لم تكن اسرائيل تقبل بأقل من شطب منظمة التحرير الفلسطينية من الوجود. ولم تكن المنظمة تقبل في البداية بأقل من ازالة الكيان الاسرائيلي. وفجأة بدا ان خيار الالغاء هو مجرد إرث ثقيل من لغة قديمة موروثة عن عالم قديم انتهى. فبعد أقل من عامين على انطلاق عملية مدريد وجد الشرق الأوسط نفسه أمام خيار "غزة - أريحا أولاً". لم يكن سراً في الفترة الأخيرة ان اسرائيل ومنظمة التحرير تستعدان للتنازل رسمياً عن المواقف النهائية السابقة لبدء مرحلة جديدة تتسم بمحاولات التفاهم واللقاء في منتصف الطريق أو مكان آخر على الطريق. لكن ما انتهت اليه "عملية أوسلو" فاجأ الكثيرين في المعسكرين العربي والاسرائيلي. انه "الانقلاب الكبير" على حد قول مصدر ديبلوماسي عربي ل "الوسط". ويضيف الديبلوماسي ان لا شيء بعد خيار "غزة - أريحا أولاً" سيشبه ما كان عليه قبله، ذلك ان الاختراق تم هذه المرة في العقدة الفلسطينية، أي في جوهر النزاع. ويرى ان التجاذب الذي عاشته القيادة الفلسطينية في الأيام الأخيرة كان بفعل ساعة الاستحقاقات التي يتوقع ان تسفر عن تمزق مماثل في المعسكر الاسرائيلي أيضاً. أطلق خيار "غزة - أريحا أولاً" سلسلة من التساؤلات وحركة مشاورات خصوصاً أنه جاء عشية الجولة الحادية عشرة من المفاوضات الثنائية التي كان مقدراً لها أن تحقق تقدماً ملموساً على مسارات أخرى أيضاً. فوجئ الأردن ب "رزمة القرارات السرية" التي انتجتها المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية وكان أول الرد عتب على المنظمة تبعته قمة أردنية - سورية في دمشق التي فوجئت هي الأخرى بذهاب المنظمة بعيداً. وتخوفت عمان من الاعباء المحتملة للخيار الجديد فاختارت رفع درجة التنسيق مع دمشق. وخشيت بيروت من انطلاق حرب المسارات داخل معسكر التفاوض العربي وان تكون "الساحة اللبنانية" مسرحاً لهذه الحرب. وسارع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للقاء الرئيس حسني مبارك الذي اتصل بالرئيس حافظ الأسد لتبريد موقف سورية من خيار يحمل "البصمات المصرية". خلط خيار "غزة - أريحا أولاً" الاوراق. فبعده لن يبقى مبرر للقطيعة بين الولاياتالمتحدة ومنظمة التحرير. وفي ضوء الموقف النهائي منه سترتسم صورة جديدة للعلاقات العربية - العربية سواء ادى الى حرب مسارات او الى سباق بين المسارات، خصوصاً اذا اختارت واشنطن قيادة عملية تسويقة مع توزيع ما يلزم من الضمانات على الجبهات الاخرى. لم يزل من المبكر الحديث عن انعكاسات "الانقلاب الكبير" وهل يمهد لاستعجال الاختراق على الجبهات الأخرى، خصوصاً بعدما ألقت إدارة كلينتون بثقلها في عملية دعمه، وهو انجاز ملموس لها، أم ان حرب المسارات ستربك قطار مدريد وستدخل تغييراً على أولوياته. وبديهي ان تشهد المرحلة الأولى عملية تقويم تمهيداً لاعادة تجميع الأوراق وحصر الخسائر والأرباح. والسؤال الكبير: ماذا ستفعل دمشق وتالياً بيروت ومعهما عمان، خصوصاً إذا بدا ان ممارسة المنظمة استقلال القرار ستصل الى حدود الطلاق بين المسارات؟ وفي انتظار ذلك تسابق المراسلون الى أريحا التي كانت تكتفي سابقاً بالسياح الباحثين عن شتائها الدافئ والى غزة التي كانت أول الحجارة وها هي تبدو أول التسوية... طبعاً مع اسئلة كثيرة عن "حماس" وفلسطينيي الخارج والداخل! "انعطاف كبير"، "اختراق تاريخي"، "اهم حدث منذ انشاء دولة اسرائيل"، "مشروع شمعون بيريز يدخل الشرق الاوسط في عصر جديد"، "وثيقة اوسلو قاعدة السلام في المنطقة"، الخ... هذه بعض العبارات التي انهالت لتصف تطورات المنطقة في الايام الاخيرة. ففي الوقت الذي كانت الوفود المفاوضة تتوجه الى واشنطن لتبدأ الجولة الحادية عشرة كان كل شيء انتهى، او كاد، على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي، وكان بعض اعضاء هذه الوفود، مثل الزوج المخدوع، آخر من يعلم. يوم الجمعة 20 آب اغسطس الماضي جرى التوقيع في اوسلو على وثائق الحل الفلسطيني - الاسرائيلي. حضر عن الجانب الاول احمد قريع ابو علاء وعن الجانب الثاني شمعون بيريز واشرف ديبلوماسيون سويديون على التبادل الرسمي للاتفاق ممهوراً بالاحرف الاولى للرجلين. يومها استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ولحقه، بعد ساعات، شفيق الحوت الذي علق عضويته مما اوحى ان المنظمة متجهة نحو ازمة خطيرة ناجمة عن توجهها السياسي الجديد وعن سوء ادارة قيادتها للمأزق المالي. دفعت الايام التالية الامور في اتجاهات مختلفة. فلقد تبين ان التوقيع هو جزء من خطة عامة وتفصيلية مرسومة بدقة. تسويق الاتفاق على الجبهة الفلسطينية توجه محمود عباس ابو مازن الى موسكو لاطلاع المسؤولين الروس على مضمون الاتفاق، وحضر للغاية نفسها الى باريس ياسر عبدربه. اما فاروق القدومي ابو اللطف فتوجه الى بيروت لحضور اجتماع وزراء خارجية "دول الطوق" من غير ان يكون ملماً بتفاصيل ما تم الاتفاق عليه وهو الامر الذي يفسر "سوء ادائه" في الاجتماع المذكور. على الجبهة الاسرائيلية انطلق شمعون بيريز الى الولاياتالمتحدة في زيارة سرية دامت اربعة ايام ولم يعلن عنها الا في اليومين الاخيرين. كان الاميركيون في جو ما يدور على صعيد المفاوضات السرية بين المسؤولين الاسرائيليين والقياديين في منظمة التحرير غير انهم لم يتوقعوا التوصل الى اتفاق بهذه السرعة وبهذه التفاصيل. لم ينجح بيريز في اقناع كبار المسؤولين الاميركيين فحسب بل توصل معهم الى صيغة لاخراج الموضوع برمته في الجولة الحادية عشرة. وتقول معلومات "الوسط" في هذا المجال ان توافقاً حصل بين الطرفين على الصيغة التالية: يتبنى الجانب الاميركي مشروع الاتفاق ويقترحه بصفته مبادرة منه، يصدر بيان فلسطيني عن منظمة التحرير يتضمن الموافقة على المبادرة الاميركية، ويستعيد اعلان التخلي عن الارهاب، ويبدي الاستعداد لوضع حد لاعمال العنف اي لوقف الانتفاضة ولتطوير ما سبق لياسر عرفات ان اعلنه من موقف حيال "الميثاق الوطني" من انه "متقادم" وملغى. وبناء على هذا تعلن اسرائيل اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية واستعدادها لاستمرار التفاوض معها. واذا سار كل شيء كما هو متوقع يفترض ان ينضم فاروق القدومي او محمود عباس في حال تمنع ابو اللطف تحت ضغوط سورية الى الوفد الاردني - الفلسطيني الذي يعود الى الالتئام مرة واحدة. ويتوج هذا كله باحتفال كبير في واشنطن يجري في خلاله التوقيع على الاتفاق وملاحقه بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. مع حصول ابو مازن وبيريز على موافقة راعيي المؤتمر عاد كل واحد منهما الى "جماعته" لاستصدار موقف ايجابي. تونس ... الغموض المقصود عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير اجتماعاتها حضر الوفد المفاوض جانباً منها فقط التي كان يتوقع لها ان تكون عاصفة وان تشهد سلسلة استقالات تجمد العملية كلها. غير ان شيئاً من ذلك لم يحصل. ويقول عضو بارز في اللجنة حضر هذه الاجتماعات "ان الهدوء سببه الجهل". واستمع اعضاء اللجنة التنفيذية الى العضو المستقيل محمود دوريش وهو يشرح الاسباب التي دفعته الى هذه الخطوة. قدم مطالعة طويلة حول المخاطر التي يتضمنها اتفاق "غزة - اريحا اولاً" وانهاها بطرح عشرين سؤالاً عن المشروع وتطبيقه وآلياته وثغراته والتأثيرات السلبية التي قد يتركها على الوضع النهائي للارض الفلسطينية المحتلة والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. ويذكر عضو قيادي ان العرض الذي قدمه درويش كان مناسبة اولى اطلع فيها اعضاء اللجنة التنفيذية على ما هو متفق عليه مع الاسرائيليين. ورد الرئيس عرفات على مداخلة درويش متجنباً قدر الامكان اعطاء تفاصيل وممتنعاً عن القول ان الاتفاق انجز. وتحدث عن "اختراق فلسطيني وعن انسحاب اسرائيلي معروض علينا وعن شروط لقبول ذلك" خاتماً بابداء الاستغراب لهذا العرض الاسرائيلي ومعرباً عن شكوكه في ان يستمر الطرف الآخر في الالحاح عليه. ويعتقد احد الذين شاركوا في المداولات انها "لم تكن لا جدية ولا صريحة وان القيادة الفلسطينية واعضاء الوفد لم يعرفوا الكثير مما هو مطبوخ. بالتالي لم يكن ثمة داع للتصويت واتخاذ قرار واضح" لا بل ان احد ممثلي الفصائل في اللجنة التنفيذية صارح زملاءه بانه "غير جاهز لهذا النقاش" لانه، ببساطة، غير مطلع على شيء ولأن الهيئات المسؤولة لتنظيمه لم تناقش الامر بتاتاً. تفكيك المنظمة مرت العاصفة ضمن اللجنة التنفيذية واكتُفي بما جرى واعتباره بمثابة ضوء اخضر للاستمرار في النهج نفسه. ويذكر احد المطلعين على تفاصيل المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية ان القيادة ومعها الوفد او معظم اعضائه لم تكن تجهل تفاصيل الاتفاق فحسب بل، ايضاً، عددا من القضايا الجانبية التي باتت محسومة ومنها على سبيل المثال: 1 - ان الشكل السياسي الجديد الذي ستتخذه منظمة التحرير في الاراضي المحتلة هو شكل "حزب سياسي". وينظر الاسرائيليون بعين الرضى الى تفكيك وجود المنظمة في الخارج واضعافها وانهاء بنيتها. ولعل هذا هو سبب اقتراح تشكيل لجنة فلسطينية تتولى "تصفية املاك المنظمة وموجوداتها". 2 - يوافق الاسرائيليون على قدوم عرفات واستقراره في اريحا وتنقله بينها وبين غزة في "خط مرور آمن" يبقى تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي. الى ذلك يحق لعرفات ان يقترح ولاسرائيل ان توافق اسماء اعضاء قياديين آخرين، محدودي العدد، يتمتعون بهذا الحق. 3 - يعلن لاحقاً تأسيس لجنة اسرائيلية - فلسطينية مشتركة تطلب مساعدات من اوروبا واليابان والولاياتالمتحدة وتحض "المجتمع الدولي" على تحمل قسم من اعباء السلام. ولعل مشاركة ابو علاء في التوقيع على الاتفاق مع بيريز تشير الى "الطابع الاقتصادي" للاتفاق. وهناك من يقول ان الاردن كان يملك اسباباً كثيرة للاستياء مما جرى وقد اضيف اليها سبب اقتصادي مصدره حرمان المملكة من ان تكون ممراً للمساعدات المقدمة الى الضفة الغربية وقطاع غزة. ما ان تم "تمرير" الاتفاق فلسطينياً، وبالطريقة المشار اليها، حتى اجتمعت الحكومة الاسرائيلية واقرته لتتعرض بعد ذلك لهجمة شرسة ومنسقة من اليمين والمستوطنين. حصلت هذه التطورات قبل يوم واحد من افتتاح الجولة الحادية عشرة في واشنطن بما اوحى سلفا انها ستكون جولة مثمرة. جولة اريحا وتقتضي الامانة القول بأن المرحلة الفاصلة بين جولتين كانت، هذه المرة، حافلة باحداث دراماتيكية. ولم تكن وقتاً ضائعاً. لقد حصل العدوان الاسرائيلي على لبنان. كانت له استهدافات كثيرة فشل في بعضها ونجح في البعض الآخر. لقد سقط في محاولة احداث فصل بين المسارين اللبناني والسوري. فبعدما بدا ان هذا الفصل ممكن مع اتخاذ الحكومة اللبنانية قرارها بنشر الجيش في منطقة عمل القوات الدولية ادى التدخل السريع لدمشق الى تطويق هذه الخطوة وانهى مفاعيلها في القمة السورية - اللبنانية الموسعة التي عقدت بعد ذلك وشهدت "عتاباً" شديد اللهجة من دمشق للمسؤولين اللبنانيين. ومن نتائج هذا "العتاب" ان حكام بيروت رفضوا التعاطي، وبأي شكل من الاشكال، مع العرض الاسرائيلي الاخير: تجريد "حزب الله" من السلاح، ضم الجنود الموالين لقائد "جيش لبنان الجنوبي" اللواء انطوان لحد الى الجيش اللبناني، فترة اختبار من ستة الى تسعة اشهر يصار بعدها الى البحث في برمجة الانسحاب الاسرائيلي. لقد تصرف الجانب اللبناني حيال هذا الاقتراح انطلاقاً من "استيعابه" دروس الاقدام على ارسال الجيش الى الجنوب بالتنسيق مع الاميركيين ومن دون استشارة دمشق. ويمكن القول، تأسيساً على ذلك، ان الملف اللبناني في المفاوضات قد اصبح ملحقاً، بالكامل، بالملف السوري. غير ان الاعتداء الاسرائيلي على لبنان نجح في ايصال رسالة الى دمشق مؤداها انها مطالبة ب "كف يدها" نهائياً في المجال الفلسطيني. ولقد بات معروفاً، اليوم، ان القصف على لبنان حصل في عز المفاوضات السرية بين الفلسطينيين والاسرائيليين مما يعطيه معنى سياسياً واضحاً. مدريد تلفظ انفاسها؟ سيكون واضحاً في الجولة الحادية عشرة ان "صيغة مدريد"، المحتضرة اصلاً، تلفظ انفاسها الاخيرة، وربما جرى الاعلان عن موتها "البيولوجي". تقضي هذه الصيغة بفصل المسار اللبناني عن المسار السوري وتوحيد المسارين الاردنيوالفلسطيني. والحاصل ان المسارين الاولين اتحدا في حين انفصل الآخران. وتقضي هذه الصيغة باستبعاد منظمة التحرير في حين ان المنظمة هي التي فاوضت وستكون حاضرة في "الاحتفال الختامي". وتقضي هذه الصيغة بتطبيق حكم ذاتي مرحلي لخمس سنوات على كامل الضفة والقطاع تمهيداً للبحث في الحل النهائي اما الاتفاق الذي جرى التوصل اليه فيعزل "غزة واريحا" عن ذلك ليطبق في المنطقتين سلطة هي "اكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة" على حد قول احد الوزراء الاسرائيليين. واخيراً لم تكن واشنطن "شريكاً كاملاً في المفاوضات طالما انه جرى ابلاغها بما تم التوصل اليه فوافقت وكان الابلاغ والموافقة ضروريين من اجل الحصول على ضمانات سياسية وامنية واقتصادية. بصمات بيريز الى ذلك خرج بيريز بصفته المنتصر الاكبر في الجانب الاسرائيلي. لقد فاوض بالاصالة عن نفسه وبالنيابة عن رئيس الوزراء اسحق رابين. وتقول الصحف العبرية انه لم يطلع احد غير رابين على النتائج الى حد ان المحيطين برئيس الوزراء الاسرائيلي استمروا يشككون حتى اللحظة الاخيرة. بصمات بيريز على الاتفاق واضحة في غير مجال. انه، مثلاً، صاحب اقتراح اشراك السويد في المفاوضات. فرابين اسير لعلاقاته مع الاميركيين ولم يكن ممكناً ان يخطر في باله "اقحام" اي طرف آخر. وبيريز هو الداعي، مع جناحه في حزب "العمل" الى التفاوض مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا ما حصل. لقد دافع وزير الخارجية الاسرائيلي عن الفكرة القائلة بان الوفد المفاوض، من الجانب الفلسطيني، لن يقدم شيئاً وبان تصلبه في المفاوضات مرده الى الضغوطات التي تمارس عليه من تونس. وأدرك، بناء على ذلك، ان القيادة الفلسطينية هي التي يمكنها، وحدها، ان تتنازل في المضمون اذا تنازلت لها اسرائيل في الشكل. وينقل عنه انه كان يردد باستمرار رأيا يخالف ما هو شائع: "اذا اردنا الخلاص من فكرة الدولة الفلسطينية فعلينا التفاوض، مباشرة، مع منظمة التحرير". والواضح ان رابين بقي، عن قصد، على هامش المفاوضات المباشرة حتى لا يتحمل مسؤولية فشلها اذا فشلت وحتى يستطيع التدخل من اجل تعديلها في حال قادها "صديقه اللدود" بيريز الى حيث لا تلبي تماماً الشروط الاسرائيلية. لقد خرج بيريز منتصراً وسوف يكون اسمه مرتبطاً ب "وثيقة اوسلو". ومن المبكر، حالياً، التبصر في هذا الامر ونتائجه على الحياة السياسية الداخلية في اسرائيل. توظيف الازمة المالية مع بدء توارد الانباء عن الحل الفلسطيني - الاسرائيلي اتضح جانب من المأزق المالي لمنظمة التحرير. صحيح ان الازمة موجودة، وصحيح ان هناك سوء ادارة. ولكن الاصح ان ياسر عرفات تعمد اتباع سياسة مالية معينة. لقد اخفى الكثير عن القيادة الفلسطينية لانه اتخذ، منذ فترة، قرارات كبرى، لم يعد ينوي الانفاق حيث الانفاق لا يخدم الهدف السياسي المرحلي. ما نفع فلسطينييلبنان؟ ما نفع الجهاز البيروقراطي في تونس؟ ما نفع عدد من المكاتب في الخارج؟ يقول المقربون جداً من الرئيس الفلسطيني انه قرر اعتماد هذه السياسة المالية لانه قرر العودة، ولو منفرداً، الى "ارض فلسطين". وهو يضمن هذه العودة، ونجاحها، في حال اضعف المنظمة في الخارج وتخلى عن فلسطينيي الشتات من اجل صرف ما تبقى من اموال في الضفة والقطاع حيث يفترض انه قد يواجه معارضة متصاعدة. سيخف الحديث، تدريجاً، عن الازمة المالية لأن "أحوال عرفات" ستظهر ولأن ثمة مساعدات ستقدم من اجل تطويق اثار الحل. ولا يعني هذا الا الفلسطينيين المقيمين حيث "السلطة الفلسطينية". ستتطور الاحداث بسرعة في واشنطن. واذا قيّض للسيناريو الذي رسمه بيريز هناك ان يتحقق فان هذه التطورات سوف تقاس بالايام ان لم يكن بالساعات. وليس من المستبعد ان تتدخل واشنطن للفصل بين ضرورة اعلان التوصل الى "حل تاريخي" وبين الابقاء على قدر هائل من التفاصيل لمحادثات لاحقة. لا بل ان نص الاتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين يحيل مسائل لا حصر لها الى هذه المحادثات. ومن نافل القول ان كل شيء بات جاهزاً حتى تكون الجولة الحادية عشرة جولة حاسمة على صعيد المسار الفلسطيني - الاسرائيلي. وفي هذا ما يفتح الباب امام تقدم على سائر الجبهات الاخرى بالرغم من اعتراضات واحتجاجات قد لا تصمد طويلا. لبنان: باب الى اتفاقات أم عودة الى اشتعال "الساحة" وفي بيروت تحلقت الاوساط السياسية اللبنانية لمناقشة ابعاد القرار الفلسطيني بالموافقة على خيار غزة اريحا اولاً. والزاوية التي تحكم تفكير غالبية الاوساط السياسية اللبنانية هي مدى انعكاس هذا القرار على الاوضاع في لبنان. ويمكن القول ان الآراء انقسمت الى وجهتي نظر حيال هذه التطورات. وجهة النظر الاولى تقول ان التوصل الى اتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين هو خطوة هامة على طريق فتح الباب امام توصل المفاوضات الى نتائج ملموسة والى فتح الباب ايضاً امام باقي الاطراف العربية لكي تمضي الى الامام في المفاوضات مع اسرائيل. ومن هذه الوجهة هناك من يعتقد ان كل الاطراف العربية المفاوضة وعلى الاخص سورية سيصبح في امكانها التفاوض والتوصل الى اتفاقات مع اسرائيل بعد ان تمت حلحلة العقدة الفلسطينية وهذا بالتالي سينعكس ايجابا على المسار العام للمفاوضات. اما وجهة النظر الثانية فإنها تقرأ التطورات من منظار آخر هو منظار عودة التوتر والتجاذب على الساحة اللبنانية والسبب في ذلك ان الملامح وردود الفعل الاولى على اتفاق غزة اريحا تظهر وكأنه كان مفاجأة للاطراف العربية وتحديداً سورية اذ ان كل الاجواء والمعلومات التي روجت مؤخراً قالت ان وزير خارجية الولاياتالمتحدة وارن كريستوفر توصل عبر جولته على دول المنطقة وعلى الاخص على المسار السوري - الاسرائيلي الى تفاهم مع الاطراف المعنية وخاصة سورية واسرائيل لترتيب التوصل الى نتائج ايجابية في الجولة الحادية عشرة على مستوى اعلان مشترك للنيات. وبما ان النتيجة كانت الاعلان عن اتفاق غزة اريحا فإن الانطباع السائد ان الامر تم من وراء ظهر سورية ودون معرفتها علماً ان الموقف السوري هو ان الاتفاق يتم مع الجميع وعلى اسس واضحة. ويذهب بعضهم في قراءة مفادها ان الولاياتالمتحدة اوحت لسورية بتغير في الموقف الاسرائيلي تجاه مرتفعات الجولان فيما كانت ترعى بالسر الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي في اوسلو. ويشير بعض المصادر الى ان التجربة تتكرر مع سورية للمرة الثانية، فقبل اتفاق كامب ديفيد كانت الولاياتالمتحدة تعمل لترتيب حل النزاع العربي - الاسرائيلي عبر مؤتمر دولي وبمشاركة كل الاطراف لتفاجأ سورية بالاتفاق بين مصر واسرائيل والذي ادى الى معاهدة سلام منفردة. "الساحة" اللبنانية مجدداً لذلك تشير هذه المصادر السياسية الى ان ما يحدث الآن قد يكون مشابهاً لما حدث قبل ذلك وهذا ما سيدفع سورية الى التوتر والانزعاج. لذلك وامام هذه القراءة فإن المصادر السياسية تتوقع انعكاسات سلبية في لبنان للاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي والسبب بقاء كل عوامل الازمة والاطراف الاقليمية المعنية في لبنان. المصادر السياسية ذاتها تعتبر ان الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي سيحرك النزاعات الفلسطينية في ظل استفحال الازمة المالية وهذا سينعكس على الساحة اللبنانية عبر صراعات داخل المخيمات وخارجها. وتشير الى ان الاطراف الرافضة ومنها ايران ستحاول التعبير عن رفضها في لبنان. ويقول احد الساسة ان توصل الفلسطينيين الى اتفاق مع اسرائيل سيدفع الاخيرة الى المماطلة في المفاوضات مع سورية تحت حجة ان الاتفاق مع منظمة التحرير قد حصل وبالتالي لا داعي للعجلة بالاتفاق مع سورية فلنحاول ان نحسن شروطنا معها طالما وافقت منظمة التحرير على خيار غزة واريحا. باختصار فإن وجهة النظر المذكورة تميل الى الاعتقاد ان لبنان سيكون مجدداً ساحة لتبادل التجاذب والتوتر وانه قد يدفع جزءاً من الاثمان سواء في اتفاق الفلسطينيين مع اسرائيل او العكس وحسب اعتقاد هؤلاء ان الاجوبة لن تتأخر في الوصول رداً على كل الاسئلة. دمشق تسأل عن الضمانات وتعارض أسلوب "التقسيط" وفي دمشق، على رغم توافر معلومات سابقة عن لقاءات فلسطينية - اسرائيلية، فإن المعلومات التي تلقاها الجانب السوري من المنظمة بقيت محصورة في ان خيار "غزة - أريحا أولاً" هو مجرد فكرة وان الجانب الفلسطيني يتمسك بالربط بين المرحلتين الانتقالية والنهائية لضمان التزامن بين المسارات وتحقيق الحل الشامل. والموقف السوري العام من غزة - أريحا، كما شرحته مصادر مطلعة، مبني على ثلاث نقاط: الأولى، ان سورية تؤيد كل ما يراه الشعب الفلسطيني يحقق آماله وأهدافه. الثانية، ان سورية تعتبر ان كل انجاز حقيقي في أي مسار تفاوضي يساهم في المسارات الأخرى. الثالثة، ان سورية متمسكة بالحل الشامل على أساس الانسحاب الاسرائيلي الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة. وتطور الموقف السوري من قضية مرحلية الحل في المسار الفلسطيني من الاصرار على مساواته مع باقي المسارات، أي البحث في المرحلة النهائية مباشرة الى قبول بالمرحلتين شرط وجود ربط واضح بينهما يطمئن الفلسطينيين الى القضايا الرئيسية مثل القدس والسيادة والاستيطان. والهدف من وراء ذلك هو ان يبقى الاطار الزمني والمرجعية القانونية للتسوية الشاملة واحدة ويعزز الموقف العربي التفاوضي. اما الآن فإن المرحلتين تحولتا الى ثلاث مراحل ويشكل ذلك ضربة للتنسيق العربي لا بد من العمل على احتوائها وتجاوزها. تساؤلات سورية إضافة الى ذلك فإن الموقف السوري ينحصر حتى الآن، استناداً الى المصادر نفسها، بطرح تساؤلات عن النقاط التي نص عليها مشروع الاتفاق وضمانات الحقوق العربية في القدس وحق السيادة وقد تركت هذه القضايا للمرحلة النهائية من دون أي تلميح الى اتجاه تسويتها في هذه المرحلة على رغم الاشارة الى أن هذه المفاوضات ستؤدي الى تطبيق القرارين 242 و338. اضافة الى ان كلمة سيادة لم تظهر في مشروع الاتفاق اطلاقاً. وكانت سورية تدعم الموقف الفلسطيني المتمسك بالربط الواضح بين المرحلتين وعدم القبول بالنقل المبكر للسلطات، لكن قراءة أولية لمشروع الاتفاق تشير الى ان الجانب الفلسطيني قبل بتقسيم المرحلة الانتقالية الى اثنتين وفي الوقت نفسه قبل بنقل السلطات المبكر على رغم ما أكدته الدكتورة حنان عشراوي من أن مشروع غزة - أريحا أولاً هو رد فلسطيني على مشروع نقل السلطات المبكر الذي طرحه الجانب الأميركي سابقاً. مع ذلك فإن الأوساط السورية تؤكد التزام دمشق استعادة الأراضي العربية المحتلة كاملة بما فيها القدس، وعبرت عن رفضها "تقسيط الانسحاب واستعادة الحقوق". الاتفاق والمسارات الأخرى ومن الأسئلة التي يثيرها الاتفاق على غزة - أريحا واعلان المبادئ المشترك هو تأثيره في الاطار الزمني لباقي المسارات فهل المطلوب ان تنتظر سورية ولبنان حتى الانسحاب من غزة وأريحا أولاً ثم انتهاء مفاوضات المرحلة النهائية التي تبدأ بعد خمس سنوات من انتهاء الانسحاب من غزة وأريحا. ومع ذلك فإن الاوساط السورية تقول: "نحن ملتزمون موقفنا القومي ولا نحمل فقط الهم السوري بل الهم الفلسطينيواللبناني والعربي". وتشدد على ان معادلة السلام الكامل في مقابل الانسحاب الكامل تتحدث عن كل الأراضي العربية المحتلة وليس السورية فقط. وتقول في الوقت نفسه ان سورية لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين وسيكون لرد فعل الشعب الفلسطيني دور كبير في رسم المواقف العربية من الاتفاق الاسرائيلي - الفلسطيني. وتتوقع سورية ان تزداد الضغوط عليها لتوضيح موقفها من السلام الكامل بعد الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي وهو ما لمحت اليه وسائل الاعلام الأميركية. الأردن يرد على الصدمة بالتنسيق بالتنسيق الكامل مع سورية وفي عمان، يشعر المسؤولون الأردنيون بالصدمة تجاه موقف منظمة التحرير الفلسطينية المفاجئ من المفاوضات وكشف "رزمة القرارات السرية" التي اعدت بينها وبين اسرائيل، ويبدو ان العلاقات بين الأردن والمنظمة تدهورت، بل اصبحت مرشحة لمزيد من التدهور. وشرح سياسي اردني ل"الوسط" اسباب الصدمة الاردنية من "التصرفات" الفلسطينية الأخيرة بقوله ان خيار "غزة - أريحا اولاً" وموافقة المنظمة عليه لم يكن جوهر المشكلة، لكنه جاء ضمن "رزمة" قرارات منها مسألة الاعتراف المتبادل بين المنظمة واسرائيل ومنها ايضاً مسودات اتفاقات اخرى جاهزة للتوقيع. وقال السياسي المقرب من الحكم الاردني والذي تربطه علاقة وثيقة بالرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ان كل ذلك حدث في صورة سرية من دون علم الاردن وعلى رغم اشتراك الفلسطنيين مع الادرن في وفد مفاوض واحد. واضاف ان الاخطر من كل ذلك ان الاميركيين وهم الراعي الاساسي للمفاوضات كانوا شركاء في "اللعبة" ،مع ذلك لم يخبروا عمان بشيء مما كان يجري طوال الاشهر السابقة. ولذلك فإن العتب الاردني لم يكن على المنظمة وحدها بل رافقته ايضاً شكوك في الموقف الاميركي من المملكة. وقارن بين الموقفين السوري والأردني مما يجري، فأشار الى ان مشكلة السوريين تكمن في شعورهم بتجاهل المنظمة لهم وعدم استشارتهم في الأمر، اما بالنسبة الى الأردن فإن المشكلة تتجاوز غياب التنسيق لأن الحلول المطروحة تمس الأردن بشكل مباشر. وضرب السياسي الأردني مثلاً على ذلك مشيراً الى الاعباء السكانية والأمنية التي ستترتب على الاردن من جراء تطبيق الحكم الذاتي في أريحا وامكان حصر دخول الفلسطينيينالأردن وخروجهم منه، وخصوصاً ابناء قطاع غزة. الكونفيديرالية الأخرى ولاحظ السياسي الأردني ان العتب السوري مختلف ايضاً لأن السوريين بريدون حدوث تقدم على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي للمضي قدماً في المسار السوري - الاسرائيلي والتوصل الى اتفاق كشرط ضروري "لحصة الأسد" وهي الكونفيديرالية السورية - اللبنانية التي تطبخ على نار هاءئة اذ تسعى دمشق الى تشكيل مجلس رئاسة مشترك عين امينه العام اخيراً، لكن الكونفيديرالية السورية - اللبنانية لن تتم عملياً قبل الاتفاق مع اسرائيل على الجولان. وخلص الى القول ان اخطر ما في الاتفاقات بين المنظمة واسرائيل هي سريتها لأن القرارات ستتلاحق على ما يبدو وستشمل كل الميادين. اما العتب الذي لم يبده الأردن ولا سورية حتى الآن فهو تجاه مصر ذات "البصمات الواضحة" على الاتفاقات كما اعلن ذلك صراحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وعلى أي حال فإن الأردن وسورية اصبحنا تحت الأضواء من جديد لمعرفة طريقة تعاملهما مع الاتفاق الفلسطينين - الاسرائيلي خصوصا بعد تصريحات السيدين فاروق الشرق وزير الخارجية السوري وطلال الحسن وزير الدولة للشؤون الخارجية الأردني في دمشق على هامش الاجتماع التنسيقي لوزراء خارجية دول الطوق استعداداً لجولة المفاوضات الثنائية الحادية عشرة حيث اعتبر الوزيران ان التنسيق العربي دون المستوى المطلوب، في احتجاج واضح على المنظمة. وأشارا الى ان الايضاحات التي قدمها فاروق قدومي رئيس الدائرة السياسية في المنظمة عن خيار غزة - أريحا أولاً "غير كافية". بدايات الرد الأردني وفي أول رد فعل أردني غير مباشر على الموضوع امر العاهل الاردني رئيس حكومته باعادة صنع منبر صلاح الدين في المسجد الاقصى فوراً من خلال رسالة مفتوحة بثت في كل وسائل الاعلام الأردنية. ويعتقد مراقبون ان الملك حسين أراد توجيه رسالة الى المنظمة انه متمسك بالقدس حتى وان تخلت المنظمة عنها. وفي اليوم نفسه اجرى الملك حسين اتصالاً هاتفياً طويلاً مع الرئيس السوري حافظ الأسد تبادلاً فيه وجهات النظر في التطورات الجديدة. ويبدو ان الرئيس الفلسطيني أدرك أبعاد الموقفين الاردني والسوري فاتصل هاتفياً في اليوم التالي بالملك حسين. ولم يكتف العاهل الأردني بذلك زار دمشق الثلثاء الماضي 31 آب/ اغسطس وعقد اجتماعاً طويلاً مغلقاً مع الرئيس حافظ الأسد اعقبه اجتماع موسع ضم كبار المسؤولين في البلدين اللذين اعلنا رسمياً انهما فوجئا بالاتفاق الاسرائيلي - الفلسطيني. والمفارقة الغريبة هي ان الاردن علم بالاتفاقات السرية بين المنظمة واسرائيل عقب زيارة عرفات للأردن التي ترأس خلالها الجانب الفلسطيني في اللجنة العليا المشتركة للتنسيق بين الطرفين والتي تضم ست لجان فرعية. وكان العاهل الأردني كشف قبل نحو أربعة اشهر ان المنظمة لم تستجب مراراً لدعوات الأردن الى التنسيق في كل الشؤون السياسية والاقتصادية الخاصة بالمفاوضات، وأسفر الحاحه لاحقاً عن تشكيل اللجنة العليا واللجان الست الفرعية. وزاد من قلق الأردن ان منظمة التحرير حولت من حسابها في البنك العربي في عمان مبلغاً ضخماً رجحت مصادر مطلعة انه بلغ 750 مليون دولار الى احد البنوك المصرية لتحويله من هناك الى قطاع غزة. عموماً، ان الاردن قلق من الاتفاقات الفلسطينية - الاسرائيلية لانها سترتب اعباء كبيرة عليه من دون ان يكون له رأي في هذه الاتفاقات. ومع كل ذلك اعلنت وكالة الانباء الأردنية الرسمية ان الملك حسين ابلغ الرئيس الفلسطيني خلال اتصاله الهاتفي الأخير دعم الأردن "القرار الفلسطيني المستقل".