كنت بعد في أول العشرينات من عمري حين تلقيت دعوة مفاجئة للمشاركة في مهرجان المربد الشعري في العراق قبل تسعة وعشرين عاماً. كان الفضل في تلك الدعوة، المبكرة بالنسبة الى الشعراء تلك الأيام، يعود الى الصديقة القاصة ديزي الأمير التي عملت جاهدة على أن أكون في عداد الشعراء اللبنانيين المشاركين، اضافة الى حسن عبدالله ومحمد علي شمس الدين. وربما كان للأمسية الشعرية التي أقمتها في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الدور الأساس الذي دفع بديزي الى انتدابي لتلك المهمة بالتنسيق مع حبيب صادق، الذي كان لا يزال زوجها في ذلك الحين. يومها فرحت بالدعوة أشد الفرح. ليس فقط لأنني لم أكن ركبت الطائرة من قبل ولا لكوني، أنا الشاعر اليافع، سأقف جنباً الى جنب مع شعراء العربية الكبار، بل لأنني سأزور البلد الذي ينتمي اليه بدر شاكر السياب والمدينة التي خصها بأعذب القصائد، أعني بها مدينة البصرة التي استضافت المهرجان لدورات عدة قبل انتقاله الى بغداد. وإذا كانت تجربة الطيران بين بيروت ومدينة الرشيد أمراً بالغ الإثارة بالنسبة إليّ، فإن تجربة السفر في القطار من بغداد الى البصرة شكلت الجزء الأكثر اثارة وامتاعاً من الرحلة. فلطالما افتتنت منذ طفولتي بصفير القطارات التي تستعد "لنهب الأرض"، وفق تعبير أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة عن القطار، والتي ترمز الى المستقبل الحافل بالوعود في مسرحية "المحطة" للأخوين رحباني. بات القطار في مخيلتي المبكرة رمزاً لسبر المجهول واكتشاف الأماكن غير الموطوءة التي تتقاطع مع الشعر في غير وجه من الوجوه. وإذا كانت الطائرة فقدت بريقها بعد ذلك، بفعل العادة والتكرار، فإن القطار بخلاف ذلك ظل متحداً بصورته الأم التي تجعله كالقصيدة رحلة بلا عودة وسفراً باتجاه واحد. وفي حين تكتفي الطائرة باختزال السفر الى نقطتين اثنتين، نقطة المغادرة ونقطة الوصول، يتكفل القطار باعادة الاعتبار للرحيل ذاته، محولاً المسافة المقطوعة الى متعة بصرية مترعة بالرؤى والمشاهد. إنها المتعة نفسها التي نشدها كافافيس في قصيدته المؤثرة عن إيتاكا والتي تجعل الرحلة في حد ذاتها توأماً للحياة فيما تتحول نقطة الوصول الى معادل للموت. منذ اللحظة التي انطلق فيها القطار باتجاه البصرة انكشف لنا المعين الهائل الذي كان بدر شاكر السياب يغرف من قيعانه العميقة مياه الشعر. فالمدن القديمة المترعة بالنخيل والقباب وأضرحة الأئمة المذهبة، والقرى الطينية المصنوعة من الحجر واللِّبن، والصحارى الشبيهة بالحرائق وبخار الأزمنة على جانبي الفرات، ومستنقعات القصب والمياه الموحلة في الأهوار لم تكن جميعها سوى انعكاس مشبع بالترجيع لقصائد السياب التي كنا نرددها بصوت يشبه صوت الشاعر المتهدج في ردهات كلية التربية وسهرات الشعر والمنادمة في البيوت. هكذا رحنا نتعلق على امتداد الرحلة بأهداب القصائد التي تركها صاحب "أنشودة المطر" بعد رحيله ونتبارى في استظهار أشعاره عن ظهر قلب، فيما كانت ضحكات الكاتب الراحل علي الجندي تتناثر على الجلسات وتخفف قليلاً من وطأة الحزن الذي تخلفه القصائد الملقاة في نفوس المسافرين. بدت البصرة لدى وصولنا اليها شبيهة الى حد بعيد بصورتها في المخيلة. فتلك المدينة الممتدة في شكل أفقي على مرمى البصر كانت تحدودب على تاريخها كظهور الأمهات الثكالى وتنصت باهتمام بالغ الى صفير السفن المقبلة أو المغادرة فوق مياه شط العرب، بقدر ما تنصت الى بحارتها الأوائل وحكايا الجدات وأساطير السندباد، "حللتم مثلما حل السحاب/ وطبتم مثلما طاب الشراب". بهذا البيت الشعري استهل الجواهري قصيدته في افتتاح المهرجان مرحباً بالشعراء الضيوف، قبل أن تحمله الأيام الى منافيه الكثيرة، وكرت بعدها سبحة الشعراء الذين توالوا واحداً بعد الآخر على منصة الإلقاء. قرأ نزار قباني بعضاً من غزلياته المعروفة، وقرأ شوقي بغدادي "قصيدة بحجم الفم"، وعلي الجندي "ميلي يا نخلة هذا الوطن العربي"، وعبدالرزاق عبدالواحد عن حرب تشرين ومحاكمة الجندي الذي لم يغادر الدبابة، وممدوح عدوان عن الوطن والمخبرين، ومحمد علي شمس الدين "قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا"، وحسن عبدالله "قصائد منقولة بتصرف عن قيس بن الملوح"، وأحمد دحبور "حكاية الوالد الفلسطيني" وغيرهم آخرون ممن لا سبيل الى ذكرهم جميعاً. والبصرة التي ارتدت حلة العيد استقبلت قصائد الشعراء بالفرح والتهليل بعد أن وقف أهلها على جوانب الطرقات يستقبلون الشعراء أنفسهم بالورد وسعف النخيل ويشعرونهم، لمرة وحيدة، بأنهم أمراء الأرض وملوكها الحقيقيون. ففي العراق وحده ينتصر الناس للشعر بهذه الطريقة ويحفظونه، كما يكتبونه، عن ظهر قلب ويعيدون للشعراء ذلك الإحساس بالكرامة والتعظيم الذي افتقدوه منذ زمن. ومع ذلك فلم يكن للزيارة أن تكتمل فصولها وللمهرجان أن يتم من دون اقتفاء أثر الشاعر الذي انجبلت روحه بتراب العراق ورفرفت أطيافه فوق كل زاوية ومنعطف. كان لا بد بداية من أن نتعرف الى تمثاله الذي ينتصب بمهابة مؤثرة على ضفاف شط العرب. ذلك التمثال الذي يحمل قامته النحيلة وسحنته الحزينة المتطلعة في شكل غامض الى أفق غير منظور من الألم والمكابدة، والذي نقشت على قاعدته أبياته الرائعة المثخنة بالغربة والأمل: "الشمس أجمل في بلادي من سواها/ والظلام/ حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق...". كانت البصرة كلها تمر من تحت تمثال الشاعر الذي تكفل الموت إنصافه بعد أن أسلمته الحياة الى الجوع والمرض ولم يجد جثمانه العائد من المستشفى الأميري في الكويت من يحمله الى مثواه الأخير غير حفنة قليلة من المشيعين لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وسط غابة كثيفة من أشجار النخيل كانت تمتد طريق أبي الخصيب المفضية الى جيكور التي حولتها قصائد السياب الى قرية بحجم العالم. كان الباص الذي أقلنا يترنح متمهلاً فوق طرق ترابية مملوءة بالحفر ويعبر منعطفات كثيرة ما لبثت أن انفرجت عن بيوت صغيرة شبيهة بالأكواخ قيل انها قرية الشاعر. حين نزلنا من الباص كان علينا أن نعبر فوق ألواح خشبية متراصفة يجري من تحتها نهر بويب الصغير. لم يكن أحد بيننا ليصدق ان تلك الساقية النحيلة من المياه لم تكن سوى النهر الذي حمله السياب على التعاظم وضاعف من منسوبه في الشعر لكي يصبح في مخيلتنا رديفاً لأنهار العالم الكبرى. كانت بيوت جيكور القليلة تستسلم لعزلتها الدهرية الصامتة عند طرف العراق الجنوبي، فيما كان عدد من الأطفال الملفوحين بسمرة الشمس والعوز يتابعوننا بدهشة من لم يروا غريباً من قبل. وهناك عند آخر الزقاق وصلنا الى بيت السياب المتواضع الذي لم يكن يختلف عن بيوت القرية الطينية في شيء. وإذ قادنا الدليل الى الغرفة التي كان يسكنها الشاعر مطلاً من نافذتها المهترئة على شباك حبيبته "وفيقة" المقابل حتى شرع الشاعر الليبي ابن الطيب في بكاء مؤثر لم يملك له دفعاً. بعضنا اغرورقت عيناه بالدموع مشاركة منه للشاعر المجهش وبعضنا الآخر راح يوزع نظراته بالتساوي بين النافذتين. من هنا إذاً انبجست أجمل القصائد البكر وأكثرها عذوبة. من هذه الغرفة الضيقة وذلك الشباك القصي أتيح للحداثة الشعرية العربية أن تؤسس لنفسها أرضاً من المغامرة وفضاء من الحدوس. من ذلك الزقاق الضيق الواقع بين صفين من النخيل أطلق الشاعر العاشق نداءه الشجي: "عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر". وإذ كان الباص يحملنا من جديد على طرق الشمال كنا نلتفت بالعين والقلب الى حيث أودع السياب قلبه وحنينه ومستودع رؤاه. الآن وبعد تسعة عشرين عاماً على تلك الزيارة الفريدة لا نعرف ما أصاب جيكور من ألم وهي ترمق بعينين فاغرتين جحافل الغزاة المحتلين. أين أصبح أولئك الأطفال الذين رأوا فينا يومها صورة الغرباء الذين اقتحموا على حين غرة عالم سكينتهم الهانئة؟ وما الذي تفعله غابتان عزلاوان من نخيل تتجدد أحزانه المقيمة حرباً بعد حرب؟ أسئلة كثيرة تدور في الذهن و"الغريب على الخليج" ما زال على رغم قبره هناك لا يجد من يعيده الى خليجه سوى رجع القصيدة وبقية أملٍ معفر بالدم.