في يوم واحد يصل محمود عباس أبو مازن في زيارة لأريحا مثل "أي مواطن عادي"، ويرأس فاروق قدومي أبو اللطف الوفد الفلسطيني الى اجتماع الدول المانحة في باريس. انه العالم مقلوباً. الأول هو مهندس الاتفاق مع اسرائيل والمعترض على أداء الرئيس ياسر عرفات والمصمم على نوع من الاعتزال "الى أن يأتي الله أمراً". والثاني هو المعترض على الاتفاق ومهندسه وعلى أداء الآخرين كلهم من غير أن يمتنع عن نوع من المشاركة الاضطرارية. هذه المفارقة دليل واضح على الاضطراب الذي تعيشه الساحة الفلسطينية بعد عام على توقيع "اتفاق واشنطن" في حديقة البيت الأبيض صباح 13 أيلول سبتمبر 1993. دليل آخر: يحادث أبو اللطف زواره في باريس بصوته الهادئ وكلامه المتقطع والهامس ويؤكد لهم "ان المجلس الوطني الفلسطيني، اذا اجتمع، فإن ذلك سيكون لالغاء الاتفاق مع اسرائيل لا لالغاء الميثاق كما تطالب اسرائيل". يقول ذلك قبيل اجتماع مع ممثلي الدول المانحة لم يدم سوى سبع دقائق وانتهى بتأجيل يحاول، عبثاً، اخفاء الفشل. حصل صدام حول الموازنة لأنها تتضمن بنوداً تخص مشاريع ومؤسسات في القدس وقضايا لم تتناولها المفاوضات في الضفة الغربية. وأصر ممثل اسرائيل ووافقه آخرون، على أن كل ما يتعلق بالقدس ممنوع البحث فيه وان من المبكر التطرق الى القضايا الأخرى. عادت قضية المدينة المقدسة تلقي بظلها على المفاوضات لتعطلها وثبت أن نقل الصلاحيات الى سلطة الحكم الذاتي يتأخر. اضافة الى ذلك تبين، عشية الاجتماع وغداة ارفضاضه السريع، ان الأموال الموعودة تصل بالقطارة، في حين تتراكم المشاكل الأهلية الناجمة عن الاحتلال. ويضاف اليها العجز عن تمويل القطاعات التي باتت من اختصاص الفلسطينيين. وربما كان النقص المالي الحالي مؤشراً الى المشكلة الكبيرة التي ستنشأ بعد فترة إذا التزم الكونغرس الأميركي وعوده الى "اللوبي الصهيوني". اذ من المعروف ان الكونغرس وعد بالتوصية بوقف دفع أي مبلغ الى السلطة الفلسطينية من جهة أميركا ومن تؤثر عليهم إذ لم يلتزم الفلسطينيون الغاء بنود في الميثاق الوطني. وبما أن الأسابيع المقبلة في الولاياتالمتحدة هي أسابيع الانتخابات النصفية فإن من الأرجح ان يتصلب اعضاء الكونغرس في هذا الموضوع في معرض محاولتهم تجديد ولايتهم. حبور واضطراب! ... ودليل آخر على الصعوبات التي تواجهها سلطة الحكم الذاتي: أدت الاعتقالات في صفوف الاسلاميين والمعارضة الى ردود عنيفة جداً وصل احدها الى حد اصدار "الجهاد الاسلامي" تهديداً مباشراً وشخصياً الى الرئيس عرفات، فاضطر الى اطلاق عدد من الذين أمر بوضعهم في السجن، غير أن الأزمة استمرت وهي مرشحة لأن تتكرر وتتفاقم. ويروي أحد العائدين من غزة ان "الرئيس" يبدو شديد الحبور وشديد الاضطراب في وقت واحد. ومن دلائل ذلك انه نادى أحد المسؤولين الأمنيين قبل أيام ليقول له مستنكراً: "ما هذا؟ اني أسمع أصوات طائرات معادية فوق اجوائي". فاجابه: "انها طائرات اسرائيلية، وهذه اجواؤها حسب الاتفاق الموقع معهم!". ولا يخفي أي مسؤول فلسطيني ان الاتفاق الموقع قبل سنة يواجه مشاكل كثيرة في التطبيق. وثمة اجماع تقريباً على "ان الاتفاق سيء"، وان أحسن ما قيل في وصفه هو حديث عرفات "عن أفضل الممكن في أحلك الظروف". ويتذكر قائد فلسطيني ان الرهان، عند التوقيع، كان على الدينامية الفلسطينية القادرة على التحكم بالتنفيذ. غير أنه يستدرك فيقول ان "الاتفاقات اللاحقة أثبتت المسار الانحداري لاعلان المبادئ وقد تأكد ذلك في كل من اتفاقي القاهرة الأول والثاني، وفي معركة "الجهاد من أجل القدس"، وفي اتفاق باريس الاقتصادي وأخيراً في اتفاق ابريتز الخاص بنقل الصلاحيات". والواضح من هذا الكلام ان اسرائيل نجحت في تحويل "معركة الدينامية" لمصلحتها وان الأداء الفلسطيني لم يكن عند مستوى منعها من ذلك. وكيف يمكن هذا الأداء ان ينجح ما دام ان "الأب الروحي" لمفاوضات أوسلو أبو مازن شبه معتزل والأب الروحي للمعارضة أبو اللطف يتولى تنفيذاً الشق الأهم، الاقتصادي، ويفعل ذلك بعد أن يكون مازح محاوريه في "ضرورة إزالة اسرائيل"! لم تقم المؤسسات الاقتصادية الموعودة وعلى رأسها "بكدار". ومن علامات الأزمة في هذا المجال ان الدكتور يوسف صايغ، واضع التقرير الأصلي عن حاجات الأرض المحتلة وخطة تنميتها وملهم الدراسات الدولية كلها في هذا المجال، بات يعتبر مجرد صدور خبر عن حضوره اجتماعاً بمثابة اساءة الى سمعته وتعريض بوطنيته واخلاقه. المؤسسة قائمة على الورق غير أن صلاحياتها وتوزيع المهمات بين أعضائها وتنظيم اجتماعاتها كلها مؤجلة. وبما أن هذا الاطار مفقود يصبح العمل ارتجالياً مما يؤدي الى انعدام الثقة. وفي مقابل العمل الارتجالي يصبح الوضع "مياوما". رغبة في الضغط ولا تختصر قضية الثقة الاشكال بين الجهات المانحة والسلطة الفلسطينية. فثمة رغبة سياسية مؤكدة في الضغط على الرئيس عرفات من أجل دفعه الى عدم اثارة مواضيع معينة القدس مثلاً أو التصرف بشكل محدد حيال العمليات العسكرية الموجهة ضد القوات الاسرائيلية. وتفسر هذه الرغبة في الضغط وجود اسرائيل ضمن الدول المانحة وتمتعها بالتالي، بحق النظر طالب أبو اللطف بابعادها بعد فشل لقاء باريس. وتخشى أوساط فلسطينية ان يكون هدف التقتير ممارسة سياسة تهدف الى احباط العملية كلها خصوصاً بعد تطور العلاقات الاسرائيلية - الأردنية. وتعاني "الحكومة الفلسطينية" مما يعانيه مجلس الاعمار. ويتذكر كثيرون ان حنان عشراوي رفضت المشاركة فيها عند تشكيلها، إلا إذا وضعت لها لوائح داخلية ومحاضر اجتماع. يومها ابتسم الجميع أمام هذه المطالب "الساذجة". غير أن التطورات حوّلت الابتسامة الى عبوس ويتندر الوزراء الفلسطينيون بأن أحداً منهم لا يعرف صلاحياته بالضبط. وزير العدل، مثلاً، فريج أبو مدين لا علاقة له بالاعتقالات التي حصلت ولم يوجه أي تهم، وتناهى اليه خبر اطلاق من اطلق. وكذلك وزير الاعلام والثقافة ياسر عبد ربه علم متأخراً بوقف جريدة "النهار" عن الصدور ولم يملك ان يقول كلمته في هذا الموضوع. وليس معروفاً، حتى الآن، من هو الوزير الذي تقع قضية الأسرى الفلسطينيين لدى اسرائيل ضمن اختصاصه. وتمثل هذه القضية، بدورها، واحدة من المشاكل الملقاة على عاتق سلطة الحكم الذاتي التي لم تجد لها حلاً في اطارالتفاوض. والواضح أن الاسرائيليين لا يمتنعون عن دفع الاحراج الى نهايته عندما يطالبون بأن تتولى الأجهزة الفلسطينية أمر الاشراف على أوضاع السجناء بعد نقلهم الى أريحا أو غزة. راهن الفلسطينيون على الاتفاق من أجل تغيير أوضاعهم المعيشية. وتركز الأمل على "عودة" عرفات علها تطلق العملية. غير أنه وصل وبقيت الأوضاع على حالها. البطالة مرتفعة. والعمالة في اسرائيل على حالها. الخدمات متردية. التحول الوحيد هو ان منع التجول لم يعد قائماً الا لفترات محدودة ومناطق محصورة تعينها الشرطة الوطنية. وشيئاً فشيئاً يكتشف المواطنون ان السلطة الفلسطينية قائمة على نحو ستين في المئة فقط من مساحة غزة، وان شعار "غزة - أريحا أولاً" لا معنى له في الواقع. سنة صعبة يبدأ العام الثاني لاتفاق واشنطن في ظل تساؤلات جدية عن فرص النجاح. وهناك من يقول ان عرفات "أكل خبزه الأبيض" وان السنة القادمة ستكون صعبة جداً. الاستحقاقات كثيرة وهذه عينة عنها: أولا - الانتخابات: لا يمكن أن ينتهي العام من غير حسم هذا الموضوع. ولكن حتى الآن ثمة جوانب غير واضحة: هل تكون الانتخابات بلدية ام سياسية؟ هل هي على صلة بتركيبة المجلس الوطني ام لا؟ هل تتم على أساس دوائر فردية أو مصغرة أو واسعة؟ ما هو التقسيم الاداري؟ هل تتم الانسحابات من المناطق الآهلة قبلها حسب ما ينص عليه اتفاق "اعلان المبادئ"؟ ويثير هذا الموضوع، وحده، صراعاً لا يوصف: هل يمكن اسرائيل ان توافق على الانسحاب من مدينة الخليل وذلك بعد المجزرة، ووصول القوات الدولية ورحيلها، والاقدام على تقسيم الحرم الابراهيمي تقسيماً استفزازياً؟ والى ذلك كله يبقى السؤال معلقاً: ما هي نتائج الانتخابات اذا قررت المعارضة، على تنوعها، الاشتراك فيها؟ ثانياً - الميثاق الوطني: سيشتد الضغط الاسرائيلي - الأميركي على عرفات من أجل تعديل الميثاق وفاء لالتزامه. لكن موازين القوى الفلسطينية الحالية لا تدل على قدرته على ذلك. وما يجدر قوله في هذا المجال ان الاتفاقات الموقعة بين عرفات أو ممثليه، وبين الاسرائيليين لم تعرض على أي هيئة رسمية فلسطينية. وحده "اعلان المبادئ" تعرض لنقاش وثمة التباس حول الموقف منه، ولكن من المؤكد ان الرسائل الملحقة به - وبينها تلك المتعلقة بتعديل الميثاق - لم تعرض لا على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ولا على اللجنة المركزية لحركة "فتح". ثالثاً - الوضع الداخلي ل "فتح": قد تكون الحركة مصدر المصاعب الأول لعرفات في الأشهر المقبلة. وهو يحاول استيعابها عن طريق الاكثار من الأجهزة الامنية وبالاستناد الى نواة "غزاوية" في القيادة. غير أن من الواضح ان ثمة أكثرية في قمة الهرم تعترض على سياسته، وان الموقف من "الميثاق" يمكنه أن يوحد المعارضين. وقد لوحظ، في الأسابيع الأخيرة، ان مسؤولين يباعد بينهما كل شيء مثل محمود عباس وهاني الحسن، تصالحا عشية وصول عرفات الى تونس وغادراها وبصحبتهما "النصاب" اللازم. ولا يخفي أبو اللطف انه يتحرك، عندما يقرر ان يتحرك، من أجل تطويق عرفات ومنعه من الانفراد. رابعاً - المعارضة: اذا كانت هذه هي حال "فتح" فإن ما يمكن قوله هو ان المعارضة الفلسطينية لسياسة عرفات تتسع مع الأيام. وتدل قضية المعتقلين والتهديد الشخصي الموجه اليه ان الاتجاه هو نحو التصعيد وان المرحلة المقبلة ستضع الرئيس الفلسطيني بين نارين: نار الحكومة الاسرائيلية التي تتعرض هي ايضاً لضغط يمارسه اليمين والمستوطنون و"حضور" حزب العمل، ونار المعارضة الفلسطينية الاسلامية واليسارية والتي تخاطب أكثر فأكثر أوساطاً "فتحاوية". خامساً - نقل الصلاحيات: ينظم "اتفاق ايريتز" نقل الصلاحيات الى الفلسطينيين في خمسة مجالات. لكن الواضح ان التعثر في غزة وأريحا لا يوحي بإمكان ممارسة ناجحة لهذه الصلاحيات الجديدة في الضفة الغربية، الأمر الذي يقطع الطريق على تنفيذ المطلب الغامض في "اعلان المبادئ" والقاضي بتوسيع هذا النقل الى مجالات جديدة. عواصف وبدائل يمكن الاستطراد في تعداد المصاعب السياسية المتوقعة وهي ليست أقل من: آثار الخلاف مع الأردن، احتمال الانشغال الاسرائيلي في حال حصول تقدم على المسار السوري - اللبناني، زيادة الاعتراض لدى فلسطينيي الخارج، خسارة "اللوبي" المؤيد للمنظمة في اسرائيل، استمرار العزلة الدولية، اقتراب موعد الحملة الرئاسية الأميركية، الخ... ولعل ما يجب قوله في هذا المجال هو ان مواجهة هذه المتاعب كانت ممكنة الى حد ما لو أن الوضع الاقتصادي - الاجتماعي مرتاح. ولذلك فإن الخوف، في السنة القادمة، هو من دخول سلطة الحكم الذاتي في حلقة مفرغة: الوضع السياسي مضطرب لأن الوضع الاقتصادي مترد، والوضع الاقتصادي متدهور لأن الوضع السياسي غير مستقر. هذا هو المفترق الخطير الذي يقف عرفات أمامه على عتبة العام الثاني من توقيع "اتفاق واشنطن" وليس هناك ما يمنع أن تكون سفينة "الحكم الذاتي" قد دخلت "منطقة العواصف العاتية". قائد السفينة موجود وتفضل اسرائيل التعامل معه على رغم المشاكل التي يثيرها في وجهها والحساسية الخاصة التي يملكها اسحق رابين حياله، غير أن ذلك لم يمنع أوساطاً في تل أبيب من التفكير في بدائل في حال حصول تطورات سياسية أو "صحية". وتؤكد معلومات ان "المعنيين" في الحكومة الاسرائيلية يضعون ترتيباً لهذه البدائل حسب الأولوية الآتية: ياسر عبد ربه ثم أحمد قريع أبو علاء فنبيل شعث. وإذا كانت القيادة التاريخية ل "فتح" غائبة فإن المعترضين الاسرائيليين على هذا الترتيب يعتبرون أنه من الخفة بمكان ادعاء اختيار البديل الفلسطيني أولاً، وانتقاء مسؤول من خارج "فتح" ثانياً، والعودة الى قيادات الصف الثاني، ثالثاً. يقولون ان العواصف الحالية قوية كفاية فلا ضرورة لزيادتها عتواً.