استفدت من الاشهر الستة التي قضيتها في الكويت فائدة جلّى فقد كشفت لي اخلاق الشيوعيين في بيوتهم دون طلاء ولا خوف من رقابة أعداء الحزب. فقد نزلت أنا ومحمد حسين - رفيقي العربي من ايران - في بيت يسكنه ستة من الشيوعيين العراقيين الذين كانوا قد فروا الى الكويت بعد ان أصدرت المجالس العرفية أحكاماً بسجنهم. وكان ثلاثة من رفاقنا الذين نساكنهم مصابين بالسل، وقد رفضوا الرقود في المستشفى الا احدهم الذي دخل المستشفى فيما بعد. ... كان الرفاق الشيوعيون يعاملونني أنا وصديقي محمد حسين معاملة خشنة ووقحة لأننا "أفندية" من الطبقة البتي بورجوازية البورجوازية الصغيرة. وكانت المعارك مستمرة بيني وبينهم حول ما أقرأ. فاذا أردت ان تقرأ قصة فلا تقرأ غير قصص مكسيم غوركي وتشيكوف وايليا اهرنبرغ، أو قصص الكتاب الشيوعيين في سورية ولبنان أمثال دكروب وحنا مينه وسواهما. واذا اردت ان تقرأ شعراً فعليك بأشعار ناظم حكمت وبابلو نيرودا وسواهما من الشعراء الشيوعيين. والجريدة التي يجب ان تقرأ هي "الثقافة الوطنية" الشيوعية اللبنانية، أما مجلتنا فهي "الطريق" الشيوعية. لقد وجدت ذات يوم، في احدى مكتبات الكويت، قصة للكاتب الانكليزي الكبير د. ه. لورانس المسماة عشيق الليدي تشاترلي. وثار الشيوعيون حين رأوها في يدي ومنعوني من قراءتها… ثم صادروها. وفي ذات ليلة كان أحدهم يقرأ في القصائد التي ترجمها الى العربية عن ناظم حكمت الدكتور علي سعد، فارتسمت تحت شاربيه الكثيفين ابتسامة، ثم قال بلهجة العالم الفيلسوف: "ترى استاذ، ناظم حكمت أعظم من شكسبير" ورغم السيطرة التي حاولت فرضها على عواطفي فان الغيظ غلبني فصحت به محتداً من هذه الوقاحة والتطاول على شؤون الأدب التي لا يفقه شيئاً فيها: "أخي، انت قارئ شكسبير؟ أم انت قارئ كل ما كتبه ناظم حكمت؟". فأجاب بالصفاقة التي يندر وجوها عند غير الشيوعيين: "أي. قارئ الكتاب الذي أصدرته سلسلة أقرأ عن شكسبير وقارئ أربعاً من قصائد ناظم حكمت في هذا الكتاب". فقلت له: "انني قرأت معظم ما كتبه شكسبير في لغته الأصلية وقرأت من شعر ناظم حكمت ورفاقه أكثر مما قرأت أنت". قال: "هذا رأيك الشخصي، ولا تستطيع ان تفرضه علي. فأنا أعتبر ناظم حكمت أعظم من شكسبير لأنه يعبر عن أفكاري وآمالي". فأجبته وأنا أحاول التحدث بكل هدوء: "لو وقف "الكرين" الذي تسوقه، ثم جئنا أنا وأنت لنتفحصه وقلت انت شيئاً عن سبب وقوفه، وقلت أنا شيئاً، فأي القولين هو الأصح؟ طبعاً قولك، لأن هذه هي شغلتك. وكذلك أنا. ان الأدب هو شغلتي، وقد تخصصت بالأدب الانكليزي في دار المعلمين العالية…". وهاج الرفيق وصاح: "دار المعلمين العالية؟! يعيرنا بشهادته. نحن يا عمي عمال وقد تكون أنت قد درست الأدب الانكليزي في دار المعلمين العالية. ولكن سيأتي يوم حين نجلس نحن الذين لا نعجبك وراء منصات القضاء لنحاكمكم". لقد حقق الشيوعيون وعيدهم هذا فشهدت الموصل وكركوك "قصابيهم" يجلسون وراء منصات "قضاء الغوفاء" ويصدرون أحكامهم باعدام كل عدو للشيوعية، بل كل من ليس شيوعياً… ثم تنفذ تلك الأحكام في الحال. * نقتطف هنا مقاطع من المذكرات التي نشرها السياب خلال العام 1959 على حلقات في صحيفة "الحرية" العراقية، تحت عنوان: "كنت شيوعياً".