أوقف الاتحاد الأوروبي منذ ثلاث سنوات تقريبا برنامج "ميد ميديا" الاعلامي، وتوقف بذلك طيلة هذه المدة دفع المنح التي خصصها البرنامج لعدد من السينمائيين العرب الشباب. واذ اعلن الاتحاد عن عودة "ميد ميديا" الى العمل قريبا فقد صدم السينمائيون المعنيون بأنه لن يعود بما كان عليه من الطموح بل سيقتصر على دورات وبرامج التدريب. رغم ذلك فالأكيد ان السينمائيين الذين صمدوا حتى الآن يأملون ان الاتحاد الأوروبي سيفي بالتزاماته المالية لانتاجاتهم التلفزيونية المشتركة. وكان الكثير من الأفلام التي مولها الاتحاد في الماضي حاز على جوائز مهمة وعرض على تلفزيون "بي بي سي" و"القناة 4" وغيرهما من الشبكات الأوروبية المهمة، وهو ما رفع الروح المعنوية للاوساط الاعلامية في بلدان تمتد من المغرب الى تركيا، وخلق علاقة اعلامية خاصة بين العالم العربي واوروبا. من بين الأفلام الأنجح التي دعمها البرنامج "حكاية الجواهر الثلاث" لميشيل خليفي وعمر قطان، وفيلم مي مصري الوثائقي عن حنان عشرواي. هذه المنجزات وغيرها حولت برنامج "ميد ميديا" في أوج نشاطه الى وسيلة اتصال وتفاهم حيوية بين الدول الأوروبية ال15 وجيرانها ال12 على المتوسط، غالبيتها من الدول العربية. خلال الاشتباكات التي دارت في الضفة الغربية في أيار مايو الماضي التقيت صحافيين فلسطينيين واسرائيليين يدينون بعملهم الى دورات الدراسة التي مولها "ميد ميديا". ووقفت مع بعضهم في مدخل متجر في شارع الشهداء في الخليل، حيث واجه الشباب الفلسطينيون بالحجارة الرصاص المطاط وقنابل الغاز التي اطلقها عليهم الجنود الاسرائيليون المكلفون حماية مستوطنة ابراهام افينو الصغيرة في وسط المدينة. وفيما نظرت الى فتى فلسطيني وهو يسقط جريحا بالرصاص المطاط فكرت بحزن كيف ان برنامج "ميد ميديا" كان سيعطي الصحافيين الفلسطينيين والاسرائيليين ثقة بالنفس اثناء تغطيتهم لتلك الاحداث، التي وصفها لي صحافي اسرائيلي بأنها "مرحلة مظلمة من مراحل كآبتنا". قبل يومين من ذلك غطيت اصطدامات مشابهة امام فندق "ناشنال بالاس" في القدس برفقة خريج لامع آخر من البرنامج هو عماد موسى مراسل وكالة "اسوشييتد برس". وشهدنا سوية التلميذات الفلسطينيات يغنين الاناشيد الوطنية والمسؤولين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين وعددا كبيرا من الرجال والنساء وكلهم يستعدون للقيام بمسيرة احتجاج مع دقيقة صمت، فيما حاصرتهم مجموعات من الشرطة الخيالة والجنود المدججون بالسلاح. ورفض الاسرائيليون السماح بالمسيرة أو بالوقوف دقيقة صمت. أخذت التاكسي لاحقا الى نابلس حيث عبر لي اثنان من مراسلي "رويترز" عن سعادتهما بالعودة المرتقبة لبرنامج "ميد ميديا". تلك كانت من بين الكثير من التطورات التي كان يمكن ل"ميد ميديا" ان يلعب دورا رائدا فيها. مشاركة الصحافة جاء برنامج "ميد ميديا" بعد حرب الخليج وهدف، من خلال العمل المشترك في الصحف والتلفزيون والاذاعة، الى اصلاح العلاقات بين اوروبا وجيرانها في المتوسط، خصوصا العرب منهم الذين كانوا عموما مؤيدين للعراق، وأيضا الدول المشاركة في عملية السلام العربية الاسرائيلية. على سبيل المثال، شارك في مشروع "شبكة الاعلام الدولية" الذي قادته صحيفة ليبراسيون الفرنسية نحو ستين صحيفة من مختلف الدول، وكانت تجتمع مرتين في السنة لتبادل التقارير والمقالات لكي تنشر بكل اللغات. وكان دور "ميد ميديا" تمويل مشاركة الصحف الفلسطينية والاسرائيلية والتركية والمغربية في المشروع. وقال لي صحافيون مغاربة بعد انضمام مجلة "لو ايكونوميست" المغربية ان الملك الحسن كان يختبر الاجواء للزيارة التي قام بها اقتصادي مغربي الى اسرائيل بعد وقت قصير من ذلك. من بين المشاريع التي اختيرت قبل تجميد نشاطات البرنامج أواخر 1995 دورة دراسية كبيرة لصحافيي المشرق العربي قامت بها الاذاعة الهولندية واذاعة "بي بي سي" البريطانية، ودورة مشابهة للمغرب العربي، ودورة تدريبية في مدرسة الاذاعات العربية في دمشق تقوم بها مؤسسة تومسن ومقرها في كارديف في مقاطعة ويلز البريطانية، ومجلة تدريبية تصدر في باريس، ومؤتمر عن حقوق الانسان في تركيا تديره منظمة "بين انترناشنال". لكن السينمائيين كانوا المتضرر الأكبر من قرار التجميد، فقد وُعدوا بتمويل يصل الى 60 في المئة من كلفة مشاريعهم خلال السنين الثلاث الأخيرة، لكنهم لم يتلقوا خلال هذه السنين من المفوض الأوروبي مانويل مارين سوى رسائل المماطلة والوعد باعادة تنشيط البرنامج. من الصعب ان نعرف الآن عدد السينمائيين الذين أفلسوا بسبب التجميد، لكن القانون قد يضطر الاتحاد الأوروبي الى الوفاء بالتزامات قدمها الى مشاريع سينمائية مشتركة، من بينها فيلم جان شمعون "رامي" لبنان، وفيلم ماريان خوري "أخوات النخيل" مصر - فرنسا، و"المتوسط" لفتوريو بانتشيتي ايطاليا، و"تابوز" لأيموس غيتاي اسرائيل، و"الرياح" لديفيد بن شتريت اسرائيل، و"عندما تخلع المرأة التركية الحجاب" فرنسا - تركيا، و"في الطريق الى السلام" لتوماس ستندراب غزة بالتعاون مع اياد السراج، و"ملح البحر" لنادية الشرابي الجزائر. الصحافيون والتمويل كلفني الاتحاد الأوروبي، باعتباري من الصحافيين ودارسي العربية، اطلاق برنامج "ميد ميديا"، وقمت في 1992 برحلة استغرقت ستة أشهر الى 24 بلدا، هي دول الاتحاد ال12 وقتها اضافة الى الدول شرق وجنوب المتوسط، من تركيا الى المغرب عدا ليبيا، التي استبعدت لأسباب سياسية. وقال لي زميل: "تصور صحافيا سجينا في المغرب يدرك فجأة امكان الاعتماد على مساندة صحافي في اسكتلندا لأنهما شاركا في برامج "ميد ميديا" وكانا بذلك مثل اعضاء في النادي نفسه". وقد تضاعف اعتماد السينمائيين الجزائريين على تمويل الاتحاد الأوروبي بعد تفاقم الحرب الأهلية هناك، لكن المشاريع المشتركة توقفت، مثلما توقفت مشاريع تدريب السينمائيين الجزائريين في القدس، بعد قرار التجميد. وضع مكتبنا الصغير في لندن 150 مشروعا، من بينها دورات التدريب ومشاريع الانتاج المشترك وتبادل الخبرات والندوات المهنية. لكن البرنامج أوقف فجأة قبل نحو سنتين ونصف السنة وهو في قمة تأثيره عندما اكتشفت ادارة محاسبة الاتحاد الأوروبي تضاربا في المصالح لدى المفوضية الأوروبية نفسها، وأيضا سوء ادارة لبرامج اخرى مختصة بمنطقة البحر المتوسط مقراتها في عواصم أوروبية أخرى. لكن الجدير بالملاحظة ان تقرير المحاسبة لم يقدم أي انتقاد لادارة "ميد ميديا"، فقد كنا بالغي الحرص في الانفاق ومراقبة سير العمل في مختلف المشاريع وتحديد المسؤوليات عن تأخر اي منها، وهو ما اعترفت به المفوضية الأوروبية في شكل كامل. وكان من ضمن فريقنا ديفيد بيج، النائب السابق لرئيس القسم الشرقي لاذاعة "بي بي سي"، والسينمائية المعروفة آشلي بروس، وكاثرين كاجون التي جاءت من "معهد الألسنيات" في لندن. رغم ذلك فقد تم تجميد برنامجنا مع البرامج الأخرى، وهي "ميد كامبوس" للجامعات، و"ميد أربز" لشؤون المدن، و"ميد انفست" للاستثمار، لأن آلية تمويل كل هذه البرامج في بروكسيل كانت تحت التدقيق، وبالتالي موقوفة عن العمل. وسمحت المفوضية بالاستمرار في مشروعين تدريبيين فقط، بعدما اكدت لمديريهما ان البرنامج سيعود الى العمل خلال ستة أشهر. لكن هذا لم يحصل، اذ استمرت في بروكسيل الفوضى الادارية والوعود التي لا تقوم على أساس، فيما لم يتلق مسؤولو المشاريع والنواب في البرلمان الأوروبي والديبلوماسيين ردا على احتجاجاتهم واستفساراتهم سوى رسائل باهتة بيروقراطية الصياغة من المفوض مانويل مارين تركز على الحاجة الى المساءلة والفاعلية والشفافية، وهي الصفات التي فشلت المفوضية الأوروبية في التحلي بها. لمست خلال زيارتي الى الضفة الغربية واسرائيل في أيار مايو الماضي الكثير من الحنين الى المبادرة التي أوقفت في الوقت الذي كانت فيه هذه المنطقة المضطربة بحاجة اليها اكثر من أي وقت مضى. وشهدتُ احباط السينمائيين الاسرائيليين والفلسطينيين الشباب الذين أوقف الاتحاد التمويل الموعود لبرامجهم المشتركة. كما افتقدت المنطقة اعمال سينمائيين مرموقين مثل الفلسطينيين مي مصري وعمر القطان واللبناني جان شمعون والاسرائيلي ديفيد بن شتريت، من الذين كانت انتاجاتهم المشتركة توفر التدريب للسينمائيين الناشئين. وكانت الأفلام التي مولها برنامج "ميد ميديا" لمركز غزة للأمراض النفسية شكّلت بداية لانشاء مركز للتدريب الاعلامي في غزة. يعرف ان مدير مركز غزة للامراض النفسية هو الدكتور اياد السراج، الذي عمل مفوضا لشؤون حقوق الانسان خلفا للدكتورة حنان عشراوي. وتعرض السراج مرتين للاعتقال والضرب بأمر من ياسر عرفات، والمؤسف ان برنامج "ميد ميديا" لم يستطع مساعدته بسبب التوقف. تم تحقيق فيلم خليفي "حكاية الجواهر الثلاث" في غزة وذلك في 1991 خلال المراحل الأخيرة من الانتفاضة. وسحرت الاستعدادات للتصوير نفسها، اي نصب الكاميرات والأضواء والمرايا، سكان دير البلح، وحضر الكثيرون منهم، من التلاميذ بملابس المدرسة الى كبار السن من الرجال والنساء، مراحل التصوير. وأظهرت المشاهد شبانا وهم يحرقون اطارات السيارات ويرمون بالحجارة الجنود الاسرائيليين، وهم ايضا شبان من غزة يمثلون ذلك الدور. هكذا تحولت الحرب الى مسرح، وكانت المرة الأولى منذ سنين طويلة التي تتوفر فيها لسكان غزة فرصة الابداع بدل التدمير والمآسي المعتادة في حياتهم. الأرجح ان احياء برنامج "ميد ميديا" كما تعد المفوضية الأوروبية لن يعني عودته في شكله الحيوي والمستنير الأصلي. ولن يعود الخبراء الذين عملوا في البرنامج في شكله السابق، من بينهم كاتب هذه السطور الذي صمم ذلك الشكل، الى العمل فيه. ورغم حماسة قمة الاتحاد الأوروبي في برشلونة في 1996 للمشروع فان النسخة الجديدة منه ستحمل اسما آخر وتقتصر على التدريب. السلطة للأوروبيين! ذلك ان "النظام القديم" الحاكم في بروكسيل، المتسم بالمحافظة والمبالغة في الحذر، يفضل التركيز على التدريب لأن تمويله أسهل، ولأنه لا يخلق "المشاكل". ويمكننا ان نضيف انه يترك السلطة بيد الأوروبيين، فيما كان هدفنا في "ميد ميديا" تسليم المبادرة في أقرب وقت ممكن الى المهنيين في الدول المعنية، لكي نقيم توزانا في المهارات والخبرات بين ضفتي المتوسط. انها فرصة ضاعت، ربما الى الأبد. ان "النظام القديم"، اضافة الى عدم اهتمامه بهذا النوع من التفكير، لا يقيم وزنا للعمل الاعلامي، معتبرا انه، في أفضل الأحوال، عمل ترفيهي، وفي اسوأها، خطر عليه. ولا يعرف الكثيرون من البيروقراطيين عن تأثير وسائل الاعلام الكبير على حياة الناس العاديين. نظمنا في غزة اثناء عمل البرنامج ندوات تدريبية قادها الصحافي البريطاني جون بولوك، كبيرمحرري "بي بي سي" سابقا للشؤن الديبلوماسية. واعتقلت الاجهزة الأمنية الفلسطينية بعد واحدة من الندوات المسؤول الفلسطيني عن التنسيق للمشروع. ضمت الندوة وقتها اسرائيليين وفلسطينيين، وتناولت رقابة اجهزة الأمن الفلسطينية على الصحف، وكان المتكلم الرئيسي فيها عماد الفالوجي، رئيس تحرير "الوطن"، الصحيفة الرئيسية ل"حماس". بعد ان سمعت في لندن بالاعتقال وجهت رسائل قوية بالفاكس الى الرئيس ياسر عرفات وكبار مسؤوليه الأمنيين والسياسيين. واطلق سراح مسؤول التنسيق بسرعة، وقال له ضابط امني "يبدو ان لك اصدقاء أقوياء في الغرب". وجه برنامج "ميد ميديا" تمويله في شكل مباشر الى مشاريع في القطاع الخاص، وذلك بعد عملية اختيار دقيقة يقوم بها خبراء من الجانبين الأوروبي والجنوب متوسطي، ما حرم الهيئات الحكومية، مثل السلطة الفلسطينية، فرصة التدخل. من هنا فقد ساهمت اللجنة، فيما يخص فلسطين مثلا، في ادامة وضع اعلامي ديموقراطي، خصوصا في مجال التلفزيون والراديو. واعتمدت الاذاعة الفلسطينية على معدات التدريب التي وفرها "ميد ميديا"، بعدما حظر الاسرائيليون توريد المعدات المطلوبة. وقف البرنامج دوما بالمرصاد لممارسات الرقابة على وسائل الاعلام ومحاولات التأثير عليها، وكان من بين نتائج تجميده تكميم وسائل الاعلام الفلسطينية من خلال السيطرة المالية أو العنف. وكانت صحيفة "الحياة الجديدة" التي اصدرها مصطفى البرغوتي في رام الله تتناول مواضيع محرمة مثل الاعتداء على الاطفال والاغتصاب، قبل أن يشتريها عرفات ويحولها الى ناطقة باسم السلطة الفلسطينية. وحتى رضوان عياش، رئيس هيئة الاذاعة الفلسطينية الذي تعاونا معه في شكل وثيق في مجالات الصوت والصورة، اضطر بعد فترة قصيرة الى مراجعة معاون عرفات المخلص في غزة هشام مكي في كل الأمور، مع ان الاخير لا يملك خبرة اعلامية تستحق الذكر. من مشاريع "ميد ميديا" الرئيسية الندوة التدريبية التي قامت بها "وحدة معلومات ايكونوميست" في قبرص. وكان من بين الفعاليات عقد دورات تدريب فردية واصدار سلسلة من التقارير الاقتصادية اضافة الى الندوة نفسها التي شهدت نقاشا حادا بين صحافيين اقتصاديين من اسرائيل وفلسطين والأردن ومصر على قضايا بالغة الحساسية مثل الأرض والموارد المالية والاستثمار. لكن حدة النقاش لم تمنع قيام صداقات خارج قاعة الاجتماع. واذكر انني جلست في القدسالشرقية لاحقا في مقهى تحت السور القديم. وقال صحافي اسرائيلي من صحيفة "معاريف": "انظر الى هذه الأسوار. ما اقربنا من الفلسطينيين. اننا نستطيع محادثتهم على الهاتف. لكن لا نراهم الا عند الذهاب الى لندن او قبرص". مخاوفنا في المرحلة الأولى من البرنامج كانت من رقابة الحكومات ومعارضتها المحتملة له. وعندما زرت محطة الاذاعة الهولندية في هلفرسوم نصحوني بدعوة كبار الاعلاميين الى ندوة أولية لكي يطمئنوا وتطمئن حكوماتهم الى اهدافنا، وذلك قبل البدء بالمشاريع الأكثر جرأة. وكانت هذه طريقة ناجحة لاستباق الرقابة. وعندما أردت تأشيرة الى سورية حصلت عليها بسهولة من السفير السوري في لندن. مع عرفات في غزة رتبت لقاء مع الرئيس عرفات لأوضح له اهداف البرنامج. كان معي وقتها الشاب الألماني الراديكالي روبرت كريغ الذي انشأ وحده تقريبا محطة الاذاعة الفلسطينية، وذلك من خلال مشروعه التدريبي الذي موله برنامج "ميد ميديا". كما رافقتني ايضا ممثلة فلسطينية جميلة قامت بدور رئيسي في فيلم آخر موله "ميد ميديا"، هو "دراما العودة المؤجلة" لايلي سليمان. وصلنا الفيللا المطلة على البحر في الواحدة فجرا، وبعد جدل استمر نصف ساعة تمكنا من الدخول الى مكتب الرئيس، الذي امر كل الحاضرين بالخروج، عدا وزير التخطيط نبيل شعث. حرصت في جلوسي جنب عرفات على اتباع البروتوكول المعهود، وهو انتظاره لكي يبدأ الكلام. وطال الصمت بضع دقائق الى ان نصحني شعث بان اشرح مهمتي. تكلمت بلغة انكليزية بسيطة قائلا ان من بين الاهداف الرئيسية ل"ميد ميديا" اغراء نجوم الاعلام في الشتات الفلسطيني بالعودة لخلق نهضة ثقافية في فلسطين الجديدة. لكن لاحظت اثناء كلامي ان عرفات كان يواصل التدقيق في رسائل الفاكس الكثيرة بين يديه. استمر ذلك نحو عشر دقائق قررت بعدها ان انهض للمغادرة شاعرا ببعض الاحباط. لكن الذي حصل انني نطقت في ختام شرحي بكلمة "تلفزيون"، وأثار ذلك اهتمام عرفات الفوري. نظر الي مبتسما وقال: "اخبرني اكثر". طلبت من كريغ ان يتحدث ووصف له كيفية عمل محطة التلفزيون المزمعة. بعدها بلحظات كنا نلتقط صورة مع عرفات، وكان يمسك بيد الممثلة الفلسطينية التي بدا عليها الغضب. فهمت من ذلك اللقاء ان التلفزيون بالنسبة اليه كان رمزا للقوة السياسية، وتأكدت مخاوفي بعد ذلك، عندما سلط حملته القمعية على الصحافة والتلفزيون. هكذا فان عرفات وافق على "ميد ميديا"، لكن لأسباب مغايرة لهدفنا. اعتبرت الأطراف، في بروكسيل في 1991 وبرشلونة في 1996، حرب الخليج رمزا لانهيار التفاهم بين الاتحاد الاوروبي المتزايد القوة وجيرانه جنوب المتوسط المتزايدي الاضطراب. وتم اطلاق "ميد ميديا" بنجاح لمكافحة الأفكار المسبقة والخوف والقلق والحقد. واعطى نجاح البرنامج املا ما لبث ان تراجع بعد تجميده. هناك كثيرون في دول المتوسط يرون خلف قرار التجميد مؤامرات سياسية معقدة، أو حتى "حبائل الصهيونية". لكنهم مخطئون. لأن الصحافة الاسرائيلية، التي ساندت البرنامج دوما، كانت ستحصل في المرحلة التالية منه على تمويل لا يقل عن التمويل الى الفلسطينيين. كلا، العدو الحقيقي هو اولئك المسؤولون في بروكسيل الذين خانتهم شجاعتهم ومخيلتهم وقرروا، في هذه الفترة الخطرة، صرف النظر عن هذا الجسر البالغ الأهمية بين أوروبا والشرق الأوسط.