ليست المرّة الاولى التي يسافر فيها عابد عازرية عبر الحضارات، أو يغوص على الكنوز الموسيقية القديمة. لكن رحلته عبر الثقافات وأشكال التعبير والمدارس الفنية، تكتسب هذه المرة، مع أسطوانته الجديدة "نصيب" بعداً خاصاً. لأنها عودة الى جذور بعيدة، الى زمن خصب شهد تلاقح لغتين وثقافتين وحساسيتين: إنه العصر الذهبي الذي احتضنته الاندلس. من ملحمة "جلغامش" وحضارة ما بين النهرين، الى تراث المتصوّفة، مروراً برواد القصيدة العربية الحديثة، كان هذا الموسيقي السوري المستقرّ في باريس منذ عمر، يبحث دائماً عن نقاوة لا تسمّى، عن أصالة أخرى... عن مساحة مشتركة بين روافد كثيرة، تصلح للتأمل وتتسع للوجد. غنّى السيّاب وأنسي الحاج، الماغوط ودرويش وأدونيس، غنّى الحلاج وابن عربي ورابعة العدوية... قبل أن تقوده خطاه الى أرض خرافية سكنها أجداد بعيدون. أسّس عازرية الذي يعتبره البعض "شادي عبد السلام الأغنية العربية"، لمنحى مختلف في الغناء العربي المعاصر. منحى لا يحظى بالاجماع ولا يتمتّع بالجماهيريّة، بل أنّه اختار طوعاً الهامش الذي تتطلّبه أساساً موسيقاه الفلسفية والتأملية. وفي اسطوانته الجديدة يغامر بوضع الموسيقى العربية في مواجهة مع موسيقى الفلامنكو، يزاوجهما بحثاً عن أسرار الطرب الخفيّة. والادب حاضر كعادته: من شعر فدريكو غارسيا لوركا الى قصائد شعراء مجهولين من الاندلس محمد بن عبّادة، أبو الوليد يونس بن الخبّاز... التي يستعيد معها الايقاع الخفيف، النبرة الدارجة والاجواء الشعبية الراقصة. في "نصيب" يلتقي التخت العربي بآلاته الوترية والنقرية مع موسيقى الفلامنكو براقصيها ومنشديها ومصفقيها، وبموسيقى الحجرة خماسي وتري الكلاسيكية الغربية. ويتعانق المقام العربي بالمقام الاسباني فيما ترافق موسيقى الحجرة الغناء الاندلسي المنفرد سولييا، بالعربية عازرية ثم بالاسبانية بيدرو أليدو. هكذا يجد المستمع نفسه فوق أرضية مثالية تنصهر عندها الحضارات، تتحاور الآلات والانغام، وتتواصل اللغات والاديان والعصور. "نصيب" هي أيضاً مهرجان ألوان وايقاعات وصور ومشاهد، احتفال حسيّ بالحب والفرح والرقص، على طريقة القرون الوسطى، انطلاقاً من موشحات أندلسية لمؤلفين مجهولين من القرن الحادي عشر للميلاد. ويستعد عابد عازرية لاصدار أسطوانة ثانية بعنوان "لازورد"، يستكمل فيها المشروع الابداعي الذي عُرف به. يؤدي هذه المرة فيها نصوصاً عربية عريقة، قاربها من زاوية "الحب والتمرد"، ومنحها بعداً اضافياً عبر الموسيقى: طرفة بن العبد، المعرّي من "اللزوميات"، المتنبي، بن عربي من "ترجمان الاشواق"، عبد القادر الجزائري، أنسي الحاج سوف يكون، أدونيس حاملاً سنبلة الوقت، الخيّام...