"هل نريد ان نكون نسخة طبق الاصل عن بعض دول العالم الثالث او بعض الدول العربية حيث الاعلام اداة للسلطة والهيمنة... وحيث يصبح التلفزيون والراديو ناطقين باسم الحكم وصوت المعارضة مخنوقا ومقيّدا ام نريد ان نكون نموذجا لدولة عصرية متقدمة واثقة من ان تصارع الافكار والمواجهات والنقاشات والحوارات كما الخلافات الداخلية تشكل منبعا يُكسِب التعبير او التمثيل الفلسطيني العام غنى وثقة بالذات... فيكون التلفزيون والراديو منبرا مفتوحا يهدف الى زيادة الوعي عبر بث معلومات تتصف بالدقة والواقعية والمصداقية تكون منطلقا للتأمل والبحث والاستكشاف؟" على مفترق تلك السكّتين وضعت حنان العشراوي بنيان التلفزيون الفلسطيني الجديد وذلك خلال كلمة القتها امام مجموعة من الاعلاميين الفلسطينيين اتوا من الداخل والخارج للمشاركة مع ممثلين عن هيئات اعلامية دولية واوروبية في مؤتمر دولي مصغر نظمته مؤسسة القدس للسينما Jerusalem Film Institute بالتعاون مع شركة إينترنيوز Internews الاميركية للاتصالات الاعلامية في بداية هذا العام في القدس، نوقشت فيه للمرة الاولى "التحديات والتوقعات" التي تواجه تأسيس التلفزيون الفلسطيني. لكن طرحها هذا لم يقتصر على تحديد الاسس والمفاهيم المبدئية التي يجب ان ترتكز عليها وسائل الاعلام الفلسطيني الجديد فحسب اذ يكشف ايضا عن مكمن الازمة الحقيقية والعسيرة التي تُقلق العديدين في اوساط الكوادر الاعلامية الفلسطينية وهي علاقة السلطة السياسية او وزارة الاعلام باجهزة الاعلام ونظمها و"مهنيتها" والعاملين فيها وماهية المنهج الاعلامي والفكري الثقافي الذي تنوي تلك السلطة اعتماده وتكريسه. ويزداد الامر تعقيدا حين تبرز المفارقات الكثيرة والمتشعبة في مسار ذلك المشروع. فتأسيس التلفزيون الفلسطيني يتزامن وبداية بناء السلطة الوطنية السياسية التي تخوض تجربة اعلامية جديدة من نوعها لا سابقة لها في المسار الفلسطيني وهي في الوقت نفسه منهمكة في ورشة متابعة المفاوضات يحاصرها ارث ماض سياسي يثير الجدل وحاضر مزروع في حقل ألغام. ومما يزيد الطين بلة ان ممارساتها الاولى في حقل تنظيم الاعلام اتسمت بالصدامية فأصدرت قرارها بإغلاق صحيفة النهار واعترضت اقلاما في صحيفة القدس. مؤشرات باتت تؤكد مخاوف المعنيين والعاملين في الاعلام. ازدواجية على المستوى السياسي بالنسبة الى داوود كتّاب، رئيس مؤسسة القدس للسينما فإن "سيطرة الحكومة" على اجهزة الاعلام الجديدة موضوع حاصل "فالتعيينات والمناصب تتم سياسيا والمهنيّون يُهمّشون" ويذكر كتّاب مثل "هشام مكي مدير فرع الاذاعة والتلفزيون في غزة الذي تم تعيينه من منطلق سياسي وهو يتمتع برتبة عسكرية ومكتبه الحالي في مبنى الشرطة. اما مهنيا فكانت لديه شركة انتاج في الاردن وتجربة الصحافيين معه تجربة سيئة وقد رفض أخيراً الايعاز الى مجموعة شباب للمشاركة في دورة تدريب مهنية تقام في القدس." ويضيف "اما التعيينات الاخرى فكانت جميعها سياسية وصدرت من تونس باستثناء وحيد وهو باسم سميّه الذي كان يعمل في اذاعة مونتي كارلو". اما هيئة الاذاعة والتلفزيون التي تم تشكيلها منذ سنة "فلم يجتمع مجلس امنائها الا مرة واحدة" ويتساءل كتّاب عما اذا كانت كل هذه الممارسات "عوامل تفرزها الفترة الانتقالية ام انها ناتجة عن غياب للرؤية الفلسطينية" ليتابع مرجحا كفة الاحتمال الاخير "العمل ما زال فرديا، غير مخطط له، يغلب عليه الطابع الارتجالي والبنية البشرية المكلفة ضعيفة والمشاكل كبيرة". اولها ربما غياب تلك "الرؤية الفلسطينية" التي عرفت حنان العشراوي كيف تطرحها وتحدد منطلقاتها ومراميها في كلمة افتتاح المؤتمر. فالخيار هو بين اسلوبيّ تفكير وعمل، بين منهج اعلامي ديموقراطي عصري معترف به دوليا يقوم على مبادئ الديموقراطية "ليس كشعار، تقول العشراوي بل من مفهوم احترام التعددية وحماية حقوق الانسان والحفاظ على الحريات ضمن نظام يرتكز على الكفاءة والفعالية والمسؤولية، يعتمد الانفتاح والمصداقية فيتيح المجال امام حرية التعبير عن تعددية الافكار وتنوعها" وبين منهج "قمعي اوتوقراطي". في تلك المنطلقات يرى داوود كتّاب "التحدي الفكري" الاكبر الذي يواجهه التلفزيون الفلسطيني والعاملون في اطاره ويطرح السؤال حول "النمط الفكري الذي سيعتمده التلفزيون واسلوب العمل. فهل يكون اسلوبا مركزيا يسيطر عبره الجانب السياسي على الجانب المهني ويصبح التلفزيون اداة الحكومة؟". الرجل متشائم "فالتعيينات وبعض المؤشرات تدل على ان "المقتنعين بضرورة انشاء تلفزيون عام تسيّره المهنية العصرية هم اقلية في هيئة التلفزيون والاذاعة الحالية". في المنتدى الديموقراطي المعادلة معكوسة اذ اجمعت اصوات الحاضرين والمشاركين في المؤتمر على مفاهيم مشتركة اساسية اوضحتها المخرجة السينمائية مي مصري في حديثها الى "الوسط" خلال عرض تقويمي للمؤتمر الذي "فتح المجال امام طرح المشاكل والعقبات على ضوء لتعالج منذ البداية." اما توصيات المؤتمر الاعلامي التمهيدي فاوردتها قائلة "اولا ان يكون التلفزيون غير مرتبط او محكوم، من قبل المؤسسات الخاصة اي ان يكون تلفزيونا عاما للناس. لا يخضع للرقابة يطلق حرية التعبير ومختلف وسائل التعبير الديموقراطي. ان يكون مفتوحا لمبادرات من خارج الجهاز الاداري الرسمي كأن يساهم قطاع الانتاج الخاص باعداد وتمويل برامج أفضل نوعيةً وابداعاً. وفي هذا المجال اتفق الحضور على ضرورة مراقبة البرامج المستوردة وتحديد نسبتها ونوعيتها بغية اتاحة الفرصة امام الانتاج الوطني المحلي وتشجيعه. كما نوقشت ضرورة الاستفادة من تجارب التلفزيونات العربية والغربية بغية التوصل الى تكوين تلفزيون فلسطيني نموذجي". على صعيد الخطوات العملية التي تم اقرارها فقد تعلق معظمها بمساهمة المخرجين في القطاع الخاص الذين "التزموا بالمشاركة مجانا في مختلف دورات التدريب المهني وبتقديم اعمالهم للتلفزيون الجديد دون مقابل وقد وضع حوالي 50 فيلماً في تصرف الهيئة الادارية." كما تقول مي مصري. ميدانيا، بدأ القطاع الخاص بتحرك كبير. فهناك دورة تدريبية تقام في القدس لمدة 4 اشهر يشارك فيها بريطانيان من اصل عراقي قاسم عبد وميسون باتشاتشي ومدرب ثالث فرنسي من اصل مغربي عمر العايدي. وفي ايلول سبتمبر الجاري تنظم محاضرات ولقاءات يشارك فيها مخرجون فلسطينيون وعرب شأن جان شمعون ومي مصري وميشال خليفه وايلي سليمان. كما يعقد في ايلول ايضا المؤتمر التحضيري الاول في غزة والذي يشارك فيه الاعلاميون المحليون "في مناقشة اهداف البث الفلسطيني والتحضير للخروج على الهواء" كما يصفه كتّاب في حديثه الى "الوسط" اذ يتابع قائلا "فيكون بمثابة تجربة اولية يتم فيها استعراض البرامج التي يتم تحضيرها وذلك بمشاركة هيئة الاذاعة والتلفزيون ومؤسسات الانتاج الخاص." معركة استعادة موجات البث هل تجتمع المصالح وتتوحد الجهود في تقنين الطموحات وتشذيب العقبات؟ هنا ندخل المناطق الوعرة والملغومة. فالطموحات كبيرة لكن العقبات اكبر. بالامس القريب عندما وقعت حادثة معبر ارتيز هددت اسرائيل باقفال الاذاعة وبإثارة الموضوع في الكنيست متهمة الاذاعة الفلسطينية التي "منحتها" حديثا الحكومة الاسرائيلية موجة تبث عليها بعد حفلة مناورات، بالقيام بدور تحريضي. "كمن يقول لك اعطيك راديو وتلفزيوناً لكنني اسحب منك الامتياز ساعة اشاء، يقول داوود كتّاب، من هنا فان وجودنا وبقاءنا بعد غياب طويل، 27 عاماً، ليس بأمر سهل". نبيل درويش الصحافي في اذاعة فرنسا الدولية والمكلف بالتنسيق بين الحكومة الاسرائيلية والاتحاد الاوروبي واليونيسكو ومنظمة التحرير يمسك اكثر الخيوط صعوبة وتعقيدا في عملية اقامة التلفزيون الفلسطيني التي يعتبرها "صعبة وفريدة من نوعها، فيها مغامرة وبؤس واحباط". يبدأ بفتح الملف من اوله "حين استولت اسرائيل بعد احتلال ال67 على كل الموجات التابعة للمدن الفلسطينية وطالبت المنظمات الدولية في عام 75 بتسجيلها رسميا باسمها. وعبر فرضها لسياسة الامر الواقع استخدمت موجة رام الله للاتصالات العسكرية الموجات الاخرى لمستشفياتها واذاعتها." هذه "الحقوق التاريخية" التي سلبها الاحتلال الاسرائيلي منذ اكثر من ربع قرن بامتلاكه موجات المدن الفلسطينية هي التي يسعى الى اعادتها الفريق الفلسطيني المفاوض. والعقبات متشعبة ومعقدة يحاول درويش شرحها باقتضاب. اولها ان "كل الاتفاقات مع الاتحاد الدولي للاتصالات يجب ان تمر عبر اسرائيل الذي تعتبر الموضوع امرا متعلقا مباشرة بجوهر امنها. فالذين يقومون بتلك العلاقات في الجانب الاسرائيلي جنرالات عاملون في اطار الاجهزة الامنية". ويشير المنسق الفلسطيني الى ان اعلان المبادىء في اوسلو "ينص على ان انشاء التلفزيون واجراء الانتخابات بندان مترابطان متتابعان" مما يتيح للدولة العبرية مجالات اوسع للمناورة وعرقلة المسارين معا. لذلك تشغل المطالبة باستعادة الموجات الفلسطينية حيزا واسعا في اجتماعات اللجان الثنائية حيث تمضي اسرائيل في لعبة المماطلة ووضع "الاسافين" والعثرات كأن تقدم عروضا تسمح باستخدام موجات "تكون جغرافيا وتقنيا واقعة في نطاق الهيمنة الاسرائيلية وتابعة لها مئة في المئة" او "تكون دون المستوى المطلوب من حيث نوعية البث" ويربط درويش بين تلك العراقيل وتعقيد عملية التمويل الدولي اذ "ان التكنولوجيا والبناء الديموقراطي عاملان متداخلان. فإن لم نتمكن من تثبيت وتكريس شرعية طيفنا الاعلامي اي مجال الموجات الفضائية او ما يسمى تقنيا بالSpectrum على صعيد الاتحاد الدولي للاتصالات بقينا خارج دائرة التأثير في ما يتعلق بدفع عجلة التمويل الى الامام". المعادلة في لغة المفاوضات الاعلامية كما يقول المنسق الفلسطيني مبنية على انه "اذا لم تكن ضمن الشرعية الدولية في حقل الاتصالات فلا تستطيع إنشاء تلفزيونا عاما ولا تُقبل اي جهة على دعم مشروعك او تمويله". ذلك ان "تحرير الارض يؤدي الى تحرير الفضاء"، شعار يلخص به درويش معضلة إنشاء التلفزيون الفلسطيني. فما دام قرار صرف الاموال الموعودة يتم بالتقطير يبقى التقدم شحيحا وبطيئا. الانطلاقة التلفزيونية معلّقة لكن المساعي والجهود جارية على قدم وساق. "رغم هذا، يقول درويش ، فقد انتهينا من عملية اجراء مسح كامل لمواقع اجهزة البث والانتينات، والدراسات التقنية جاهزة بانتظار المعدات والتجهيزات اللازمة. الفرنسيون قدموا استديو متنقلاً في عربة يستخدم للريبورتاجات الميدانية. كما تبرع الاتحاد الاوروبي بثلاثة ملايين دولار تدخل في موازنة عام 95 بالاضافة الى تمويله لدورات تدريب مهني. كما ان هناك اتصالات ثنائية عربية واوروبية وقد ابدت الدانمارك استعدادها من ضمن عضويتها في السوق الاوروبية المشتركة لبناء استديوين ودعم مشروع إنشاء محطات البث". على الرغم من "خطط الطوارىء والخطط المتوسطة والطويلة الامد" حسب تعبير درويش، يبقى تحديد موعد الانطلاق بالبث التلفزيوني امرا معلقا وروزنامته الزمنية متأرجحة "التجارب الاذاعية بدأت في بيوت العاملين والاذاعة تبث 8 الى 9 ساعات يوميا" يقول نبيل درويش الذي لا يرى "الانطلاقة التلفزيونية الجدية قبل بدايات عام 96". تريفور موستين المنسّق في برنامج الپ"مدميديا" الذي انشأه الاتحاد الاوروبي حديثا لدعم اعلام الدول الشرق اوسطية غير المنضوية تحت مظلة المجموعة الاوروبية من المغرب العربي الى تركيا من ضمن سياسة اوروبية جديدة معتمدة منذ حرب الخليج تقوم كما يقول موستين على "تقويم نظرة اوروبا للعالم الثالث ومشاكله وعلى رغبة في التبادل الاعلامي والثقافي بغية تقوية التفاهم ومناقشة المسائل الدقيقة والحساسة كالهجرة والعنصرية والحروب الاهلية وقضايا الصراع العربي الاسرائيلي على ضوء خطة السلام". وتحدث الى "الوسط" عن "المليوني إيكو التي اقرت المجموعة الاوروبية صرفها في تشرين الثاني المقبل نوفمبر لدعم مشروع انشاء التلفزيون الفلسطيني" ثم عن "الخمسة ملايين ايكو التي اقرها برنامج المدميديا" لتنظيم وتمويل مشاريع اعلامية، وتدريبية وانتاجية، 31 منها تتناول الانتاج الفلسطيني وورشة عمله الجديدة". ويعدد اهم المشاريع ك "مشروع تدريب على العمل الاذاعي يقام في اريحا وتمويل الانتاج الفلسطيني السينمائي واعداد نشرة Reporter sans Frontieres التي تشكل منبرا لحوار بين صحافيين حول عملية السلام والبدء بتنظيم حلقات التدريب على الانتاج الاعلامي التي ستقام في جامعة بيرزيت بدعم من الاتحاد الدولي للصحافيين" المنسق الاوروبي يقر بأن التلفزيون الفلسطيني "عملية شاقة وصعبة" وبأن "المعاملات الادارية والبيروقراطية ضمن المجموعة الاوروبية تسير ببطء" لكنه واثق من "ان الفلسطينيين مصرّون على انشاء تلفزيونهم من ضمن المقاييس الاعلامية الديموقراطية المعمول بها في الغرب" وهو متفائل "لتوافر الخبرات والكفاءات القادرة والمؤهلة في الوسط الاعلامي الفلسطيني وبنسب عالية". يبقى ان تحمل المراحل المقبلة "صحة او خطأ" نظرته هذه. بين منطقتيّ المفاوضات الاعلامية الرسمية والدعم المالي الاوروبي والدولي هامش ضيق متروك لنشاط ومساهمة مؤسسات الانتاج الاعلامي في القطاع الخاص التي كما يقول داوود كتاب "تسعى الى التنسيق مع المسؤولين في الهيئات الرسمية وتكوين كادرات مهنية على صعيد الافراد تتطور فيما بعد لتنشىء مؤسسات مهنية تساهم في اقامة مجتمع اعلامي عربي على مستوى مهني متقدم". القليلون في الاوساط الاعلامية الفلسطينية لا يطمحون الى ذلك. فالارث الاعلامي الفلسطيني صناعة عتيقة شهدت قيام اولى الاذاعات العربية واقدمها في حيفا والقدس كدار الاذاعة الفلسطينية واذاعة الشرق الادنى. والمستقبل التلفزيوني الفلسطيني رهان ومنطلق حيوي للدولة الجديدة التي كما يقول كتّاب "لا تملك بترولا ولا ذهبا. لديها عقول وافكار وخدمات. والتلفزيون يمكن ان يكون في هذا المجال سفير فلسطين الثقافي والحضاري".