ضمن موسم "فن الفلامنكو" على مسرح "قاعة الملكة اليزابيث" في لندن قدمت فرقة "موزيكا الهامبرا" موسيقى الحمراء بقيادة العازف المرموق خوان مارتن عرضاً ساحراً من ساعتين استكشفت فيه الجذور التاريخية لهذه الموسيقى الاسبانية الشهيرة. وأوضح الموسيقار مارتن للحضور أن الفلامنكو كما نعرفه الآن يعود الى نحو 250 سنة، لكن جذوره ترجع الى الموسيقى العربية، المشرقية منها والأندلسية، والسفاردية اليهودية، اضافة الى الأغاني الشعبية من كاستيل والأغاني الهندية. سلط العرض الضوء على العلاقة المثمرة التي نشأت بين خوان مارتن وعازف العود والمغني اللبناني عبدالسلام الخير. ويعرف ان من الصعوبة ايجاد التوازن بين الغيتار والعود في المقطوعات المشتركة، لكن مارتن والخير برهنا على قدرتهما على التغلب على الصعوبة، وكانت النتيجة حواراً رائع التناغم بين الآلتين. كما قدم عبدالسلام الخير عدداً من الأغاني العربية لقيت نجاحاً ملحوظاً من الحضور. ورافق الاثنين ضارب الطبلة والدربكة كريس كاران اليوناني الأصل، الذي كان درس الفن على يد علا راكاح ضارب الطبلة في فرقة عازف السيتار الهندي الأشهر رافي شنكار. وكان من بين المقطوعات المتميزة الحوار بين الطبلة وغيتار الفلامنكو، على نغم جاء به الغجر من شمال الهند الى اسبانيا كما يعتقد خوان مارتن. العازفان الآخران في المجموعة كانا الزوجين سارة وكيفن مورفي اللذين درسا الموسيقى الكلاسيكية الغربية أولاً ثم الموسيقى الفولكلورية العالمية في تركيا. ساد العرض جو من الود والبعد عن التكلف. وقال مارتن: "عندما نقدم عرضا نشعر وكأننا مع اصدقاء جاؤوا لسماعنا. أنا شخصيا لا أميل الى الاجواء الرسمية". وقدم مارتن لكل مقطوعة بتعليقات مفيدة لا تخلو من الطرافة عن تاريخها. نشأ عبدالسلام الخير في مدينة طرابلس حيث درس العود والغناء، خصوصا الموشحات، قبل ان يتابع دراسته في معهد الموسيقى في بيروت. وبدأ حياته الفنية في الاذاعة اللبنانية. وفي اواسط السبعينات انطلق في انحاء العالم، ومن بين الدول التي أمضى فيها فترات وقدم عروضاً سورية والعراق والكويت وفرنسا واستراليا. وهو يعمل أيضا في مجال التأليف الموسيقي، ووضع موسيقى الفيلم الفرنسي "مريم الناصرية". كما ساهم في تأليف وعزف القسم العربي من اسطوانة "نو كوارتر" لا رحمة لموسيقيي الروك روبرت بلانت وجيمي بيج، من فرقة "ليد زيبلن" الشهيرة. أما خوان مارتن فيسكن في لندن منذ 25 سنة، وله ايضا بيت في ملقة في جنوباسبانيا. واصدر عددا من التسجيلات لمؤلفاته في موسيقى الفلامنكو، اضافة الى كتاب تعليمي عن اصول هذا الفن. كما تعاون مع عدد من الفنانين في مجالات موسيقية اخرى، من ذلك مشاركته في مهرجانات للجاز مع موسيقيين امثال مايلز ديفيز وهربي هانكوك ووين شورتر. وفي مجال الموسيقى الشرقية شارك مارتن في حفلات مع موسيقيين مثل عازف الناي الأشهر في تركيا قدسي ارغندر، اضافة الى فرقة موسيقية من تركمانستان. بدأ مارتن ابحاثه في جذور الفلامنكو منذ زمن طويل، وأصدر في العام 1977 تسجيلاً باسم "الجحافل العربية" مستوحى من الفتح الاسلامي للاندلس في العام 711 للميلاد. وشكّل فرقة "موزيكا الهامبرا" قبل سنوات، وتعرف على عبدالسلام الخير من خلال عازف الدربكة روني باراك. يقول مارتن ان من بين اسباب النجاح الفني لعلاقته مع الخير، اضافة الى قدرة الاخير الموسيقية، عمق ثقافته الموسيقية المتأتية من دراسته للفن في معهد بيروت للموسيقى. وهذا ما يمكنه من تعليم اصول الموسيقى العربية للعازف والباحث الأوروبي في شكل منظم ودقيق. ويضيف مارتن انه يحرص على ان القسم العربي من موسيقى الفرقة يجب ان يكون حقيقيا تماما وليس نسخة مقاربة للأصل. بدأ مارتن عرضه الأخير في "قاعة كوين اليزابيث" في شكل درامي، اذ تقدم وحده الى المنصة ليعزف على الغيتار مقطوعة بعنوان "مرثية لليناريس"، مهداة الى تلك المدينة في الأندلس. وانضم اليه بعد ذلك كريس كاران وعبدالسلام الخير لعزف قطعة من تأليف مارتن بعنوان "من دمشق الى قرطبة"، تبدأ بموسيقى عربية صافية تتحول شيئا فشيئا الى الاسبانية لتنتهي الى انغام الفلامنكو. ويقول انها توحي بتلك الفترة التاريخية الرائعة عندما تعايش العرب والأوروبيون في اسبانيا. القطعة الأخرى التي تمزج بين الموسيقى العربية والاسبانية كانت "تارانتا - حجاز" التي تشارك في تأليفها مارتن والخير. ونسمع في قسم من القطعة عبدالسلام الخير وهو يعزف نغما عربيا خالصا يقلده مارتن على الغيتار، الى أن يتصاعد الغيتار شيئا فشيئا ليستحوذ على الموسيقى. كما استلهم مارتن من الموسيقى العربية مقطوعة "عاطفة الرثاء"، التي تشمل غناء عربيا من الخير على انغام الفلامنكو، فيما ترتجل آلة الكلارينيت انغاما تشبه الجاز. عزفت الفرقة ايضا مقطوعات عربية غنى فيها الخير، من بينها اغنية "لما بدا يتثنى" التي يعتقد بأنها تعود الى القرن الثاني عشر او الثالث عشر في الأندلس. وسمعها مارتن للمرة الأولى على شريط لحفلة موشحات قدمتها في اشبيلية فرقة من الجامعة اللبنانية. وقال الخير ان هذا اللحن يعود اصلا الى بغداد ونقله الى الاندلس المغني العباسي زرياب. ومن المقطوعات الأخرى التي عزفتها الفرقة "زوروني كل سنة مرة" لسيد درويش و"البنت الشلبية" للأخوين رحباني، اضافة الى "انغام من القاهرة" مستوحاة من موسيقى محمد عبدالوهاب. اضافة الى هذه الأصول العربية للفلامينكو، عزفت الفرقة عددا من اغاني اليهود السفارديم التي رافقها الغيتار والناي والكلارينيت. وعزفت سارة مورفي بالاشتراك مع مارتن قطعة "تنويمة لطفل" ألفها شاعر اسبانيا فدريكو غارثيا لوركا، الذي كان موسيقيا موهوبا اضافة الى انه شاعر ومسرحي تصادف هذه السنة مئوية ميلاده. يقدم مارتن سنويا دروسا في الفلامنكو في مدرسة دارتنغتون الصيفية في مقاطعة ديفون في جنوب غرب انكلترا التي يحضرها الكثير من اهم الموسيقيين في العالم. وساهم الخير في التدريس السنة الماضية، وكانت تجربة ناجحة. ويقول مارتن ان دارسي الة اللوت الأوروبية القديمة المشابهة للعود أبدوا اهتماماً بالغاً بالعود. كما اهتم مغنو الأوبرا والكورال بالموشحات والسلّم الموسيقي العربي. يشارك مارتن في "مهرجان مارلبورو" في 14 من الشهر المقبل وفي "مركز واترمان للفنون" في لندن في 17 منه. كما تقدم فرقة "موزيكا الهامبرا" عرضا جديدا في قاعة دارتنغتون الكبرى في 20 من الشهر نفسه وعرضا للفلامينكو في التاسع والعشرين منه مع مغن وراقص، اضافة الى راقصة الفلامنكو المشهورة راكيل. تعمل الفرقة حاليا على اصدار تسجيلها الثاني، الذي يأمل مارتن بتوزيعه في الخريف. ويرى ان هناك مجالاً مفتوحاً لتطوير التعاون مع موسيقيي الشرق الأوسط، ويقول انه اعجب بآلة القانون ويرغب في ادخالها في موسيقاه، لكنه عموما لا يريد لفرقة "موزيكا الهامبرا" التوسع أكثر من حيث العازفين والآلات