10 - 1995

يدعونا محمود درويش في هذه الحلقة الثانية بعد التسلّل إلى ذاكرته عبر المسافة الفاصلة بين الجرح والقصيدة، إلى دخول مختبره الشعري، طارحاً أسئلة جمالية وفنيّة وأسلوبيّة: القصيدة المباشرة، المستوى السياسي، الايقاع والوزن والقافية والغنائية والملحمة والنشيد، وقصيدة النثر التي يعتبرها "مجالاً مغرياً للبحث عن ايقاع جديد"، مع انّه لم يكتبها. ويحكي الشاعر عن تجربة الموت وانعكاساتها على حياته وشعره. كما يعود إلى العلاقة بالآخر الذي "يريد أن يشكّل صورة الحلم"، مذكّراً بأنه ليس إلا طفل يتفرّج من ثقب الباب على الجيوش الامبراطورية الزاحفة. فالشعر "في الأشياء الأولى، في العودة إلى بداية التكوين".
نعود إلى صورة العدو في شعرك. انها اشكالية تتجلّى في حالات متعددة، بدءاً ب "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" ووصولاً إلى ديوانك الأخير "لماذا تركت الحصان وحيداً". تقول "أنا لا أحب الذين أدافع عنهم كما أنني لا أعادي الذين أحاربهم".
- منذ البداية أنا والعدو متعايشان من دون أن يكون لنا الخيار. وبالتالي فإن ملامحه منذ البداية كانت انسانية. انسانية، لا بالمعنى الاخلاقي، ولكن بمعنى أنه كائن، كائن انساني وليس نمطاً ولا فكراً. يعني لم يكن العدو في يوم مجرد فكرة. كان جسداً وملامح واسرة وتاريخاً مزعوماً أو حقيقياً، يتنفس من الهواء الذي تتنفس منه. هكذا يتجاوز الصراع معه العرق أو العنصر. فهو بالدرجة الاولى سياسي وأيديولوجي. وأحسب من هنا أن شروط السلام ستجعلني أقوى. أي أنها ستحرر انسانيتي اولاً، وتجعل لصراعي معنى غير الرفض المطلق أو الكلي. إنها تعطيني، انسانياً، تفوقاً على العدو الذي يعاني من قصور في انسانيته تجاهي. وليس هذا ما يريده الآخر مني، يريد مني صلحاً بروتوكولياً. ربما لذلك، يرفض هذا الآخر شعري. يفضلون أن يسمعوا منّي كلاماً ديبلوماسياً، ما داموا لم يختاروا التعايش الفعلي القائم على اعتراف حقيقي متبادل. أنا أحتاج إلى اعتراف بانسانيتي، في مقابل اعترافي بانسانية الآخر، لنتمكن، نحن الاثنين، من أن نتصالح فعلاً. فهل يسعى هو إلى مصالحة حقيقية؟
يحاول العدو أن يفعل ما بوسعه كي انجرّ إلى الصورة التي يريدها لي، لكنني لن أنجرّ. العدو متحرك، ليس موجوداً في ذاته فحسب، لكنه يلبس أقنعة، وهو في حركة دائمة بين الأنا والآخر وفي الاتجاهين. ليس العدو نمطاً لكننا نتداخل ونتبادل الادوار، فنحن نعيش في شرط انساني معقد وليس بيني وبينه أي مسافة.
هذه هي المشكلة. العدو قادر على اختراقنا، من مكان في انسانيتنا.
- يمكنه أن يخترق، لكن حصانتي المثلى حيال هذا الاختراق هي ان احتفظ بانسانيتي، في لغتي معه ونظرتي اليه. أما أن يستعمر مخيلتي، ويسكن وعيي، ويركّب بنفسه روايتي عنه وعني، فيكون ذاكرتي ايضاً، فهذا شيء آخر، وهذه هي المشكلة. الارجح أن العدوّ لا يكتفي بأن نتواجه بلا مسافات، لكنه يريد أن يكون أنا وينطق باسمي. قد نقول ان الحلمين ينامان على سرير واحد، قد أقول ذلك واعنيه، لكنه يريد ان يشكل صورة حلمي من دون ان يسمح لي بأن أتقاسم معه منطقة الحلم. المشكلة هكذا هي عنده لا عندي. أستعير هنا كلاماً أجمل لرينيه شار: طموحي أن أحول الاعداء إلى خصوم.
ألاحظ أن تسمية العدو ترد في اللحظة التي يظهر فيها تداخل وقطع، كأنها اعادة نظر في التسمية نفسها. وبهذا المعنى تكلّمنا عن "الاختراق الانساني"، لا بالمعنى السياسي من تطبيع وما شابه. ما يريده العدو هو أن أصدق روايته عني. فهل يمكن التوصّل إلى تسوية ما: أن يقبل هو بأسطورة ناقصة وأن أقبل أنا بتاريخ منقوص؟
- يمكننا المساومة والاتفاق على كل شيء إلا على التاريخ. قد نتقاسم الأرض، قد نتقاسم نوافذ الاحلام، قد نتقاسم اختلاط الناي بالناي، قد نتقاسم الاساطير التي نشأت على هذه الارض، قد نتقاسم ما تشاء. وأنا أسبق منه إلى ذلك، فأنا اعتبر التوراة من تراثي، وهو لا يعتبر الاسلام من تراثه. ولا أجد مشكلة في ان اكون نتاج وخليط كل ما قالته هذه الارض، كل ما قالته الانسانية. لا مانع عندي. لكنه هو الذي لا يقبل. هو الذي يرفض أن أشارك هويته الثقافية والانسانية، هو الذي يضيّق على هويته ويحصرها. يمكننا ان نتفق على كل شيء الاّ على التاريخ، وليس من قانون دولي يفرض علينا ان نتفق على التاريخ.
مشكلتنا في العمق الحضاري هي في استحالة هذه المساومة. يمكننا ان نطبّع كل شيء، وقد ينجحون او يفشلون في الاتفاق على الراهن، وفي توزع حصص المستقبل. كل شيء ممكن. ولكن لا مساومة على التاريخ والماضي. من الصعب ان نتفق على تاريخ غير متنازع عليه، فكيف يمكننا ان نتفق على تاريخ متنازع عليه؟ دعك من التاريخ فالاتفاق عليه صعب. ومثل هذا الطلب يعكرّ كل اتفاق.
أنا عربي
في قصيدة "لماذا تركت الحصان وحيداً" ثمة من ينتسب مجدداً: "أنا عربي". هل هذا الانتساب ضروري دائماً أمام الآخر؟ ألا يرده فوراً إلى أجنبي؟
- لفظة الأجنبي في نصي ليست كناية سلبية. ليست كناية سلبية على الاطلاق.
لم أقصد وصفها بالسلبية، بل الاشارة إلى تعريف الفرد بهويته القديمة، بنسبه الحقيقي أو المزعوم، كما كان العربي القديم يقدم نفسه بأجداده وقومه.
- نحن مطالبون دائماً بالانتساب، لتحصين دفاعنا. الآخرون يطالبوننا بالانتساب اكثر مما نرغب ونريد. فلست أظن أن هناك شعباً في العالم يُطالب كل يوم بإعلان هويته، كما يُطالب العرب ويُطالب الفرد العربي. لا يقول أحد لليوناني إنه ليس يونانياً، ولا للفرنسي إنه ليس فرنسياً. لكن العربي يطالب دائماً بأن يقدم نفسه وتاريخه، لا لشيء الاّ ليشكك بنفسه. لست مهووساً بإعلان حسبي ونسبي، وأنا في هذا الديوان أقول شيئاً واحداً هو إنني لغتي، لا اكثر ولا أقل. وحتى وسط هذه اللغة، هناك حضور للجوار الفارسي والروماني ولكل الشعوب. أنا أعرّف نفسي من خلال شيء واحد: أنا لغتي. ولست أبحث عن فروقات في العرق ولا في الدم، ولا أؤمن بأن هناك عرقاً صافياً في أي مجتمع، في الشرق الاوسط وخارجه. لا بل ان الاختلاط يغنيني ويغني رؤيتي الثقافية. الآخر هو الذي يطالبني بأن اكون عربياً بالمفهوم الذي يحدده هو للعربية.
هذا سياسي. أيديولوجيا سياسية.
- ربّما. لكن الأجنبي يبدو في قصائدي وكأنه زائر. هو زائر لا العكس. ولأن هذه الارض كانت مجال اختراق للاجانب عبر التاريخ، فقد أكون أنا في لحظة اجنبياً ولا يخيفني ان اكون أجنبياً، ولكن ليس بالمفهوم الذي يحدده لي من يصر على أنه ليس أجنبياً. أوافق على أن نكون معاً أجانب أو غرباء، لكنه يطالبني بأن أكون وحدي أجنبياً ودخيلاً، ويصرّ على أن يكون أصلياً. تاريخ هذه الارض لا يفترض أن ينتمي حامل الهوية إليها. وأنا أرى أن هذه الارض عرفت أكثر من هوية.
- لكننا اذا ابتعدنا عن الشعر يقودنا كلامك إلى الجيوبوليتيك. الارض لا الدم هي التي تجمع. الارض تجمع أقواماً من دماء مختلفة وأعراق مختلفة، فكرة قريبة من انطون سعادة ومن كاتب عبقرية المكان.
- نعم، جمال حمدان.
حتى ميشال شيحا يقدم شرْع المكان، بحسب تعبيره، على شرْع الدم، هل هذه الرؤية الضمنية في أساس مخيلتك الشعرية؟
- لو لم اكن محروماً من المكان، مقصياً عن المكان، لما كان لهذا الموضوع قيمة اساسية. اذكر حديثاً جميلاً بين جان جينيه وخوان غويتسولو. قال جان جينيه - الذي يزدري مفهوم الوطن -: "الوطن أسخف فكرة، الاّ بالنسبة إلى المحرومين من الوطن، الفلسطينيين مثلاً". رد غويتسولو: "ماذا يحدث حين يصير للفلسطينيين وطن". فأجابه جينيه: "من حقهم عندها أن يمسكوه ويلقوا به من النافذة"! تجريدي من المكان، من الرحم الاول، جعل المكان أساسياً في هويتي. لكن هويتي أكبر من ذلك. أنا لغتي كما قلت، أنا لغتي ولست محرجاً بهذه الهوية ولا فخوراً.
أنا عربي، ولغتي عرفت أقصى ازدهارها عندما كانت مفتوحة على الآخرين، وعلى الانسانية كلها. نحن العرب لم تكن لنا حضارة الا حين خرجنا من الخيمة وانفتحنا على المتعدد والمختلف. التعدد من مقومات نموي إذاً، كما أفهم من مراجعة العصور الذهبية للعرب. لم اكن في يوم منغلقاً كما يراد لي الآن أن أكون، وليست هويّتي سجناً. مشكلتي في ما يريد الآخر أن يفهمه من هويتي، أقول للآخر تلك هويتي شاركني فيها، فهناك متسع لك. لست من المأزومين بهويتهم ولا من الذين يسألون من هو العربي؟ وما هي الامة؟ أنا عربي لأني لغتي عربية. وفي الجدل الدائر حول الذات والماضي والتاريخ، ثمة ما أستطيع أن أدافع عنه بعناد. أدافع عن لغتي لا دفاعاً عن هويتي ولكن عن وجودي. ادافع عن شعري، عن حقي في الغناء.
تخليص الشعر من السياسة المباشرة
لننتقل إلى موضوع آخر: انت شاعر له من السليقة ما يمكّنه - كما كان يقال - من تحويل دليل الهاتف إلى شعر. تقدر على تحويل شعري لاقل ظرف سياسي ولاكثر الاحداث مباشرة. أجد جرأة كبيرة في اعتذارك عن قصائد كتبتها ووصفتها بأنها "نظم سياسي" او "موقف منظوم"، كما قلت عن "وصف حالتنا" و"عابرون في كلام عابر". لماذا لم تصف بالطريقة ذاتها قصيدة "وجهان والثلج أسود"، أو قصيدة إلى "شاعر عراقي"، وكلتاهما واضحتا الصلة بحدث مباشر وظرف راهن. لا أحتج بسؤالي على هاتين القصيدتين فأنت تعلم انني في مقالة عن "وجهان والثلج أسود" قلت إن للشعر سياسة غير السياسة المباشرة.
- لا يزعجني هذا السؤال. أود أولاً أن يتضح مفهوم السليقة. أنا من الذين يرون أن على الفكر والوعي والثقافة النفاذ إلى الشعر عن طريق الحواس، أي أن على الشعر ان يخفي مصادره المعرفية وأن يتقدم كأنه سليقة. من يراقب مشهد الشعر العربي اليوم يجد ان ثمة سجالاً بين تيارين، إما ان يكون الشعر ذهنياً وأما ان يكون شعراً.
أنا لا أقارن الذهني بالحسي.
- مفهوم. لكن السؤال آخر الامر، كما قلت انت، سؤال الموهبة. المعرفة بالشعر لا تصنع شاعراً، قد تجعل للواحد قدرة على كتابة نص نموذجي أكاديمي، لكنّها لن تخوّل اليه الذهاب أبعد. معرفتي الشعرية تغيرت وتطورت من داخل تجربتها ورؤيتها. أنا كإنسان لا أستطيع دائماً أن أحفظ دائماً للشعر جلاله وقداسته في لحظات تماسه بالواقع. أحياناً أغضب وأنفعل وأشتم وأعرف أن ليس هذا هو التجلي الشعري. في السنوات الاخيرة كتبت شعراً كثيراً هو نوع من ردود.
كتبت "عابرون في كلام عابر" عندما شاهدت على التلفزيون صوراً لجنود اسرائيليين وهم يحطمون عظام الفلسطينيين. كتبتها في جلسة واحدة، ولا تنتظر مني هنا أن أكون أنيقاً في اللغة أو الاحساس أو حتى في التعايش. رددت على هذا العمل الوحشي بقول غاضب. أيهما أقسى، في النهاية، القول الغاضب أم الفعل الوحشي؟ لم أدرج هذا النص في شعري، لكنني أهديته ليكون حجراً في يد طفل يرميه في وجه الجندي الاسرائيلي. كنت أريد أن أسدّد إلى الغزاة حجراً ففعلت. أحببت أن أكتب نصاً مؤذياً كحجر وكتبت نصاً مؤذياً. وهو بالفعل آذى الجندي الاسرئيلي، وأنا سعيد لأنه آذاه.
لم أدرج هذا النص في مجموعة شعرية لحرصي، كما قلت، دائماً على تخليص الشعر مما ليس شعراً. أعني مما ليس في صلب العملية الشعرية، وتمييز النص الشعري مما يرسم له من وظائف اجتماعية، أي تخليص الشعر من السياسة المباشرة. لكن ينبغي الا ننسى أنه ليس في الوسع قراءة نصي الشعري، بشكل عام، من دون الرجوع إلى مستوى سياسي، فهو مستوى أدافع عنه ولا أعتذر عنه. فالسياسة طريقة نظر إلى الواقع، ولا يسعنا في اي حال التبرّؤ من كل علاقة بالواقع. المستوى السياسي موجود. لكنه مستوى متكتم ضمني وليس علنياً، وان خرج إلى العلن وجب عليه ان يكون من داخل المنظور العام لبناء القصيدة نفسها. هناك عناصر وعلاقات في القصيدة يجب ضبطها. قد تتحمل قصيدة ذات بناء متعدد المستويات مقطعاً حماسياً او سياسياً مباشراً كما حدث في "أحد عشر كوكباً". فالجدل الذي دار في قصر الحمراء بين فريقين، أحدهما يدعو إلى الاستسلام والآخر يدعو إلى القتال حتى الاستشهاد، وجد مكانه في هذا النص.
عندما أقول "للحقيقة وجهان"، لا أحدّد أي الوجهين يجب أن يختار آخر الملوك. يكفي أن يتنبه القارىء إلى أن للحقيقة وجهين. ثم ان جدل القصيدة صدى حرفي للنقاش الذي جرى في قصر الحمراء عشية سقوط غرناطة. القصيدة تستوحي مرحلة تاريخية وتتسرب منها دلالات إلى الراهن، فلا بد لفكرتها أن تنفضح، لكنني أحسب أن بنية القصيدة تتحمل ذلك.
عندما أقول إنني دائم الحرص على تخليص الشعر مما ليس شعراً، لا أعني الانقطاع عن الراهن والحدث والظرف. أعني فقط التخفف من النظرة الكلاسيكية لوظائف الشعر السياسية والوطنية والاجتماعية. فهذه الوظائف لا توجد الاّ على مستوى التحويل الشعري والجمالي، وليس للشاعر أن يقدّم برامج سياسية للقارىء. وهذا التمييز يسمح لي بإعادة النظر في قصائد كتبتها، وقصائد أكتبها الآن. بإعدام قصائد كاملة بحثاً عما أسميه الخلاص الجمالي من الأزمة التاريخية المعاصرة.
ترد في شعرك، بتزايد مستمر، اشارات وأسماء تاريخية وأسطورية: يوليوس قيصر، سوفوكل، غرناطة... هل ترد ذلك إلى دواع صوتية، أو تغريبية فقط؟ أم أن لها معانيَ مقصودة؟
- ليس استعمال مثل تلك الاشارات لدواع جرسية وتغريبية فقط. إنّها موظفة - اذا جاز التعبير - لاخراج الراهن، ووضعه في أيقونة أو دراما تاريخية، أي لجعل النص يعمل في اللحظة نفسها على مستويين زمنيين مختلفين.
أصعب ما يواجهه الشعر الحديث هو كيفية تعامله مع الراهن والواقع. الراهن ثقيل الوطأة إلى حد أنّك لا تستطيع الخلاص منه. إنّه ثقيل إلى حد الخفة أعني الخفّة على اللغة، والمهم أن ينجو الشعر من خطر الانجذاب إلى راهن يذوب بسرعة. الاشارات التاريخية والاسماء التاريخية تضع النص في زمن آخر. في الماضي الذي يحمي من السقوط في المباشرة. فالمفارقة أنك تحمي نفسك من السقوط في الراهن بالذهاب إلى الماضي، وهذا الماضي قد ينفتح بدوره على المستقبل.
هل الشعر بصوت الماضي ممكن أكثر؟
- نعم، لأن الماضي هو الزمن الاكثر صلابة، بل كأن فعل الزمن هو انتاج الماضي. نحن الآن في هذه الجلسة ننتج الماضي. الماضي يتحول فوراً إلى ملكية معرفية عامة. الاشارة التاريخية تنجّي النص من أن ينزلق إلى البرهة بطريقة تؤدي إلى تدهوره. كما انّها تغني بعض دلالاته، فثمة اسماء تشتمل على دلالات واشارات تقربها من أن تكون صوراً واستعارات، وهي تغنيك عن افكار وشروح، علماً ان دلالاتها واشاراتها غير ثابتة، فالاسم نفسه قد يحمل معاني مختلفة ومتضاربة.
لا يحمل الاسم دائماً دلالة خاصة.
- ليست دلالة خاصة بل هي متحركة متغيرة. إنها ترفد النص بمسافات بعيدة ضرورية للشعر.
وضوح حتى الغموض
شعرك واضح إلى حد الغموض بل إلى حد الاستغلاق أحياناً. في بعض قصائدك لا نصدق أن شاعراً يعتقده قراؤه قريباً إلى هذا الحد يضعهم، ومن دون أن يتنبهوا غالباً، في حالة من ابهام كامل، كمثل قولك "أعرف ما يحزن قلبك المثقوب بالطاووس".
- من شروط العمل الشعري أن تكون العلاقة بين الصورة والايقاع وبقية العناصر محكمة. وما من مقاييس لذلك. ما من معايير لتحديد كمية الملح في القصيدة وكمية السماء وكمية القمر. هنا يأتي دور الموهبة، والحسّ النقدي للشاعر. لا بد من علاقات دقيقة وتبادلية بين عناصر القصيدة. ثمة احياناً سيريالية محببة اذا اتسع النص لها فلا بأس من الخروج لوضع وردة او زهرة او نبتة او آلة موسيقية على مسمع من القصيدة. لكنها تأتي إلى القصيدة من الشارع، من غرفة الجيران. "القلب المثقوب بالطاووس" بالنسبة إلي صورة في منتهى الوضوح. لكني لا أعرف كيف أفسرها. نعرف كيف يفرش الطاووس غروره ويطلق بذلك احتفالاً لونياً، إذ ذاك يثقب أي قلب. أما كيف يحدث ذلك، فلست اعرف! انما الصورة أعجبتني.
أفهم ذلك، أن تجد الصورة معادلاً يمكن تخيله... لكنّ الاستغلاق هنا نابع من كون الصورة لا تملك هذا المعادل.
- الصورة ليست دائماً ذات مرجع ذهني. قد أكون عائداً من حديقة الحيوانات والطاووس، أعني ألوانه، مروحته اللونية، اخترقتني. من وظائف الشعر - وهذا ما تعلّمناه من لوركا - تغيير الحواس. كنت أكتب هذه القصيدة ربّما، ودخل الطاووس فيها. لكني لا اعتقد أن هذا خرّب القصيدة. هناك أيضاً المطبوخ بعرف الديك.
هذه الصورة ممكنة التخيل.
- ألوان الطاووس تخترق القلب كأنها تثقبه. ليس عندي دفاع علمي عن هذه الصورة.
ثلاثة أدوار... ثلاثة أقنعة
ليس هذا مطلوباً البتّة. عندي احساس أنك تكتب قصائد ثلاثاً، ولنقل إنها أحوال او محطات، كأن وراءها ادواراً مختلفة للقارىء وللشاعر ايضاً. هناك قصيدة شبكية او "تشبيكية" تمزج بين أصوات وأزمنة وحقول عدة، بين سجلات عدة. وهناك قصيدة خطية متصاعدة متسلسلة. وثمة قصيدة أخرى: صوتية. يعرف القارىء ما ان يبدأ بها انها لا تتضمن تشبيكاً ولا تضمينات كثيرة بل قافية وجرساً. انها غناء بهذا المعنى، بل أغنية. أحس أنها استراحة. احس انك تستريح في محل من القصيدة، وان في القصيدة محطات ثلاثاً هي ايضاً استراحات، بعضها استراحة للآخر او هي ثلاثة اصوات متفاوتة...
- قد تكون حيرة خيارات، او خروج من قيد الخيار. أعني أنني اخترت من سنين القصيدة الشبكية، أو ما نسميه الغناء الملحمي. لكنني أشعر بأنني أملك فائضاً قد يكون غنائياً أو صحافياً أو سينمائياً أو نقدياً وبي رغبة للتعبير عنه، راكناً إلى أن مجمل قصائدي تتحرك في فضاء نشيد. إن أنا سمحت لنفسي بأن أؤلف سمفونية، فماذا يمنعني من تأليف مقطوعة راقصة؟
هي إذاً ثلاث محطات موسيقية لقصيدة واحدة؟
- هي كذلك. ولأنني لم اكتب ملحمة، وهذه جميعها تدخل في الملحمة، تبدو كأنها أصوات مختلفة. أعترف بأنني احب الايقاع واعرف ان القصيدة الحديثة لا تحتمل ايقاعاً كالذي لقصيدة "من القطار". لكن من يؤلف سمفونية يمكنه ان يؤلف "طقطوقة" أي أغنية خفيفة، من دون أن يخشى محاكمة حداثية. يعذّبني شغفي بالغناء، تعذّبني جروحي من جرّاء القيام بضبط هذا الشغف. انتزعت من مجموعتي الأخيرة 15 قصيدة من أصل 50 بسبب ما فيها من غناء.
أحس أن هذه المقاطع التي تسميها "طقطوقة" ليست مجرد استراحة بعد القصيدة الاساسية، بل تنبع من حاجة داخلية. فالقصيدة بشكل واع او غير واع تتخذ هذه الادوار الثلاثة، هذه الاقنعة الثلاثة. قد تكون مقامات.
- يمكن ان تسميها استراحة موسيقية، لكنها ذات مردود ايجابي. انها تطمئن القارىء إلى أنك لا تزال معه، ولا تزال بينكما صحبة. لكنها ليست رشوة... لنقل إنها مساومة.
لا اعتراض مبدئياً على المساومة!
- يعني انها كصورة المثقوب بالطاووس فسحة ايقاعية.
لكنك تقاوم غنائيتك...
- أكبت الغناء لا الغنائية. أكبت اغراء الغناء بالاسترسال، وهذا ما تعلمته من سماع الموسيقى الكلاسيكية. فأنت تسمع نغمة تود لو أنّها تتكرر، لكن الموسيقي يقطعها فجأة. هذا القطع درس في مقاومة الاسترسال. للاسترسال جاذبية كبيرة، لكنه خطر على الشعر. نغمة واحدة قد تغريك بترجيعها حتى الصباح! قد تغريكَ لأن فيها رجعاً وصدى. أنا أقمع شغف الاسترسال بمتطلبات البناء. يحتاج هذا إلى تدريب، فهو كبت للنفس.
ما تسميه عذاباً وتنازعاً بين هوى التنغيم والحاجة الى ضبطه، يمكننا ان نسميه عذابك مع القافية، كما يظهر في قصائدك الاخيرة. في "أحد عشر كوكباً" هناك قافية لكنك لا تقف عندها. لا تعترف بها، تقولها ولا تقولها.
- أحياناً أخفيها، أطردها من آخر السطر وأضعها في وسطه. القافية بالنسبة إلي أشبه بزوجة مفروضة على رجلها، ولا حيلة له بوجودها. أجد نفسي مقفىً وموزوناً حتى في مقالاتي. لا يخيفني هذا في المقال، لكنني أتعمّد في القصيدة إلغاء قواف كثيرة. هذه القوافي تأتيني عفو الخاطر. إنها السليقة كما قلت. القافية جزء من الايقاع لكن الايقاع الاجمل هو الذي لا يحتاج إلى قافية. وفي الديوان "أحد عشر كوكباً" قصائد كثيرة بلا قواف على الاطلاق.
هناك شعراء كثيرون، بخلافك، يحوّلون الوزن إلى قالب.
- صحيح. بين ما يعطي شرعية لقصيدة النثر، أنها تقترح كسر نمطية ايقاعية وتسعى إلى انشاء ايقاع آخر، ليس بديلاً لكنه فعّال، فضلاً عن أنه يؤسس لحساسية جديدة. اقتراح قصيدة النثر هذا هو أهم العوامل التي جعلتني أشعر بقدرة الوزن على أن يكون نمطياً. هناك بيني وبين قصيدة النثر بالتالي حوار ضمني او مبطن. لكني اجد حلولي داخل الوزن. والوزن ليس واحداً، ولو كانت له العروض نفسها. ثمة وزن شخصي في كل قصيدة، بل اكثر من وزن داخل البحر نفسه. خذ معلقة امرىء القيس "قفا نبك..."، إنّها على البحر الطويل. هل إيقاع البيت الأوّل هو نفسه الذي لبيت آخر في المعلقة "مكر مفر مقبل مدبر معاً"؟ هل هو الايقاع ذاته الذي نقع عليه في بيت ثالث: "أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل"؟
الوزن معيار خارجي لضبط الايقاع الداخلي، لكنّه ليس مبدأ، وليس ذا شكل نهائي. الصوت الخاص لكل شاعر، الايقاع الخاص لكل شاعر، يعطي هذا الوزن موسيقى أخرى. إنه يسمى وزناً. فهو على الاقل محوّل "اداتي"، محول مادي للايقاعات الداخلية والخارجية. المقطوعة موسيقية مدوّنة بشكل ثابت ونهائي، لكننا لا نجد عازفين يؤدّيان هذه النوتات بالايقاع نفسه. ليست عندي مشكلة مع الوزن. وزني نفسه يتغير كل مرة، داخل القصيدة ذات الوزن الواحد. التفعيلة تختلف حسب توزيعها وعلاقاتها ومحمولها ونفَسها، سردياً كان ام غنائياً ام رمزياً.
ليس هناك أي قيد على حريتي في ضبط ايقاعاتي الخاصة داخل الوزن. فأنا اعتبره فقط قياس وحدات ايقاعية، لا اعتبره موسيقى لأن العروض غير الموسيقى، ورديء الشعر العربي كان موزوناً، ولكن من دون ايقاع داخلي. وفي اعتقادي أن النظم أسهل من النثر، أسهل لأنه لا يحتاج إلى مبررات جمالية تحتاج اليها قصيدة النثر، فهذه يجب أن تقول ما لا يقال في الوزن. لا أكتب قصيدة النثر لكني لا أخشى كتابتها، اذا شعرت بحاجة إلى كتابتها فسأفعل.
هل جربت مرة أن تكتب قصيدة نثر؟
- كتبت مزامير. والكثير من نثري اقرب إلى قصيدة نثر.
أعني قصيدة نثر صافية.
- ذلك يغريني. أبحث عن ايقاعية جديدة، وقصيدة النثر مجال مغر لهذا البحث. لكنني لم أجرب حتّى الآن.
هل هو اغراء أم حاجة؟
- لا. مجرد اغراء ثقافي. نداء ثقافي. ما من حاجة مباشرة. أنا أنظر إلى قصيدة النثر، عدا مشروعها الابداعي، على أنها مشروع ثقافي. فهي تطرح على الشاعر لا كأسئلة ايقاعية فحسب، ولكن كأسئلة ثقافية ايضاً.
سيرة شخصية
في "لماذا تركت الحصان وحيداً" تعود إلى السيرة الشخصية. تبدو رغبتك واضحة في تسجيل شبه واقعي أحياناً. ليس الشعر وحده مطلبك في ذلك، فثمة أبيات لا تبررها سوى حاجة تسجيلية. ويأتي ذلك بعد شعر يتجه غالباً إلى أن يكون صوتاً جماعياً او سيرة جماعية.
- قد يكون وراء ذلك خوف من مصادرة الماضي. ثمة معالم لمرحلة تاريخية جديدة تحمل هذا الخطر. مرحلة بهذا الحجم لا يمكن أن تواجه بصوت في علوها. من تقنيات الشعر انك لا تجاوب الصوت الخارجي، اذا علا وتحول إلى صخب، بصوت مثله، بل تجاوبه بالبوح الذاتي او الهمس. أنت لا تنافس حدثاً ذا وقع عال، بصوت شعري مرتفع. ثم هناك خوفنا من ان نفقد الماضي او نتركه يهرب منا. من هنا نزعتي إلى توثيق الغياب. ليس للشاعر حيال تقاطر الجيوش الامبراطورية الكبيرة رومانية وآشورية وفارسية على المرور في الساحة، الاّ أن يرجع الى الطفل الذي يتفرج من ثقب الباب على المشهد. لا يستطيع الشاعر أن يقف في طريق الجيوش ويحاورها، وليس من سبيل له الاّ أن يطل من بعيد على التاريخ ويتأمل سيره وعمله.
هذا على المستوى الموضوعي، أما على المستوى الشخصي فهي خطوة للبحث عن الشعر. وأين الشعر من هذا كله؟ انه في الاشياء الاولى، في العودة إلى السيرة الاولى، المكان الاول، الحيوانات الاولى، الطيور الاولى كما هو ملحوظ في المجموعة. كأن ثمة عودة إلى بداية التكوين. أفكر في سفر تكوين، وقد يكون سفر الخروج أو سفر الملوك. بحثت عن الشعر ولم أجده في الساحة الكبيرة، وجدته في الاشارات والظواهر والنبتات الصغيرة والشخصية جداً. وهذه لا أستطيع ان أعزلها عن محيطها الاكبر، فالعناصر الاولى، شئت أم أبيت، تحمل دلالات أسطورية أو سيكولوجية وترتبط بسيرة أكبر وأوسع. إنّه كما ترى هروب إلى داخل الذات الشعرية، احتماء بالصدَفَة الشعرية.
رأيت الموت أبيض
هل خرجت قصائد "لماذا تركت الحصان وحيداً" من المحل نفسه الذي خرجت منه قصائدك الشخصية الصغيرة التي كتبتها بعد تعرّضك لحادث صحي خطير؟
- نعم. أعتقد أن حادثة الموت السريعة التي تعرضت لها غيرّت سلوكي الشخصي، وسلوكي الأدبي، وسلوكي الشعري، إذا جاز التعبير. كنت أكثر نزقاً وعصبية، أفتقر أحياناً إلى اللياقة في تعاملي مع الناس. ولا أجعل فاصلاً بين القلب واللسان. في هذه الحادثة أبصرت الموت، وكان مرأى الموت جميلاً جداً. كان عبارة عن نوم، عن نوم على قطن أبيض - هكذا شعرت - وتحليق على غيوم. شاهدت في ما بعد برنامجاً على شاشة التلفزيون الفرنسي، عن تجارب الذين مروا بالحادثة نفسها. الغالبية رأت هذا البياض، وعلامة العودة من الموت إلى الحياة كانت الاحساس بالألم. نجح الاطباء في اعادة القلب إلى العمل بالصدمة الكهربائية، وبالضرب بالقبضة على الصدر، فكانت الاشارة الاولى على رجوعي إلى الحياة هي الاحساس بالألم. هذا ما حاولت ان اسجله في قصائد صغيرة كتبتها عن المستشفيات.
قد يكون هناك موت موضوعي، لا يتهدد شعباً ولا تاريخاً فحسب، ولكن عالماً بكامله. والدفاع الغريزي، عبر الرجوع إلى براءة الحيوان، هو الذي قادني إلى هذه المنطقة. لم يكن هو الذي كتب. دلني فقط على السفوح والوديان الصغيرة والحقول التي يجب أن اشتغل عليها، لكن الوعي طبعاً هو الذي كتب. كل هذا دفاع. دفاع وشعور بموت عالم ما، حقبة تاريخية ما. هذه طريقة الكائنات الصغيرة في الرد على العواصف الكبرى. تختبىء بين حجرين صغيرين، في أخدود، ثقب، شجرة، والشعر ليس اكثر من هذا. إنه ذلك الكائن الصغير الذي احتجنا إلى وقت لنعلم أنه ليس بالقوة التي حسبنا. قوة الشعر في هذه الهشاشة بلا شك. ثمة قوة للشعر، وانا مؤمن بأن له فاعلية غير عادية، لكنها قوة أبرز اسلحتها الاعتراف بالهشاشة الانسانية. وأنا اخرجت كل اسلحة هشاشتي للرد على عواصف التاريخ، لا لشيء الاّ لأتمكن من تبرير وجودي.
تكلمت عن موت موضوعي، عن "موت عالم". هل يقترح عليك ذلك مقاربة أخرى للعالم، طريقة جديدة في التعامل معه، مع الموضوعات، مع اللغة؟ هل يحثّك هذا الموت على النظر من زوايا مختلفة إلى المشاكل ذاتها التي تناولتها من قبل؟
- أعتقد انني على امتداد زمن مرئي وجدت طريقي. قصائدي العشر الاخيرة تضعني على طريقة الرحلة بين الاسطوري والهش الانساني والشخصي، وهذا في ما أحسب "أتوستراد" كبير ويتسع. أنا مطمئن إذاً إلى أني لست في خطر بطالة تعبيرية. لست ذاهباً إلى بطالة، خصوصاً انني اتحاشى التقدم في خط تصاعدي مثلاً. المنطق يقول إن عليّ بعد "أحد عشر كوكباً" أن أتطور في سياق ملحمي. وان اعد لعمل ملحمي بدأت أعد له بالفعل، فهو يحتاج إلى قراءة سنين، وكان عن عصر جنكيز خان وأحفاده، أي عن الفترة المغولية والحضور المغولي في التاريخ العربي وفي تاريخ العالم. فالمغول أنشأوا أوسع الامبراطوريات مساحة في تاريخ العالم، أنشأوا امبراطورية على ظهور الخيل، ثمة مرحلة مغولية تخصنا لكنني لاحظت للأسف أن الأدب العربي لا يحفل بها.
لكنني بعد "أحد عشر كوكباً" لم أواصل خطاً تصاعدياً، بل انعطفت إلى خط غنائي شخصي. ربما استرداداً لأنفاسي أو بهدف لمّ شتات شاعريتي. المشكلة ليست في الشاعرية، ولكن في تحقيق القصيدة كما تعلم. ليس من الضروري السير في طريق تصاعدي. اذا وصلت إلى قمة فمن الخير أن تكون منبسطة لا حادة لتكون الحركة فيها أيسر. طريقي مفتوح. وهذه النزعة ليست غريبة عن تاريخي الشعري، ولكن علي أن أقتصد أكثر، وأن أتخصص في المناطق التي تتجلّى فيها شاعريّتي. قد يقال كل شيء في القصيدة، ولكن علينا أن نبتعد بالشعر عما يشاغب عليه، عن خطر العابر والراهن والآني وخفة الواقعي - خفته لا ثقله. أظن أنني أمسك بمسارب ومخارج تحميني من المأزق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.